لا أحد يصدق أن إيغور ليغاتشيف، آخر أقطاب الاشتراكية، وأحد أهم رموز سياسات البيريسترويكا، لا يزال موجوداً بيننا، ويواصل حياته بين ذكريات سنوات إعادة البناء التي كان يعلق عليها آمال التغيير، وبين حسرته التي لا يخفيها، عن ضياع فرصة التخلص من ميخائيل غورباتشوف، قبل أن يودي بالبلاد إلى ما وصلت إليه.
وليغاتشيف آخر أعضاء المكتب السياسي، والساعد الأيمن للزعيم السوفياتي السابق غورباتشوف وصاحب العبارة الشهيرة، "بوريس... لست على حق"، التي صارت قولاً مأثوراً لسنوات عدة، وسيأتي تفسيرها لاحقاً بين سطور هذه المقالة، احتفل مع أنصاره في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي بالذكرى المئوية لميلاده.
ذكريات سنواته المئة، حية تنطق بكثير من تاريخ العصر، تتوالى مشاهدها تأكيداً أن العمر لم يضع سدى، ولأن في السيرة والمسيرة ما يستحق التوقف عنده طويلاً، تذكرة وعبرة لمن يريد الفلاح لهذا الوطن، وتفادي ما سبق وواجهه من عثرات وارتباك.
ارتبطت البدايات بذكريات العمل بعد التخرج في معهد الطيران، وفرحته وفخره بالمشاركة خلال سنيّ فتوته وشبابه مع زملائه في صناعة المقاتلات التي انطلقت من سيبيريا، لتشارك في وأد أحلام وخطط النازيين الهتلريين إبان سنوات الحرب العالمية الثانية. كان ذلك قبل تحوله إلى صفوف الـ "كومسومول" (اتحاد الشبيبة) والعمل الحزبي الذي حمله إلى العاصمة السوفياتية واللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وهو الفتى القادم من إحدى القرى النائية النائمة بين أحضان سيبيريا. لكنه سرعان ما تمرد على هذه الوظيفة ليترك حياة الدعة والهدوء بين جنبات قسم الدعاية والإعلام في اللجنة المركزية، لينشغل بما هو أكثر جدوى وأهمية للوطن والمواطن. طلب من الأمين العام للحزب آنذاك، ليونيد بريجنيف، إيفاده للعمل في الأقاليم، ومن مقاطعة تومسك غرب سيبيريا بدأ مسيرته أميناً للجنة الحزب الشيوعي، التي عاد منها إلى قوامة اللجنة المركزية مطلع ثمانينيات القرن الماضي، بتوصية من يوري أندروبوف الرئيس الأسبق للجنة أمن الدولة (كي جي بي)، الذي خلف بريجنيف في منصبه بعد وفاته في نوفمبر (تشرين الثاني) 1982. وانتقل ليغاتشيف إلى النسق الأعلى للسلطة الحزبية محملاً بكثير من الذكريات التي ثمة من حاول تشويهها، ووصمها بأنها تركة مثقلة لسنوات وصفوها بـ "سنوات الركود". وعند هذه النقطة، كان الخلاف الذي بدا غير ذي شأن في البداية، ولم يعره ليغاتشيف ما يستحق من اهتمام، مكتفياً بتعداد ما حققه من مآثر في سيبيريا، وما جرى تشييده من مصانع وصناعات ثقيلة كانت وستظل أساس ما حققه الاتحاد السوفياتي من إنجازات وثروات في مجالات التعدين والطاقة، التي سرعان ما آلت عن غير حق إلى "حفنة" من المغامرين اليهود، ممن تزعموا مسيرة زعزعة استقرار الكيان السوفياتي في وقت لاحق.
تلميذ أندروبوف
وعودة إلى ليغاتشيف وتوقف الأمين العام الجديد للحزب، أندروبوف، عند ما يُعرف عنه من انضباط وتشدد، تلقفه الأمين العام الجديد للحزب بعد وفاة الأمين الأسبق بريجنيف، ليعهد إليه بمهمة إعادة الانضباط في صفوف الحزب والدولة، وهي مهمة سرعان ما حملته إلى صدارة المشهد الحزبي والسياسي في الدولة السوفياتية، لذا لم يكن غريباً أن يتلقفه غورباتشوف أحد أهم "تلاميذ" أندروبوف، ليكون الرجل الثاني في قوام فريقه الذي قام بتشكيله فور توليه قيادة الحزب مطلع العام 1985، ليعهد إليه بمهمة تنفيذ ما عرفه العالم تحت اسم سياسات "البيريسترويكا والغلاسنوست" (إعادة البناء والشفافية)، التي كان ملايين المواطنين يعلقون عليها كثيراً من آمال التغيير والتخلص من براثن "آليات الماضي الحزبي ثقيل الوطأة".
تحمل ليغاتشيف وحده تقريباً كل اللعنات التي صبتها عليه الملايين، رداً على حملته لمكافحة تعاطي الخمر والتوسع في تصنيعها وتوزيعها، وتطايرت الاتهامات في حق هذا الحزبي المنضبط من دون اعتبار لحقائق أخرى كثيرة تقول إن غورباتشوف هو المسؤول المباشر عن حملة مكافحة الخمور لأسباب شخصية، منها أن شقيق قرينته موجود في إحدى المصحات النفسية بسبب إدمانه الخمور، فيما قال آخرون إنها كانت وتظل في صدارة أسباب الخلافات الأسرية التي يعزون إليها كثيراً من أمراض المجتمع. واعترف ليغاتشيف بأنه كان من المؤيدين لتلك الحملة التي أرجعها إلى أهمية رفع مستوى القدرات الصحية والعقلية لبناء المواطن السوفياتي، والرغبة في توطيد أركان الأسرة ودعم تطورها الثقافي والاجتماعي، وانقاذها من الضياع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبهذه المناسبة، كشف ليغاتشيف عن واقع طالما تداولت الألسنة تفاصيله، وهو تدخل قرينة غورباتشوف في شؤون الدولة، وممارستها كل أشكال الضغط على قرينها الذي حرص دوماً على وجودها إلى جانبه في مختلف المنتديات. وروى ليغاتشيف أنها اتصلت به ذات مرة في أمر لم يكشف عن تفاصيله، في محاولة للضغط عليه لتغيير قراره، واعترف بأنه لم يستجب لها، وطالبها بألا تتصل به مرة أخرى، وهو ما كان ولا بد من أن يوغر صدر غورباتشوف ضده، ولعله يمكن أن يكون من أسباب إبعاده عن صدارة المشهد السياسي.
لذا لم يمض من الوقت كثير حتى اصطدم ليغاتشيف الحزبي المحافظ حتى النخاع، بواقع مرير سرعان ما تكشّفت أسراره وتاهت تفاصيله بين الاتهامات بالخيانة لعدد من رفاق السلطة، ومنها ما أعلنه رئيس لجنة أمن الدولة في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، فلاديمير كريوتشكوف، عن سقوط ألكسندر ياكوفليف، "فيلسوف البيريسترويكا"، والساعد الأيمن لغورباتشوف، بعد إبعاد ليغاتشيف عن صدارة المشهد الحزبي والسياسي، في شرك العمالة للمخابرات المركزية الأميركية، والارتماء في أحضان الغرب، ومقرراته لآخرين ومنهم بوريس يلتسين تحت ستار الشعارات الليبرالية الجوفاء. من هنا تبدّت أمارات الصدام بمن جاء به من غياهب الأورال ليكون واحداً من أعضاء "فريق التغيير". كان ذلك الرجل هو بوريس يلتسين الذي توسم فيه ليغاتشيف كثيراً من الخير والانضباط للعاصمة السوفياتية. واشتعل الصدام الذي انحاز غورباتشوف إليه للتخلص من يلتسين، ومما استطاع تحقيقه من شعبية جارفة ليس في موسكو وحدها، ومن هنا ولد القول المأثور الذي يحسبونه على ليغاتشيف.
أعلن ليغاتشيف من على منصة المؤتمر الحزبي الـ 19 في العام 1988: "بوريس أنت لست على حق، إن ما لديك من طاقة هي طاقة تخريبية وليست إبداعية". أعاد ليغاتشيف إلى الأذهان أنه كان وراء ترشيحه للعمل في جهاز الحزب الشيوعي السوفياتي في موسكو بتكليف من الأمين العام الأسبق أندروبوف، الذي لم تسعفه الحياة طويلاً على رأس الدولة. كشف عن إدمان يلتسين الخمور، ودوره الرئيس في توقيع اتفاقات "بيلوفجسكويه بوشا" في ديسمبر (كانون الأول) 1991، التي كانت المقدمة العملية والأساس القانوني لانهيار الاتحاد السوفياتي السابق.
غورباتشوف وتاتشر
الخلاف بين ليغاتشيف وغورباتشوف لم يطل طويلاً، إذ استغله من وقف على مقربة يغذي طموحات الزعيم السوفياتي الأسبق في التمرغ في أحضان الغرب، والتمتع بأضوائه ومديح زعمائه، وخصوصاً مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية، التي طالما احتفظت لنفسها بحق اكتشاف غورباتشوف، وسارعت إلى السفر إلى واشنطن لتزف إلى الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان نبأ وقوع الزعيم السوفياتي في شباكها. وكان زارها في لندن العام 1984، قبل توليه منصب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي. ولعل هذه الزيارة التى ثمة من يضيفها إلى زيارات مماثلة سابقة قام بها غورباتشوف وقرينته إلى كل من إيطاليا وكندا التي التقي فيها بألكسندر ياكوفليف السفير السوفياتي هناك، يمكن أن تكون شاهداً على توجيه انتباه غورباتشوف إلى فكرة البيريسترويكا والغلاسنوست، التي يجد المتابع لتاريخها ومفرداتها كثيراً مما يجمعها مع فكرة "الثورات الملونة"، التي عادت لتعصف بما بقي من استقرار في الفضاء السوفياتي السابق مع مطلع الألفية الثالثة، مثلما حدث في جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان، ويحدث الآن في بيلاروس.
وعلى الرغم من ذلك، فقد حاول ليغاتشيف أن ينسب فكرة البيريسترويكا إلى الماضي السوفياتي، وأنه يعدها مشروعاً يستمد كثيراً من أركانه من الماضي السوفياتي القريب. وأعاد إلى الأذهان "السياسة الاقتصادية الجديدة" التي أقرها في مطلع عشرينيات القرن الماضي فلاديمير لينين، زعيم ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917 الاشتراكية، لإنقاذ الثورة من عثراتها. ومن المعروف أن هذه السياسات الاقتصادية الجديدة كانت تتضمن كثيراً من مبادئ الرأسمالية، ومنها ما يتعلق بالسماح بالقطاع الخاص. تحدث عن سياسات التصنيع والتحول إلى عسكرة الصناعة، وما أعقبها من سياسات اقتصادية تعني بالقطاعات المدنية أسوة بما فعلت الصين الشيوعية، وكشف ليغاتشيف عما وصفه بـ "تراجع" غورباتشوف عن كثير من المشاريع الإصلاحية، مما وافر المقدمات لسقوط الدولة، وهو ما اضطلع يلتسين بتنفيذه لتحقيق انهيار الاتحاد السوفياتي.
خطوات السقوط
استعرض المسؤول الحزبي خطوات السقوط، وقال إنها بدأت بتحول عدد من القيادات الحزبية في الأقاليم من هواة تحقيق الثروات الشخصية صوب اقتسام السلطة، مشيراً إلى ظهور ما سمي لاحقاً بممثلي الأوليغاركيا و"الطغمة الاقتصادية"، وانتشار ما يسمى اليوم بظاهرة "تزاوج السلطة مع رأس المال"، وأعاد ليغاتشيف إلى الأذهان ما أعرب عنه أندريه غروميكو وزير الخارجية السوفياتية الأسبق من خيبة أمل في غورباتشوف، وهو الذي كان تولى في اجتماع المكتب السياسي بعد وفاة الأمين العام قسطنطين تشيرنينكو، مبادرة ترشيحه أميناً عاماً للحزب الشيوعي. وعرج ليغاتشيف على الحديث عن أنه لم يتدارك في حينه تحول غورباتشوف بعيداً من الجادة والصراط المستقيم، وهو الذي كان يشغل عملياً المنصب الثاني في سلم القيادة السوفياتية، معترفاً بأنه لم يكن يملك الخبرات السياسية الكافية. وقال إنه اكتفى بكتابة رسالة إلى غورباتشوف في مارس (آذار) 1990، يقول فيها إن الوطن في خطر، وإن أخطار الانهيار تدهم الاتحاد السوفياتي، مشيراً إلى أنه طلب منه الدعوة إلى عقد اجتماع طارئ للجنة المركزية للحزب الشيوعي، وخلص في حديثه إلى أن غورباتشوف اكتفي بالاحتفاظ بالرسالة، إلى أن اتخذ قراره بإعفائه من عضوية المكتب السياسي وإبعاده من مراكز صناعة القرار. واعترف ليغاتشيف أنه حاول توحيد صفوف الأصدقاء من ذوي الاتجاهات الإيجابية رغبة في انقاذ الوطن، لكن كلاً من هذه الاجتماعات كان ينتهي باعتراف المدعوين بأهمية المسألة وإعرابهم عن شكرهم على الثقة فيهم، معتذرين في الوقت نفسه عن الاضطلاع بمثل مهمة الإطاحة بغورباتشوف، نظراً لما يراودهم من مخاوف ذاتية وشخصية.
لكن ذلك سرعان ما استطاع يلتسين القيام به ، بعدما نجح في الاستفادة من أخطاء المجموعة التي دبرت ما سمي بـ "انقلاب أغسطس (آب) 1991"، الذي استهدف الإطاحة بغورباتشوف، وشارك فيه معظم أركان القيادة السوفياتية، ومنهم نائب الرئيس غينادي يانايف، ورئيس الحكومة السوفياتية، ووزيرا الدفاع والداخلية، ورؤساء لجان الأمن والمخابرات وآخرون كثر ضمن المجموعة التي سميت بـ "لجنة الطوارئ". وكان يلتسين انتزع زمام المبادرة من نظرائه رؤساء الجمهوريات السوفياتية السابقة في أعقاب فشل الانقلاب، منتهزاً الوضع البائس الذي كان عليه خصمه وغريمه غورباتشوف بعد "إنقاذه" من حصاره في منتجع فوروس، وكانت البداية توالي إعلان هذه الجمهوريات استقلالها أسوة بإعلان السيادة والاستقلال الذي كان صدر عن مجلس السوفيات الأعلى في روسيا الاتحادية في وقت سابق، وما تلا ذلك من تطورت انتهت بتوقيع اتفاقات "بيلوفجسكويه بوشا" مع رئيسي أوكرانيا ليونيد كرافتشوك وبيلاروسيا (بيلاروس حالياً) فياتشيسلاف شوشكيفيتش في الثامن من ديسمبر 1991، وما كان مقدمة لتطورات عاصفة انتهت بغورباتشوف إلى تسليمه بالأمر الواقع، والإعلان عن تخليه عن منصبه، وانتهاء الاتحاد السوفياتي مساء الـ 25 من ديسمبر1991، ورفع علم روسيا الاتحادية فوق الكرملين، معلناً نهاية حقبة تاريخية امتدت إلى ما يزيد قليلاً على 74 عاماً.