Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بين الحقيقة والاقتباس: أفلام الموساد "البطولية" تبيّض صورة إسرائيل

بصمات عملاء إسرائيل السابقين في "هوليوود، وآبل تي في" وغيرها تكشف أيادي تل أبيب الخفية في تضليل العالم "

بعد عقود من هيمنة إسرائيل على فلسطين، لا يبدو أن الدولة العبرية تكتفي بذلك. فهي إلى جانب نقل معركتها إلى دول مثل سوريا ولبنان وإيران، تخوض حرباً أخرى لإضفاء "الهالة السينمائية" على جهازها الأمني "الموساد"، ليغدو في أذهان مشاهدي منتجات "هوليوود، ونتفليكس" على سبيل المثال، عدواً لا يقهر، كما تريده تل أبيب. وهي بذلك تحذو خطى أميركا وبريطانيا في تمجيد جهازيها "السي آي إيه، وإم آي6" بواسطة سحر الشاشة الصغيرة.

وهكذا كانت الأنظار من دون شرح واف، موجهة إلى "الموساد" منذ اللحظات الأولى لإعلان اغتيال عقل الملف النووي الإيراني محسن فخري زادة، فمن يملك الخبرة والجرأة غيره؟ لنحاول إثبات تلك الأسطورة التي أرادت إسرائيل بناءها بصورة عملية، ولنختبر معارفنا في فك طلاسم هذه التسميات المختصرة "إم إس إس، إس في آر، دي جي إس إي، بي أن دي، بي أس آي إيه"، هل نعرف عنها شيئاً؟

 

على الأرجح بالنسبة إلى الأكثرية غير مفهومة ولا تعني شيئاً. لكن إذا ما قلبنا الصفحة واتجهنا إلى رموز، مثل الـ"سي آي ايه، وإم آي 6، والموساد"، فإن السواد الأعظم سيعرف لأي شيء ترمز. فهل حدث كل ذلك عن عبث؟  

السواد الأعظم منا تعرّف إلى الجاسوس في جهاز الاستخبارات البريطاني (MI6) جيمس بوند، في أطول سلسلة أفلام في التاريخ، بدأت عام 1962 ومستمرة حتى اليوم في عرض بطولات ومغامرات العميل "007". ومن منا لم يشاهد كماً من الأعمال السينمائية التي عرضت بطولات لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، وحرفيتها وتفوقها العسكري.

واليوم، ها نحن نشهد في السنوات الأخيرة سلسلة من الأفلام والمسلسلات تصور "بطولات" جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد)، وتُعرض بشكل خاص على منصات البث العالمية، مثل "نتفليكس" و"آبل تي في بلس"، ولاقت في الآونة الأخيرة ازدهاراً وانتشاراً عالمياً واسعاً لكلفتها المتدنية ومحتواها الغني.

في المقابل، بقيت أجهزة استخبارات الدول الأخرى، لا سيما الكبرى منها كالصين وروسيا وفرنسا وألمانيا واليابان، (وأجهزتها على التوالي، MSS، SVR، DGSE، BND، PSIA)، بعيدة عن الإنتاجات الفنية العالمية، بالتالي خارج السباق على غزو الأفكار والأذهان، لأسباب تعود إلى كل دولة على حدة، لا سيما أن العمل الاستخباراتي ينتعش في فلك العالم السري، ويموت في الأضواء.

وهنا يتردد السؤال، عما وراء كثافة الإنتاجات الفنية التي تتناول عمل أجهزة الأمن الإسرائيلية، لا سيما جهاز الموساد؟ أهي مجرد مبادرات فردية، أم عمل موجه لخدمة أهداف هذه الأجهزة؟ وما الصورة التي تخلقها في أذهان المشاهدين؟ 

 

"فوضى"

من الإنتاجات التي صدرت أخيراً في هذا الإطار، على سبيل المثال لا الحصر، مسلسل "فوضى" (FAUDA)، يُعرض على منصة "نتفليكس"، وهو من إنتاج شركة "Tender Productions" الإسرائيلية، من كتابة موشيه زوندر وإخراج آساف برنستين وتأليف كل من الصحافي الإسرائيلي آفي يسخاروف، والممثل الإسرائيلي ليؤر راز الذي لعب دور الشخصية الرئيسة في العمل، لرجل يُدعى "دورون".

 يسرد المسلسل المؤلف من ثلاثة أجزاء، قصة "دورون" وفريقه في وحدة "مستعربين" في قوات الدفاع الإسرائيلية، المتخصصة في تنفيذ عمليات سرية بهدف الاغتيال والقتل والخطف، أثناء ملاحقتهم "الإرهابي" في حركة حماس الفلسطينية، المعروف بـ"الفهد".

لاقى المسلسل منذ بدء عرضه عام 2015، شهرة واسعة إقليمياً وعالمياً، واختارته صحيفة "نيويورك تايمز" ضمن أفضل العروض الدولية في عام 2017.
 وفيما أكد مؤلفاه، اللذان خدما سوياً في وحدة "المستعربين" في التسعينيات، أنهما أرادا أن يظهرا "الحياة على الجانب الآخر، الجانب الفلسطيني"، وأن يعرضا "تجارب الفلسطينيين الحياتية، والثمن الذي يدفعونه بسبب أعمالهم"، وفق ما قال آفي وليئور في مقابلة مع قناة "بي بي سي"، فإن العمل لاقى انتقادات، وتم تصنيفه على أنه يندرج في إطار الدعاية الإسرائيلية (بروباغندا) ويهمل وجهة النظر الفلسطينية.

"الملاك"

فيلم "الملاك" (The Angel)، يُعرض أيضاً على منصة "نتفليكس"، من إنتاج شركات "Adama Pictures" الفرنسية و"TTV Productions" و"Sumatra Films" الإسرائيليتين، من كتابة ديفيد أراتا، بناءً على رواية أوري بار جوزيف التي تحمل الاسم نفسه، وإخراج آريل فرومن. الفيلم المقتبس من قصة حقيقية (Based on true story)، يروي قصة أشرف مروان، السياسي ورجل الأعمال المصري وصهر الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، الذي تختلف المزاعم حول كونه عميلاً إسرائيلياً خدم الموساد أو عميلاً مزدوجاً بعلم مصر أسهم في تضليل الإسرائيليين إبان حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، التي شنتها كل من مصر وسوريا على إسرائيل، محققةً مكاسب في الأيام الأولى بسبب عنصر المفاجأة.

 الفيلم صور أشرف مروان بطلاً رفض منطق الحرب، ورغب بتحقيق السلام، فعمل سراً على تزويد الموساد بمعلومات مهمة عن مصر وتلاعب بالجانبين ليدفعهما عقب حرب أكتوبر إلى توقيع اتفاق السلام عام 1979.

 واختُتم الفيلم بعبارة "أشرف مروان هو الرجل الوحيد الذي يعد بطلاً قومياً في مصر وإسرائيل على حد سواء". فضلاً عن الانتقادات بشأن اللهجة المصرية الضعيفة لدى الممثلين واستخدام الأعلام المصرية الخاطئة في تلك الحقبة الزمنية، اتُّهم معدو العمل باعتماد الرواية الإسرائيلية عن مروان لتشويه صورته، في وقت تصر مصر رسمياً على اعتباره بطلاً قام بعديد من الأعمال الوطنية "لم يحن الوقت للكشف عنها"، وفق ما قال عنه الرئيس المصري السابق حسني مبارك.

"الجاسوس"

"نتفليكس" أيضاً تعرض مسلسل "الجاسوس" (The Spy)، من إنتاج شركة "Legende Films" الفرنسية بالاشتراك مع شبكة "OCS" التلفزيونية الفرنسية، من تأليف وكتابة وإخراج جدعون راف، وشاركه في الكتابة ماكس بري. المسلسل القائم على كتاب أوري دان ويشعياهو بن فورات "جاسوس من إسرائيل"، يروي قصة إيلي كوهين، الجاسوس الإسرائيلي الذي استطاع خداع السوريين منتحلاً شخصية رجل أعمال ثري يُدعى "كامل أمين ثابت"، ليمد بلاده بالمعلومات من داخل أراضي العدو. المسلسل المؤلف من ست حلقات، قدم كوهين كشخصية رومانسية يحب زوجته التي بقي وفياً لها، وبطلاً وطنياً شجاعاً بذل نفسه في سبيل إسرائيل، واستطاع نسج صداقات مع كبار المسؤولين السوريين، بمن فيهم الرئيس الأسبق أمين الحافظ، ليقدم لبلده معلومات استخباراتية بالغة الأهمية عن سلطات دمشق واستعداداتها للحرب في جبهة الجولان، التي زارها بفضل علاقاته بضباط سوريين، قبل أن يُكشف أمره ويُعدم في ساحة المرجة في العاصمة السورية في 18 مايو (أيار) عام 1965.

المسلسل المستوحى من أحداث حقيقية (Inspired by true events)، قوبل بانتقادات عديدة، فعدا عن عرضه الرواية الإسرائيلية، تخللته "عشرة أخطاء تاريخية"، بحسب تقرير للزميل إبراهيم حميدي في "الشرق الأوسط"، من أبرزها، أنه لا شيء يثبت الصداقة بين كوهين والرئيس السوري، التي ادعى المسلسل بدايتها في عام 1961 في بوينس آيرس، حيث كان الحافظ ملحقاً عسكرياً، إذ نفى الأخير ذلك مشيراً إلى أنه لم يصل إلى الأرجنتين قبل عام 1962. بحسب المسلسل، أسهمت المعلومات التي قدمها كوهين لإسرائيل بعد زيارته الجولان عام 1962، بنصر تل أبيب في حرب الأيام الستة، التي حصلت بعد خمس سنوات في عام 1967، ما يطرح بحسب التقرير تساؤلات عن أهمية "المعلومات القيمة" التي قدمها الجاسوس، نظراً إلى الفارق الزمني. فضلاً عن ذلك، جاء في المسلسل أن حافظ عرض على كوهين أن يصبح "نائب وزير الدفاع"، وهو منصب لم يكن موجوداً في حينها بل استُحدث عام 1970. كما تخللت المسلسل أخطاء تاريخية تتعلق بالشخصيات التي تولت المناصب الرسمية، وبتنفيذ انقلاب الثامن من مارس (آذار) 1963م.

"العملية الأخيرة"

فيلم "العملية الأخيرة" (Operation Finale)، من إنتاج شركتي "Automatik Entertainment" و"Metro Goldwyn Mayer" الأميركيتين، من كتابة ماثيو أورتن وإخراج كريس ويتز، يعرض بدوره على "نتفليكس" تفاصيل العملية التي نفذها فريق من الموساد في الأرجنتين لخطف وتهريب الضابط النازي السابق أدولف آيخمان في عام 1960، وجلبه إلى إسرائيل لمحاكمته إثر المجازر التي نُفذت بحق اليهود في ألمانيا وأوروبا.

"طهران" ومقاربة الواقع

ومن آخر الإصدارات الفنية التي تتناول عمل الموساد، مسلسل "طهران" (Tehran) الإسرائيلي، الذي اشترت منصة "آبل تي في بلس" حقوق عرضه. هو من إنتاج شركات "Donna Productions" و"Shula Spiegel Productions" و"Paper Plane Productions"، وكتابة موشيي زوندر وعمري شرهان، وإخراج دانيل سيركن.

يروي الفيلم التشويقي قصة عميلة الموساد تامار، ذات الأصول الإيرانية، التي تقصد طهران حيث تنتحل هوية زيلا، موظفة في شركة الكهرباء، لتنفذ عملية تقوم على تعطيل أنظمة الرادار في الدفاعات الإيرانية، لتتمكن إسرائيل من ضرب مفاعل نووي، ومنع طهران من تصنيع قنبلة ذرية، لكن العملية تفشل، إذ تتعرض زيلا أثناءها لمحاولة اغتصاب من قبل المسؤول عنها في شركة الكهرباء. زيلا التي قتلت المعتدي عليها، تنطلق في مغامرة الهرب في إيران، حيث تباشر التعرف إلى جذورها وتصادق ناشطين معارضين للنظام. المسلسل الذي صور في أثينا، قارب العداء والصراع الدائر بين تل أبيب وطهران حالياً، وكأنه تمهيد للعمليات داخل الأراضي الإيرانية التي استهدفت النظام العام الحالي.

 زوندر الذي ألف أيضاً مسلسل "فوضى"، صنف "طهران" عملاً "إسرائيلياً- إيرانياً إلى حد ما لو بشكل غير رسمي"، بسبب التحدث بالفارسية في معظمه، مؤكداً أن الشعبين "يمكن أن يكونا أصدقاء لولا القادة الذين يخيفون مواطنيهم ويثيرون الكراهية من أجل البقاء في السلطة"، لكن على الضفة الأخرى، رأت الصحف الإيرانية في المسلسل "دعايةً صهيونية". 

وعلى الرغم من أن المسلسل روائي يعتمد سيناريو خيالياً، إلا أنه يخدم حتماً الصورة "البطولية" لأجهزة استخبارات إسرائيل، فيما يظهر ضعفاً في الأجهزة الإيرانية. فسلسلة التفجيرات والحرائق الغامضة التي شهدتها إيران في عام 2020، مستهدفةً منشآت عسكرية ونووية وصناعية مهمة في البلاد، منها منشأة نطنز النووية التي أصيبت بأضرار "جسيمة"، واغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة أخيراً بالقرب من طهران، في عملية وصفتها هذه الأخيرة بالـ"معقدة" إذ جرت باستخدام "أجهزة إلكترونية" يتم التحكم بها عن بعد، من دون وجود أي شخص في مكان الحادث، تدفع المشاهد إلى الظن أن ما يعرضه المسلسل هو حقيقة مرجحة لما هي عليه الحال في طهران، في فرضية يعززها صمت إسرائيل، التي لم تعلق حتى اللحظة على الاتهامات الإيرانية لها بالوقوف وراء عملية الاغتيال.

بين الحقيقة والاقتباس منها

ما سبق عينة من الإنتاجات الفنية التي تتناول عمل أجهزة الأمن الإسرائيلية، لا سيما الموساد، تقدم صورة "بطولية" لهذه الأجهزة وعملائها، ولا تخلو من صفات الإنسانية والشهامة، فتخلق في ذهن المشاهد صورة نمطية تجميلية مضللة عن القوات الإسرائيلية.

اللافت في هذا السياق، عوض إنتاج أفلام وثائقية لعرض أحداث تاريخية، يعتمد عديد من هذه الأعمال على روايات مقتبسة من أحداث حقيقية، توحي للمشاهد، وإن لم تدّع ذلك، أن ما تقدمه هو الحقيقة المطلقة. وهذا جدل برز في إنتاجات أخرى كذلك، لعل أبرزها أخيراً ما قدمه مسلسل "التاج" على "نتفليكس"، الذي يتناول أحداثاً مرتبطة بالعائلة الملكية البريطانية.
 فبعد عرض الجزء الرابع منه، الذي تطرق إلى العلاقة بين الأمير تشارلز والأميرة الراحلة ديانا، أثيرت مخاوف من أن يؤدي إلى تشويه سمعة العائلة الملكية، ما دفع وزير الثقافة أوليفر دودن إلى القول، إنه سيطلب من "نتفليكس" إرفاق تحذير في بداية كل حلقة، يذكر المشاهدين بأن ما يشاهدونه هو "خيال" وليس "حقيقة"، مشيراً إلى قلقه من "أن يخلط جيل من المشاهدين الذين لم يعيشوا حقبة تلك الأحداث بين الخيال والواقع".

في ضوء ذلك، لا بد من توضيح الاختلاف بين الأفلام الوثائقية وتلك المقتبسة من قصة حقيقية، فبحسب المخرج والأستاذ في الجامعة اللبنانية وجامعة البلمند، إيليا حداد، الأفلام الوثائقية هي تلك التي "توثق أحداثاً حقيقية تتناول أشخاصاً وأماكن موجودين في الحقيقة، تُصور من دون تمثيل أو كتابة سيناريو وهمي من نسج الخيال، لكن قد تتخللها إعادة تمثيل لمشاهد حقيقية، يحاول عبرها المنتجون إعادة خلق الحدث بأقرب طريقة ممكنة لما حصل في الواقع". أما الأفلام المقتبسة من قصة حقيقية، فتندرج "في خانة الأفلام الروائية (Fiction)، وقد تكون قصيرةً أو طويلةً، يستوحي معدوها من أشخاص وأحداث حقيقيين، ويعدلونها كما يشاءون ليبنوا قصصهم". ووفق حداد، "يخطئ الناس عندما يظنون أن الفيلم المقتبس يقدم قصةً حقيقية تماماً، فهو في النهاية فيلم روائي"، مشيراً إلى أنه "في الواقع، جميع الأفلام مقتبسة من قصص حقيقية حتى لو لم يعلن ذلك، لأن الفيلم بطبيعة الحال يجسد أحداثاً عاشها أفراد وتعكس تجربة الكاتب، الذي يأتي بأفكاره من المجتمع والحياة والأحداث التاريخية، من ثم ينظمها ويضعها في العمل الفني".

أكثر من ذلك، يوضح حداد أن "ما من عمل فني، مهما كان شكله، موضوعي، بل هو دائماً ذاتي حتى لو كان في الظاهر موضوعياً، فهو لا يأتي من العدم وخلفية معده موجودة فيه، وينطبق ذلك حتى على الأفلام الوثائقية التي تدعي أنها محايدة، فهي طرح ذاتي لما يراه معدها، لذا الأفلام أكانت وثائقيةً أو روائيةً، تحمل دائماً آراء وأفكار ومعتقدات المخرج والكاتب والمنتج".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الفن والبروباغندا: "سي آيه إيه" مثالاً

للأعمال الفنية تاريخ طويل من التأثير في المتلقي وتوجيهه، فالراغبون بالوصول إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص، وبإحداث تغييرات أو بث أفكار في المجتمع، "يحددون الوسائل الأكثر رواجاً التي يلجأ إليها الناس للترفيه، ويبثون فيها أفكارهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ليبدأ الناس بالاقتناع بها"، بحسب حداد، الذي يوضح أن الأعمال الفنية، من كتب وأغان، لا سيما الإنتاجات السينمائية، "استُخدمت كثيراً، من الدول المستبدة وتلك التي تدعي الديمقراطية، للترويج لقادتها وللتسويق لسياساتها أو محاربة السياسات المنافسة، وللترويج لمسائل ستُطرح لكي يقبلها الرأي العام ويعتاد عليها، فيراها طبيعيةً جراء البروباغندا والحملات الإعلامية المكثفة"، لكنه يضيف أن "الأفكار التي تبث ليست مضللةً بالمطلق، إنما تأتي ليتأثر بها الناس ويأخذوا موقفاً منها".

ولا شك في أن "هوليوود" هي إحدى أهم أدوات بروباغندا الغرب للتأثير في المجتمعات، تدخل فيها الدول ورؤوس الأموال الضخمة لخدمة أيدولوجياتها ومصالحها، إما مباشرةً أو بطريقة غير مباشرة عبر تقديم الدعم لفنانين يؤيدون أجنداتها. فبحسب تريشيا جينكينز، مؤلفة كتاب "سي آي إيه في هوليوود: كيف تؤثر الوكالة في الأفلام والتلفزيون"، بدأت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية العمل مع هوليوود أولاً، للتأثير في الجماهير الأجنبية و"كسب القلوب والعقول ما وراء البحار خلال الحرب الباردة" مع الاتحاد السوفياتي، عبر تسويق "صورة سياسية صحيحة" (Politically correct image) عن الحياة في أميركا، تجذب الناس إلى صفها في عالم منقسم إلى فريقين.
 لكن في غضون ذلك، أهملت "سي آي إيه" صورتها لدى العامة التي باتت بحاجة لإصلاح شامل مع نهاية الحرب الباردة، إذ "أدركت الوكالة أنه من دون دعم الرأي العام، ميزانيتها وأنشطتها ستكون في خطر"، بحسب تد غاب، مؤلف "كتاب الشرف: الأرواح والوفيات السرية في وكالة سي آي إيه".

وفي ضوء هذا الاستنتاج، وظفت "سي آي إيه"، في عام 1996، عميلها السابق شايس براندون، ليكون صلة وصلها بهوليوود. ومنذ ذلك الحين، برز تغيير ملحوظ في تصوير الوكالة، فانتقلت من صورة الجهاز الذي يدير مجموعة من القتلى، إلى جهاز يتمتع بقيم أخلاقية وينفذ عمليات بالغة الأهمية، بحسب جينكينز التي تقول، إن الوكالة غالباً ما تنجح في تمرير صورتها المفضلة في الأعمال الفنية، وإنه "ما لم تقرأ قائمة المشاركين في ختام الفيلم، فلن يكون لديك أي فكرة أنك شاهدت للتو فيلماً أنتج بمساعدة وكالة الاستخبارات المركزية"، الأمر الذي نراه مثلاً في قائمة المشاركين بمسلسل "الجاسوس"، التي تضمنت شكراً لـ"سي آي إيه". وبالطبع، الصورة التي سوقتها الوكالة الأميركية لنفسها، هي صورة الجهاز الذي ينفذ إجراءات جذرية لحماية الأمن القومي الأميركي، حتى لو تسبب ذلك بخسارة أرواح أبرياء، في ما يندرج بإطار "الضرر الجانبي" وفق نيكولاس شو، مؤلف كتاب "مذعور: كيف تتلاعب وكالة الاستخبارات المركزية بوسائل الإعلام وتخدع هوليوود".

مشاهد عابرة للحدود

 بالعودة إلى الإنتاجات الفنية المتعلقة بأجهزة أمن تل أبيب، يرى حداد أن "إسرائيل تلجأ لكل الوسائل لتبييض صورتها، تماماً كما سبق أن فعل الصهاينة عبر أفلام هوليوود، التي أُعدت عن المحرقة اليهودية (الهولوكوست)، التي أظهرت الإسرائيليين كضحايا ضعفاء للنازيين، في وقت كان الإسرائيليون أنفسهم يقتلون الفلسطينيين ويعرضونهم لما تعرضوا له هم، وحتى أحياناً بشكل أعنف". ويشير المخرج والأستاذ الجامعي اللبناني إلى أن "كثيراً من الأفلام التي أنتجت عن الهولوكوست هي أيضاً أفلام روائية مقتبسة من قصة حقيقية وليست وثائقية، فهذه الأخيرة لم تؤثر في الناس والعالم بقدر الأفلام الروائية ولم تشتهر مثلها".
ويرى حداد أن الإسرائيليين يعتمدون اليوم الأسلوب نفسه عبر الأعمال  الفنية "لتبييض صورتهم أمام المجتمع الدولي، فيُظهرون أنفسهم فئة ضعيفة لها الحق بأخذ أرض فلسطين من أبنائها، لتبني عليها دولتها ومن ثم تدافع عن نفسها في وجه الدول المجاورة".

المخرج والروائي الفلسطيني فجر يعقوب، يقول بدوره إن "الإسرائيليين لطالما سعوا إلى كسر الطوق المبهم من حولهم، عبر بعض الإنتاجات الفنية المرتبطة بفكرة البطل الذي لا يُقهر، لكن فكرة الانتشار كانت مصدر قلق كبير لهم قبل ظهور منصات البث التدفقي، التي تراهن اليوم على مشاهد عابر للحدود لا يتأثر مع الوقت بفكرة العدو والمحتل، وهو مشاهد لم يكن ممكناً توفره قبل عدة عقود".

 ويضيف يعقوب أن "الإسرائيليين نجحوا في رسم صورة عالمية مقبولة للبطل- السوبرمان، الذي يمكنه اختراق حجب أي بلد عدو، وخلق التعاطف معه، في وقت لم يعودوا مهتمين بتحقيق أهداف سياسية مباشرة من وراء سرد حكاياتهم وبطولاتهم في الحروب والاستخبارات والتجسس، طالما أنهم اكتشفوا طريقهم إلى هذه المنصات، وصاروا يراهنون على أن إعادة إنتاج قصصهم ستتكفل مع الوقت بصنع رأي عام لجمهور غفير يستقي معلوماته في معظمها من جهاز التلفزيون، فما بالك بالآن، وقد تحول البث إلى طوفان دافق لا يرحم".
 ورداً على سؤال عما إذا كان الإسرائيليون يسيرون على خطى الأميركيين في استخدام الإنتاجات الفنية لتلميع صورتهم، اعتبر يعقوب أنهم "يحظون بمباركة "الأخ الأميركي الأكبر"، الذي لولاه ربما كانوا سيظهرون مثل أي دولة لا نعرف لها شيئاً من صناعة الدراما التلفزيونية".

"أجندات" المنتجين

وفي ما يتعلق بالمساعي المحتملة لتحقيق "أجندات" محددة من هذه الإنتاجات، لا سيما تلك التي تتناول أحداثاً تاريخية، يقول المخرج الروائي الفلسطيني "ليس هناك عمل فني، تلفزيوني على وجه الخصوص، لا يحمل أجندة الجهة المنتجة له، فالأمر في نواح كثيرة يتعدى التسلية والترفيه. لكن أجندة عن أجندة تختلف". وعلى سبيل المثال، يتناول يعقوب مسلسل الجاسوس، قائلاً "قد يجد المشاهد غير المعني بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، أن الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين ينتمي إلى فئة الأبطال الملهمين في الواقع وفي السينما، وأنه يستحق مسلسلاً، وربما مسلسلات تحاكي حياته الأسطورية، فيما تكشف الوقائع من حوله، وبمعزل عن لغز اصطياده وتدبير إعدامه بسرعة فائقة، خوفاً من افتضاح أمر مسؤولين سوريين كانوا على علاقة به في تلك الفترة من تاريخ سوريا المعاصر، أنه جاسوس بائس ومتشاوف، وأن ثقته العمياء بنفسه سرعت من إلقاء القبض عليه".

وتساءل عن أي جاسوس عبقري هذا الذي "يستأجر شقة قريبة من السفارة الهندية في أحد أرقى أحياء دمشق، وهي تمتلك راداراً للاتصالات، ويقوم هذا الجاسوس باستخدام جهاز لبث رسائله المشفرة بالقرب منها، الأمر الذي صار يشوش على اتصالات الهنود بحكومتهم لتسيير شؤون العمل الدبلوماسي اليومي، ما دفع الاستخبارات السورية إلى تحري أسباب هذا التشويش ومعرفة مصدره".

 ويضيف، "نحن كمشاهدين حياديين لن نعثر أبداً على حقيقة أن إيلي كوهين لم يكن جاسوساً عبقرياً، ولم يقدم معلومات مهمة لإسرائيل، سوى ما كانت تنشره بعض الصحف السورية، وبعض المعلومات المجانية غير المؤثرة التي قدمها له بعض المسؤولين السوريين".

تبعاً لذلك يرى حداد أن مسلسل "الجاسوس" هو فيلم روائي وليس وثائقياً، "معدوه استوحوا من قصة إيلي كوهين، وطبعاً عدلوا أحداثها بما يتناسب مع أهدافهم أو رؤيتهم لدوره". وفيما يشير إلى أن هدف هذا التغيير في الأحداث "قد يكون التضليل"، يضيف أنه "قد يكون أيضاً للتشويق وتعظيم شخصية البطل في الفيلم الروائي، الذي يُعطى كل صفات البطولة والشهامة، ويظهره نظيف الكف ومحباً لعائلته وزوجته، ويقوم بكل أنشطته من أجل أسرته ووطنه، طبعاً من دون إظهار جانبه القبيح، كي يتعاطف معه المشاهدون".  
 

 

دور رسمي مبهم لكن البصمات واضحة

إسهامات هذه الإنتاجات في نشر الدعاية الإسرائيلية واضحة، لكن الدور الرسمي لسلطات تل أبيب فيها مبهم، في ظل عدم توفر المعلومات من مصادرها في هذا الخصوص.

 لكن حداد يرى أنه "بغض النظر عما إذا كانت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، لا سيما الموساد، تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في محتوى وإنتاج هذه الأفلام، فإن أي إسرائيلي مقتنع بالفكر الصهيوني، سيوجه عمله الفني لمصلحة المشروع الذي تبناه واقتنع به، وهذا أمر طبيعي".

 وبالنسبة إلى المخرج اللبناني، فإن الأعمال قد لا تكون عفوية، "وقد يكون وراءها فكر وتنظيم من قبل جهاز استخباراتي إسرائيلي أو غربي، أو إيعاز من الدولة الإسرائيلية لفنانيها بتسليط الضوء على مسائل محددة أو توجيه الرأي العام العربي أو العالمي باتجاه معين. لكن في المقابل، قد تكون هذه الأعمال موجهة من الفنانين الذي يعملون في هذا الاتجاه". وفي كلتا الحالتين، يعتبر حداد أن "ما يقدمه معدو هذه الأعمال هو بروباغندا من حيث يدرون أو لا يدرون، بتوجيه مباشر أو غير مباشر من الدولة. فالبروباغندا هي تسويق لفكر معين لدى المتلقي".

وعلى الرغم من عدم توفر معلومات دقيقة حول إسهامات إسرائيل الرسمية في هذه الإنتاجات الفنية، فإن اشتراك عملائها السابقين في إعداد هذه الأعمال يؤشر إلى مساع لتوجيهها بما يخدم صورة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
 ومن بين هؤلاء، عميل الموساد المتقاعد أفنر أفراهام، الذي بات "مرشداً ومنتج أفلام وخبيراً في عمليات التجسس"، وفق ما يصف نفسه على صفحته على موقع "فيسبوك"، وشارك مثلاً كـ"كبير مستشاري الموساد" (Chief Mossad Consultant) في فيلم "العملية الأخيرة"، بحسب ما جاء في قائمة المشاركين في العمل، وهو من مؤسسي وكالة "The Spy Legends Agency" الإسرائيلية، التي تضم متحدثين "متخصصين بالتجسس والعمليات السيبرانية والأمنية والسرية"، وتقدم استشارات لصانعي الأفلام.  

 

العرب في "الحرب الذكية"  

في عصر لم تعد فيه الحروب تُقاد بالأسلحة التقليدية، ولا بالجيوش الجرارة والأسلحة الثقيلة، فحسب، بل بأسلحة وأجهزة ذكية دخلت تفاصيل حياتنا اليومية، تبدو الحرب الإعلامية مستعرة مع تعدد وسائطها وأدواتها، التي تشكل الإنتاجات الفنية، السينمائية منها بشكل خاص، أبرز عناصرها، ولكن إن نظرنا في هذا المجال إلى الساحة العربية، فسنجدها شبه خالية، وما تقدمه لا يرتقي إلى مستوى المنافسة العالمية، أو أقله لا يصل إلى المشاهد العالمي ليحاول التأثير فيه.

على هذا الصعيد، يقدم يعقوب نظرةً تشاؤمية، ويقول "يمكن للفلسطينيين والعرب بالطبع، أن يرسموا الصورة التي يشاءونها في إنتاجاتهم، ولكن لن يجدوا المنصة الفاعلة لعرضها. إن استعانوا بمنصاتهم، فهي غير مؤهلة للحوار مع الآخر، ما يعني أن إنتاجاتهم ستظل مغيبة حتى إشعار آخر".

في هذا السياق، توجهت "اندبندنت عربية" إلى "نتفليكس" بمجموعة من الأسئلة حول تحققها من الأحداث التي تعرض في أفلامها "المقتبسة من قصص حقيقية"، وعما إذا كانت تعتبر هذه الإشارة كافية لإعلام المتلقي بأن ما يشاهده خضع للتعديل ولا يمثل بالضرورة الحقيقة. كما سألنا عما إذا كانت المنصة تعتمد معايير محددة لبث أعمال مرتبطة بأحداث سياسية وتاريخية، وما هو ردها على الاتهامات بمشاركتها في نشر الدعاية الإسرائيلية، لكننا لم نلق رداً.

التوجه إلى الآخر

إلى ذلك، اعتبر يعقوب أن "المشكلة في الإنتاجات العربية، أنها تحاكي أهل القضية بالدرجة الأولى، ولا تملك خطاباً معرفياً يمكنه تغيير وجهات النظر التي تسيء إليهم. إن نظرنا مثلاً إلى معظم الأعمال العربية عن الأصوليين، فقد رسمت صورةً نمطيةً لهم صارت تستدعي المخيلة العالمية إليها".

ويؤكد المخرج والروائي الفلسطيني أن "الإسرائيليين اكتشفوا طريقهم إلى هذه المنصات مدعومين برأسمال عالمي كان السبب أصلاً في ظهور دولتهم على أرض فلسطين... فليست كل سماجة فنية وركاكة في سرد بطولات وهمية، يمكن أن تجد طريقها بسهولة إلى المشاهد العالمي، الذي تنشده منصات مثل نتفليكس وآبل تي في". وبالنسبة إلى العرب، فيرى يعقوب أن طريقهم "طويلة ومحفوفة بالمخاطر، وإنتاج دراما بذائقة العصر مسألة مكلفة، وتغيير الرأي العام العالمي أشبه بمحاولة نسف قواعد النظام الذي يسير عليه عالم اليوم، وهذا أمر غير ممكن، ولا أعتقد أننا سنكتشف الخيط الذي سيقودنا إلى هناك. نحن في واد، والعالم في واد آخر. والحديث عن فجوة رقمية لا ينقصه أن يكون حقيقياً".

أما حداد، فيرى أن مواجهة هذا النوع من الإنتاجات "كانت عبر التاريخ  فاشلة بمعظمها، لأنها غالباً ما استندت إلى طريقة ديكتاتورية تمنع عرضها للجمهور المختلف سياسياً، خوفاً من أن يتأثر بها". ويؤكد المخرج اللبناني أن الطريقة الأفضل للرد في هذه المعركة، تكون باستخدام "السلاح نفسه"، عبر "أعمال فنية ذات مستوى مرتفع فنياً وتقنياً تظهر الحقائق من موقعنا كما نراها، وتكون قادرة على التأثير في مجتمعاتنا والمجتمعات الأخرى"، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن ذلك يتطلب دولاً مدنية قادرة على مواجهة جميع المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لشعوبها.

المزيد من تحقيقات ومطولات