في مقابل المعادلة الصفرية التي تتبعها إدارة ترمب مع بكين والتي تصاعدت خلال الأشهر والأسابيع الماضية، يبدو أن سياسة الرئيس المنتخب جو بايدن ستنحو منحىً مختلفاً بل ومتأرجحاً مع الصين، فقد يكون أكثر مرونة معها في قضايا محددة، وأكثر تعنتاً في ملفات أخرى. وعلى الرغم من أن منافسة الصين كقوة عظمى تظل أولوية قصوى لواشنطن، فإن تعزيز التواجد الصيني على أراضي الشرق الأوسط، يثير قلق الولايات المتحدة، خصوصاً اتفاق التعاون طويل المدى بين بكين وطهران، ومع ذلك، فإن الأرجح أن الولايات المتحدة ستعمل على أن تكون بكين عاملاً من عوامل سياستها الخارجية في الشرق الأوسط، بحيث تتحمل جزءاً من العبء الأمني والدبلوماسي في المنطقة، من دون أن يخصم ذلك من النفوذ والتأثير الأميركي الرائد في هذه المنطقة الحيوية لمصالح الولايات المتحدة.
شكوك وقلق
سيدخل جو بايدن البيت الأبيض في 20 من الشهر المقبل بجرعة كبيرة من الشكوك والقلق تجاه الشرق الأوسط، فقد استوعبت وأحبطت هذه المنطقة من العالم آمال أسلافه الذين شغلوا هذا المنصب، وبحكم وجوده القريب في المطبخ السياسي نائباً للرئيس أوباما ورئيساً سابقاً للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، اطلع بايدن عن قرب على أخطاء جورج دبليو بوش الإستراتيجية، وسوء الإدارة الدبلوماسية لباراك أوباما، والسياسات المضطربة لدونالد ترمب.
ولهذا ربما يكون الرئيس المنتخب قد قرر بالفعل أنه لا يوجد مزيج صحيح بين الدبلوماسية والقوة التي يمكن أن تساعد الولايات المتحدة حالياً على الإبحار وحدها في سياسات الشرق الأوسط المعقدة، نظراً لانشغاله بأولويات التعامل مع أزمة كورونا، وإعادة تشغيل الاقتصاد الأميركي والتنافس مع القوى العظمى، وبدلاً من ذلك، قد يصوغ بايدن سياسة من شأنها إرضاء كثيرين في واشنطن التي تعاني من إرهاق مزمن في الشرق الأوسط.
وبصفته سياسياً مخضرماً على مدى 40 سنة في السلطتين التشريعية والتنفيذية، شارك بايدن بقوة في تشكيل الدبلوماسية الأميركية والسياسات العسكرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ولكنه كرئيس لأكبر وأقوى بلد في العالم سوف يستند على خبرته في التعامل مع "إيران، والعراق، وإسرائيل، وسوريا" وغيرها في المنطقة.
رمال متحركة
وكافحت الولايات المتحدة سنوات عدة من أجل التكيف مع الرمال المتحركة في الشرق الأوسط، وما يُعقد قدرة أميركا على المناورة والسيطرة، خطوط التقاطع والتعاون والتنافس المتعددة في المنطقة، وصعوبة حل النزاعات وعودة ظهور روسيا، والدور الصيني المتزايد، بينما لن يكون من السهل على الولايات المتحدة لعب دور فشلت فيه من قبل في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد ما أصبحت أميركا نفسها ملطخة بسجل حافل من الاضطراب والتناقضات والنفاق خلال السنوات الأخيرة.
ولهذا تبدو واشنطن غير مستعدة حالياً لتحمل مزيد من الأعباء السياسية والعسكرية في المنطقة، ومن المرجح أن يعتمد بايدن على العلاقات الثنائية مع دول الإقليم، ومع قوى عالمية أخرى كالصين لتحقيق مصالح أميركية محددة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مواجهة محسوبة
ولأن انتخاب بايدن رئيساً للولايات المتحدة أثار كثيراً من التوقعات وعلامات الاستفهام حول إعادة تشكيل سياسة واشنطن في الشرق الأوسط، مثل الملف الإيراني الأكثر إلحاحاً وغيره من القضايا الإقليمية المهمة التي تنتظر الحل، سيتعين على الإدارة الجديدة أيضاً التعامل مع قوة عظمى تعمل ببطء ولكن بثبات على تعزيز وجودها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ألا وهي الصين.
وفي حين أنه من المرجح أن يتخذ بايدن نهجاً حذراً تجاه الصين على المسرح العالمي، يُتوقع أن تكون إستراتيجيته أكثر تحديداً من حرب ترمب التجارية التي لم تكن فعالة إلى حد كبير، إذ يُنتظر أن يطور الرئيس الأميركي الجديد، جبهة منسقة سياسياً وتجارياً وعسكرياً مع الحلفاء الأوروبيين والآسيويين لمواجهة بكين، في وقت تظل فيه المنافسة بين القوى العظمى على رأس أولويات واشنطن الإستراتيجية، والتي تؤثر إلى حد ما، على السياسة الخارجية للولايات المتحدة في مناطق مختلفة، ما يعني أن الصين سوف تشكل عاملاً مهماً في التفكير الإستراتيجي لوزارة الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.
اختلاف وتوافق
ومن المرجح أن تختلف سياسة الرئيس المنتخب بايدن في الشرق الأوسط عن تلك التي اتبعها سلفه ترمب، بالنظر إلى أسلوبه وطريقته الأكثر رصانة في التعامل، ففي حين أن التحالفات التاريخية للولايات المتحدة مع عدد من الدول المحورية لا تزال في قلب إستراتيجية واشنطن الإقليمية، فإن الإدارة الجديدة ستتخذ نهجاً يشتمل على بعض الاختلافات، منها تجديد التعاون عبر الأطلسي، واحترام القيم الأساسية، وحقوق الإنسان، فضلاً عن العودة لاتفاق إيران النووي الذي تخلت عنه إدارة ترمب.
ويتوقع باحثون أن تتفق واشنطن وطهران على تجميد النشاط النووي الإيراني وإعادة التزام إيران ببنود الاتفاق، مقابل تجميد بعض العقوبات وليس القيام بإلغائها خلال العام الأول من رئاسة بايدن، بما يخفف في نهاية المطاف من مسار المواجهة الذي فتحته الإدارة السابقة، وبما يعيد الإجماع بين ضفتي الأطلسي حول القضية النووية الإيرانية.
غير أنه في قضايا أخرى، سيتبع بايدن المسار الذي حدده دونالد ترمب، وإن كان بطريقة أقل اضطراباً وأكثر هدوءاً، مثل عملية السلام بين إسرائيل والعالم العربي، وسحب القوات الأميركية البطيء لكن تدريجياً من بعض مناطق الشرق الأوسط، ومع ذلك، فإن مواجهة الإدارة الأميركية الجديدة للوجود الصيني المتزايد في المنطقة تبدو غير مؤكدة حتى الآن.
طموح صيني
وخلال العقدين الماضيين، عززت الصين إلى حد كبير وجودها في الشرق الأوسط عبر شراكات رسمية ثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الإقليمية الرئيسة الفاعلة، وطورت بكين انخراطها ببطء مع الشرق الأوسط، وحولت علاقاتها من مجرد التركيز على التعاون الاقتصادي بين دولتين، إلى نطاق أوسع إستراتيجي وشمولي الطابع، ثم في النهاية شكلت مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس شي جين بينغ عام 2013، صياغة العلاقات الصينية- الشرق أوسطية بما أكد الطموحات العالمية للصين كقوة عظمى واثقة من نفسها.
وفي حين لاقى الدور الصيني المتنامي في المنطقة ترحيباً من دول الشرق الأوسط التي وجدت في القوة الآسيوية شريكاً طموحاً وحريصاً على بناء علاقات اقتصادية وسياسية من دون التدخل في السياسة الداخلية للدول، فإن كفاءة ومدى المشاركة الصينية في الشرق الأوسط الأوسع نطاقاً، غالباً ما يجري تضخيمها بشكل مسرحي بسبب قلة الاستثمارات الأجنبية المباشرة الرئيسة في منطقة الخليج، لكن الصين مع ذلك، بدا بشكل واضح، أنها ترسخ وجودها في الشرق الأوسط لتبقى لفترات طويلة مقبلة.
بكين موجودة لتبقى
ولذلك يتوقع مراقبون أن تعزز بكين بناء وجود أقوى ومتعدد الطبقات في الشرق الأوسط، يتوازى مع تجنب الانجرار إلى صراعات إقليمية، فإذا تبنى بايدن مواقف متصلبة تراها دول إقليمية تتعارض مع مصالحها وسياساتها، فمن المحتمل أن تستفيد بكين منها، لكن سياسة بايدن في الشرق الأوسط ستكون مثل سياسة سلفه ترمب، إذ لم يكن لها تأثير يذكر على شكل ووتيرة العلاقات الصينية مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن أي محاولة لإشراك الصين بشكل فاعل وبناء في الشرق الأوسط، وبالتالي خلق فرص للتعاون في نهاية المطاف، تنبع من فرضيتين أساسيتين، أولاهما، الاعتراف بدور بكين في المنطقة، والثانية، تطوير نهج عملي نفعي من أجل تعزيز التعايش الفعال الذي تستفيد منه الصين وأميركا في الوقت نفسه.
نتيجة المعادلة الصفرية
وينبع هذا الاستنتاج من واقع ما اتخذته إدارة الرئيس ترمب من مواقف عدائية هجومية غير مسبوقة ضد بكين، كانت محصلتها معادلة صفرية، دفعت الصين في النهاية إلى التفاوض على اتفاقية شاملة مدتها 25 سنة مع خصم واشنطن اللدود إيران، مما أثار قلقاً بالغاً تجاه هذا المحور الناشئ الذي يُعرض المصالح الأميركية في المنطقة للخطر.
ومع ذلك، ينصح البعض واشنطن، ألا تنظر إلى علاقات الصين مع شركائها الإقليميين في الشرق الأوسط وحتى مع إيران بطريقة انفعالية أو غاضبة، وأن تتفهم الأمر على أنه إشارة واضحة إلى أن إقصاء بكين خارج منطقة الشرق الأوسط لم يعد خياراً ملموساً، لسبب بسيط، وهو أن دول الإقليم ترغب في التعامل مع بكين، ذلك أن إيران ترى الصين بمثابة الفاعل الدولي الرئيس الوحيد الذي يحرص على تقويض العقوبات الأميركية، كما أن الدول الإقليمية الأخرى في الشرق الأوسط تنظر إلى الصين باعتبارها شريكاً إضافياً مهماً يتخطى شكل وشروط العلاقات التقليدية مع الغرب وغيره من الدول الآسيوية.
تعايش عملي
فإذا قبلت الولايات المتحدة فكرة أن الوجود الصيني في منطقة الشرق الأوسط الحيوية للمصالح الأميركية، قائم ومتواصل لا محالة، فمن المرجح أن يقود ذلك إدارة بايدن نحو تعايش عملي يتجنب المنهج غير البناء الذي فرضته أجواء المعادلة الصفرية من إدارة ترمب، ولكن في الوقت نفسه يحافظ على مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية في الشرق الأوسط.
ومن هذا المنطلق، قد تذهب واشنطن، بالتنسيق مع حلفائها الإقليميين وفي خارج المنطقة، إلى إشراك الصين بشكل تدريجي ودفعها نحو انخراط أكثر مسؤولية في شؤون الشرق الأوسط، ومن ثم تستفيد أميركا من بكين عبر تقاسم العبء الأمني في المنطقة، بما يتيح للصين أيضاً دوراً دبلوماسياً أكثر فعالية، ولكن ذلك يظل مشروطاً بعدم انتقاص الدور الأميركي الأمني والسياسي في الشرق الأوسط.
أدوار مترابطة
وعلى الرغم من أن الصين أصبحت أكثر اهتماماً وانخراطاً في الشرق الأوسط، فإن استمرار وتعزيز هذا الدور يرتبط بشكل أو بآخر بمساحة التوافق أو التصادم في السياسات بين بكين وواشنطن في مناطق أخرى من العالم، لا سيما في شرق وجنوب آسيا بالقرب من محيط الصين الإستراتيجي الذي تزايدت فيه التوترات خلال السنوات الأخيرة وعززت فيه الصين من تواجدها العسكري بشكل ملحوظ.
وفي ظل التخوفات الأميركية من تزايد النفوذ الصيني عالمياً، حددت بكين هدفها الذي تمثل في الانضمام إلى صفوف البلدان المتقدمة، ثم اللحاق بالولايات المتحدة وتجاوزها اقتصادياً بحلول عام 2035، بالتوازي مع تحقيق تقدم كبير نحو التفوق التكنولوجي.
وعلى الصعيد العسكري، كانت الصين تزداد قوة ووصل تقدمها في المحيط الهادي إلى مرحلة لا يمكن تجاهلها، وبدا أن طموحات بكين ظاهرة للجميع إذ لم تعد بكين تكترث ولم تبذل جهداً لإخفائها، الأمر الذي يتعين معه على إدارة بايدن أن تضع خطة لإدارة العلاقة مع بكين.
الصديق العدو
وخلال حملة بايدن الانتخابية، صور صعود الصين على أنه تحد خطير، وانتقد ممارساتها التجارية المضرة، محذراً من أنها قد تتقدم على الولايات المتحدة في التقنيات الجديدة، وأكد أنه سيواجه الصين بشكل أكثر فاعلية من ترمب وسيعمل بشكل أوثق مع الحلفاء للضغط على بكين.
كما تعهد بايدن بتنشيط الولايات المتحدة كقوة في المحيط الهادي من خلال زيادة الوجود البحري الأميركي في منطقة آسيا والمحيط الهادي وتعميق العلاقات مع دول من بينها "أستراليا، وإندونيسيا، واليابان، وكوريا الجنوبية" ليوضح لبكين أن واشنطن ستكون حائط صد أمام طموحاتها العالمية، انطلاقاً من واقع خبرته في منصب نائب الرئيس الذي منحه رؤية فريدة للتعامل مع القيادة الصينية، وخصوصاً أنه قضى وقتاً مع الزعيم الصيني شي جين بينغ أكثر من أي زعيم عالمي آخر.
وخلال العقود الماضية، كان بايدن مرحباً بالصديق الصيني، وأيد دخول الصين في منظمة التجارة العالمية عام 2001، الأمر الذي منحها علاقات تجارية طبيعية دائمة مع الولايات المتحدة، وكنائب للرئيس، أيد اتفاق الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي بين إدارة أوباما ومنطقة آسيا والمحيط الهادي، على اعتبار أن ذلك سيساعد في كبح نفوذ الصين في المنطقة.
ومع اقتراب تولي بايدن سُدة الحكم في البيت الأبيض، لا يخفي إيمانه بإمكانية زيادة التعاون بين الولايات المتحدة والصين في قضايا مثل المناخ والأسلحة النووية وقضايا أخرى، لكنه يعتقد أيضاً أن استمرار المنافسة مع الصين يتوقف على حجم وسرعة الابتكارات الأميركية وتوحيد القوة الاقتصادية للديمقراطيات حول العالم.
وإذا نجح بايدن في تلطيف الأجواء مع الصين، فلن تكون هناك عقبة في اضطلاع بكين بدور أمني ودبلوماسي في الشرق الأوسط بما يخدم المصالح المشتركة بين البلدين، أما إذا اشتعلت مواجهات بين الطرفين في أي مكان حول العالم، فلا شك أن ذلك سينعكس حتماً على منطقة الشرق الأوسط والنفوذ الصيني فيها.