Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيرج ليفار الذي أعاد لفن الرقص اعتباره بين إيكار والابن الضال

خاض آخر مبارزة حقيقية في فرنسا انتهت بالدموع والعناق

راقص الباليه الأوكراني الأصل سيرج ليفار  (غيتي)

ربما تكون المبارزة بالسيف التي تجابه فيها راقص الباليه الأوكراني الأصل سيرج ليفار وزميله الفنان جورج دي كويفاس عند أواسط القرن العشرين وفي إحدى الغابات غير البعيدة من باريس، آخر مبارزة شهدتها فرنسا خارقة القانون الذي يحظر القيام بالمبارزات منذ أواخر القرن الثامن عشر.

ولئن كان التبارز قد انتهى يومها على خير بتراجع الطرفين والعناق والدموع، فإن الصحافة العالمية ظلت وقراؤها على ظمأ لمعرفة السبب الحقيقي الكامن خلفها. فالحقيقة أن أحداً لم يصدق يومها السبب المعلن وهو الخلاف على ملكية باليه عنوانه "متتابعة باللون الأبيض" بين ليفار الخمسيني عند ذاك، وزميله. وكان من الضروري لأولئك انتظار إصدار الفنان الأوكراني بعد ذلك بسنوات كتابه المعنون "مانيفستو الرقص" لكي يدركوا خلفية تلك الحادثة الفريدة في عالم الرقص.

قواعد صارمة لفن غريب

في الكتاب، حدد ليفار أسساً للعلاقة بين الباليه كفنّ قائم في ذاته وليس كمجرّد "رقص" ملحق بأي استعراض آخر. وكان الكتاب كله نوعاً من نص يتوخى إعادة الاعتبار للباليه. وكتب، "صحيح أن ليس في مقدورنا أن نرقص كل شيء، ويتوجب على الباليه أن يكون على الدوام مرتبطاً بفن الرقص نفسه من دون أن يعدّ تعبيراً عن أي فن آخر. بالتالي لا ينبغي له أن يستعير تشكله الإيقاعي من الموسيقى المصاحبة له. فهو ليس تابعاً للموسيقى ولا عبداً لها. وحين يحدث أن يكون الباليه مرتبطاً عضوياً بالموسيقى، يتوجب أن يكون مصمم الرقص لا الموسيقي هو من يفرض الإيقاع".

ويقيناً أننا حين نجد أنفسنا أمام هذه القواعد الصارمة لبناء العلاقة بين الباليه والموسيقى، يصبح في إمكاننا أن نسبر غور الأسباب الحقيقية التي ربما تكون هي التي وقفت في خلفية تلك المبارزة العجيبة. يمكننا أن نفهم كيف أن هذا الفنان المنسجم مع نفسه أصرّ دائماً على الدفاع عن كرامة فن آمن به بشكل غريب. وهو  نفس ما يمكننا أن نتلمسه على أي حال في كتابات أخرى لليفار، الذي كان واحداً من قلة من راقصين ومصممي رقص تركوا كتابات تشرح أعمالهم ومواقفهم.

وكتابة ليفار ممتعة كرقصه، هو الذي سار على خطى أستاذه وصديقه نيجنسكي. وفي إطار مرحلة الباليهات الروسية، التي وضع ليفار أيضاً كتاباً في سيرة دياغيليف يورد تفاصيل بديعة حول السنوات الست، 1923 – 1929، التي عمل خلالها مع هذا المؤسس الكبير لتلك الباليهات، بدءًا بدور روميو في عمل من توقيع جورج بالانشاين كانت فيه جولييت (تامارا كارسافينا) تكبره بـ26 سنة، أبدع لا سيما في باريس نحو نصف دزينة من عروض كانت البطولة فيها ذكورية وليس أنثوية كما اعتاد الحال أن يكون في هذا النوع من الفن. وكان من الطبيعي لليفار أن يُعرّف في الموسوعات وكتب تاريخ الباليه كمنظّر فريد من نوعه في هذا المجال.

ومن البديهي القول هنا إن ليفار أغنانا في مئات الصفحات التي كتبها وقدّم فيها صورة ترسم بشكل بديع تطور فن الباليه "الرجالي" في القرن العشرين، من نيجنسكي الى نورييف مروراً به هو شخصياً، أغنانا عن الإسهاب في البحث مُقدِّماً لنا شخصيات تعبق بالحياة، وفناً كانت له هو نفسه اليد الطولى في بعثه من سبات عميق.

صيحة في عالم جديد

قبل ليفار كان عالم الباليه يعيش اطمئناناً مدهشاً إلى إنجازاته التي كانت جعلت منه طوال عقود من السنين فناً مستقراً ومعترفاً به، ومرتبطاً بشكل أساس بالموسيقى. وكانت آخر ثورة أو صيحة في عالم التجديد في فن الباليه، قد برزت قبل ذلك بعقدين على الأقل حين اكتشفت أوروبا، وباريس أولاً، ما سمّي يومها بـ"الباليه الروسي" الذي حمله إلى أوروبا الغربية راقصون ومصممو رقصات وموسيقيون، وضخ دماً جديداً حقيقياً في عالم رقص، كانت الكلاسيكية مسيطرة عليه وقادرة على استيعاب أي تجديد سطحي يطرأ عليه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بالنسبة إلى أهل المهنة وجمهورهم، كان من العسير على فن الباليه أن يعرف ثورة جديدة بعد ثورة "الباليه الروسي"، ومع هذا قرر سيرج ليفار أن يخوض المغامرة وأن يجرب حظه في التجديد، وكان ذلك في 1935 حين صمم باليه بعنوان "إيكار"، قام هو بالدور الرئيس فيه وحمل من التجديد ما فاجأ أهل المهنة والجمهور. وكان التجديد الأساسي يكمن في أن ليفار صمم رقصته وخطواتها من دون أن يسبق ذلك وضع أي موسيقى لها، بمعنى أن الموسيقى أتت لاحقاً لتترجم الخطوات الراقصة. بل حين أتت الموسيقى، جاءت إيقاعية لا أكثر، تؤديها فقط آلات الإيقاع وخالية من أي جمل لحنية. وهو ما سيكرره في باليهين تاليين لاثنين من عباقرة الموسيقى في زمنه: سترافنسكي باليه "نشيد" وبروكوفييف "الابن الضال". مثل هذا النمط الفني يبدو في أيامنا هذه عادياً، وقد يبدو أحياناً وكأنه النمط الرئيس الذي يقوم عليه الرقص الحديث، لكنه في ذلك الحين كان ثورة راديكالية.

وسيرج ليفار نفسه كان، على أي حال، ثورياً راديكالياً في عالم الرقص، حتى إن كان في الأساس منتمياً إلى "الباليه الروسي"، الذي أتى من مسقط رأسه كييف، وكان لا يزال يافعاً لينضم إليه بعدما اكتشفه دياغيليف، سيد "الباليه الروسي" واكتشف إمكانياته كراقص، أولاً، ثم كمصمم رقص بعد ذلك.

عودة البطولة إلى الرجال

ولد ليفار في كييف في 1905، وبارح موطنه مبكراً، فتوجّه الى باريس ليصبح بسرعة مصمماً وراقصاً أولاً في "باليه وأوبرا باريس" اعتباراً من 1925، بعدما كان قبل كل ذلك قد تتلمذ على الراقص الشهير إنريكو تشيكيتي.

أما الدور الأشهر في بدايات سيرج ليفار، فكان في "روميو وجولييت" لجورج بالانشاين، وهو الدور الذي تمكن من أن يفرض حضور الراقص الذكر كبطل للباليه، بعدما كانت الباليهات بمعظمها تصمم قبل ذلك انطلاقاً من مركزية الأدوار النسائية فيها. مع ليفار، صار الراقص الذكر بطلاً مطلقاً، لا سيما بعد أن توفي دياغيليف، وأصبح ليفار بصورة أساسية نجم الرقص والتصميم الأول في "أوبرا باريس".

منذ تحرره من سيطرة دياغيليف الروحية عليه، بدأ ليفار يحقق حلمه بأن يكون الرقص لا الموسيقى هو العنصر الأول في العرض. فيما أن الرقص له إيقاعه الخاص به، الإيقاع التشكيلي النابع من حركة الجسد ومن علاقة الجسد بالفضاء الخارج عنه، فإن الرقص يجب أن يقوم على أساس تلك الحركة وذلك الإيقاع، لا انطلاقاً من موسيقى توضع سلفاً. وكانت تجربته الأولى في هذا المجال، كما أسلفنا، في باليه "إيكار".

صحيح أن تلك التجربة كانت ناجحة، وإن بحدود، غير أن ليفار سرعان ما أدرك صعوبة التطرف فيها، ومن هنا عاد إلى نوع من الهدوء، وصار يزاوج بين أولوية الرقص وضرورة الموسيقى بشكل خلاق، ومن هنا عرفت أعماله التي أربت على الخمسين عرضاً، نوعاً من التوازن بين الرقص والموسيقى، أكسبها شهرة واحتراماً وجعل ليفار واحداً من أبرز العاملين في فن الباليه عند أواسط قرننا العشرين هذا.

انطلق ليفار في معظم أعماله من الأساطير اليونانية ومن الحكايات الشعبية، وكان أشهرها "بروميثيوس" (1929) و"انتصار داود" (1936) و"الفارس والآنسة" (1941) و"فيدرا" (1950). وحكاية ليفار كان من شأنها أن تكون حكاية نجاح متواصلة لولا أن الفرنسيين غضبوا منه لأنه "رفّه عن الجنود الألمان خلال الحرب العالمية الثانية"، فأقالوه من مسؤولياته في "أوبرا باريس"، لكنه عاد في 1947 وواصل عمله حتى 1958 حين بدأ يقدم أعماله في شتى أنحاء العالم، في أمستردام وبرلين، في ميلانو ولندن، وراح يكتب مذكراته، وتقاعد في آخر أيامه إلى أن رحل عن عالمنا في 15 ديسمبر (كانون الأول) عام 1986.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة