Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عودة إلى العلاقة بين الأستاذ طاغور وتلميذه "راي"

الشاشة حين ترث فكر صاحب "نوبل" ونصير الاستقلال والتقدم والنساء

رابندرانات طاغور خلال زيارة إلى طوكيو يعتقد أنها كانت عام 1916 (غيتي)

لو شئنا هنا أن نورد قائمة بكتابات الهندي الكبير رابندرانات طاغور، التي تطاول كل أنواع الأدب وصولاً إلى تأليف الأغاني؛ لاحتجنا إلى ما يزيد كثيراً على المساحة المخصصة لهذه الزاوية؛ فالرجل ظل طوال عقود حياته يكتب القصة والرواية والنصوص المسرحية والشعر والنقد والتأريخ للأدب، وغير الأدب، ولا يتوقف عن الكتابة، وهو الذي إلى جانب ذلك خاض مجال السينما والتعليم الجامعي والنضال السياسي والموسيقى والرسم إلى درجة يعجز معها عن اللحاق به أي جهاز استقصاء.

ولئن كنا نعرف كثيراً عن العلاقة العائلية بين طاغور والسينمائي الهندي – البنغالي الكبير ساتياجيت، وأن تلك العلاقة التي بدأت باكراً حين كتب طاغور قصيدة تحية للطفل الذي كانه راي وهو في السادسة من عمره، ونعرف بالتالي أن هذا الأخير قد اقتبس ما لا يقل عن ثلاث من قصص طاغور لأفلام له تعتبر من أهم أفلامه "ثلاث أخوات"، و"شارولاتا"، و"البيت والعالم"، التي يجمع بينها كون كل منها يقدم صورة للمرأة الهندية التي تطالب بالتحرر والتقدم، فإن ما لا بد أن نشير إليه هنا هو أن راي قد حقق في عام 1960 فيلماً وثائقياً عن حياة ومسيرة طاغور، عرض على نطاق واسع بمناسبة الاحتفال في العام التالي 1961، بعشرينية رحيل الكاتب، وسنعود إليه بعد سطور.

أما هنا فنتابع القائمة "المستحيلة" التي تتألف من مئات العناوين؛ لنشير إلى أن في إمكاننا أن نضيف إليها قائمة تضم نحو مئة عنوان لأفلام عشرات المخرجين الهنود، وفي شتى لغات شبه القارة الهندية، اقتبست من نصوص طاغور، بحيث يبدو ساتياجيت راي في هذا السياق "متخلفاً" عددياً على الأقل، عن زملائه المخرجين الأكثر جدية في مجال النهل من طاغور.

روح طاغور طاغية

مع ذلك، وللإنصاف، لا بد من التأكيد أن الأفلام الثلاثة الروائية التي اقتبسها راي عن أستاذه الكبير، تبقى الأكثر قدرة على التغلغل في روح طاغور، وفي عمق أفكاره؛ فساتياجيت راي رافق طاغور منذ كان هو طفلاً، وكان طاغور صديق عائلته ويقرأ في منزل تلك العائلة وكأنه واجب مقدس ولذيذ.

ومن هنا يمكن أن نقول دون أي تردد، إن كل سينما ساتياجيت راي تبدو في نهاية الأمر مطبوعة بخاتم طاغور، بحيث لم يكن مبالغاً ذلك الباحث في العلاقة بين أدب الأول وفن الثاني حين قال "لو أن ساتياجيت كان كاتباً عاش ونشط عند بدايات السينما، ولو أن طاغور ولد بعد عقود من الزمن الذي ولد فيه، لانعكست الآية، وأتت سينما طاغور لتترجم أدب ساتياجيت راي"، ما يشير طبعاً إلى أن سينما راي يمكن أن تكون امتداداً بالصورة لأدب طاغور.

مع هذا، لا بد من القول إن الاهتمام المباشر الذي أبداه راي بالاستعانة بأدب طاغور في أفلامه يعود إلى الفشل الذي حصده واحداً من أكثر أفلامه طموحاً في ذلك الحين "حجر الفلسفة"، في عام 1960، فالفشل كشف لراي عن أنه قدم، في سبيل إضفاء طابع فلسفي، ولو ساخر على سينماه، تنازلات على مستوى الأداء الفني لم يكن يرغب في تقديمها؛ فكان ذلك بالنسبة إليه مدعاة مراجعة كبيرة للذات تواكبت مع إنجازه الجزء الثالث من"ثلاثية آبو".

ولقد مهد هذا كله لديه لإحداث قلبة في عمله أنتجت لجوءه إلى أستاذه الكبير رابندرانات طاغور، ولعل شعبية هذا الأخير وصواب مواقفه في أعماله، ساندا ذلك.

وهكذا، كان ذلك العام بالنسبة إليه عام "أخوات ثلاث"، المأخوذ من قصة لطاغور، ثم عام الفيلم التسجيلي الذي حققه عن "طاغور". والحال أن وضع ساتياجيت راي نفسه تحت عباءة طاغور في هذين الفيلمين، تواكب مع بدئه كتابة موسيقى أفلامه بنفسه. وهكذا، بدأ راي طريقه ليصبح "مؤلفاً" حقيقياً، في وقت كان حضوره السينمائي، النظري على الأقل، يكبر في العالم كله، في حين تتزايد هامشيته في القارة الهندية؛ بل حتى في البنغال.

النساء على خطى الأستاذ

لم يكن من الصدفة أن يزداد اهتمامه منذ ذلك الحين بأن يصبح الجزء الأساسي من الفيلم يتحلق من حول شخصيات نسائية، وهو في هذا أيضاً كان يتبع درب طاغور، لكن هذا التوجه لم يبعده عن الغوص، عبر أفلامه، في المشاكل الاجتماعية أكثر وأكثر. ودائماً تقريباً، من حول فكرة أساسية هي فكرة المجابهة بين عالمين؛ فكما أنه في "ثلاثية آبو" رسم فيلماً بعد فيلم المجابهة بين الطفولة وعالم الكبار، ثم بين الريف والمدينة، وصولاً إلى المجابهة بين البؤس والعيش نفسه، نراه في "صالون الموسيقى" يرسم المجابهة بين عالم ينهار وآخر يولد.
وفي "ديفي" رسم المجابهة مع التقاليد وارتداء الشعوذة لبوس الإيمان، سنجده في أفلام تالية له يواصل تصويره شتى أنواع المجابهة، مثل المرأة في وجه المجتمع والتقاليد العائلية المكبلة في "الزوجة الوحيدة" (1964)، وهو موضوع سيعود إليه مراراً وتكراراً، لا سيما في "البيت والعالم" (1984) المقتبس بدوره عن قصة لطاغور، والمجابهة السياسية في "عاصفة بعيدة" (1973)، أحد أكثر أفلامه تسيساً، وهو الفيلم الذي أعطي جائزة أفضل فيلم في برلين في العام نفسه، والمجابهة ضد الفساد في "الوسيط" (1975)، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن "المدينة الكبيرة"، ثم خصوصاً عن "شارولاتا"، الذي يعتبر أحد أجمل وأقوى الأفلام التي حققها خلال مرحلته الأولى. وكان "شارولاتا" مقتبساً بدوره عن طاغور، ما يوصلنا في التراجع الزمني إلى فيلمه الوثائقي عن أستاذه.
 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حياة فكرية على الشاشة   

في فيلم "رابندرانات طاغور" يتابع راي مسيرة هذا الأخير منطلقاً من الجنازة القومية المهيبة التي أقيمت له حين توفي، وكانت قد صورت قبل عشرين عاماً، لكن صورها لا تزال جيدة وصالحة للاستعمال، ثم انطلاقاً من المشاهد الحقيقية لتلك الجنازة ينتقل راي بالكاميرا إلى مدينة كلكوتا، حيث يقدم لنا وثائق فوتوغرافية متنوعة تمثل زمن ولادة طاغور في عام 1861، ثم يقدم لنا الفيلم شجرة طاغور العائلية، ويبدأ المزج بين مشاهد مصورة تظهر طاغور طفلاً بين إخوته وأهله، وبين صور فوتوغرافية لكل هؤلاء، مع تركيز خاص على الأجواء الفنية التي كانت سائدة في منزل آل طاغور في ذلك الحين.

وهكذا، بعد هذه المقدمة التي تدخل المتفرج مباشرة في عالم الكاتب وعائلته ومدينته، ثم الهند في شكل عام، تبدأ بالتتابع مشاهد تمثيلية ووثائق مصورة ترينا على التوالي "المدرسة، ثم رحلة طاغور الأولى إلى إنجلترا، ثم تأملاته وحيداً في حضن الطبيعة، فبداية كتاباته، ثم زواجه وهو في الثانية والعشرين، والجولة التي تلت ذلك في الريف الهندي".

صلوات من أجل السلام

ومن هناك ننتقل إلى تقسيم اللورد كارزن منطقة البنغال ما أثار احتجاجات شعبية شارك فيها طاغور الذي انهمك في كتابة الأغاني السياسية المتمردة، بيد أن ذلك الوضع، وكما يرينا الفيلم، سرعان ما أدى إلى اندلاع أعمال إرهابية نأى طاغور بنفسه عنها، وشجبها قبل أن ينسحب إلى حياته الأدبية، ويبدأ بإصدار كتبه التي راحت تترجم، وصار معروفاً في أوروبا، التي بدأ يزورها باستمرار، حتى فوزه بجائزة نوبل للأدب في عام 1913، ثم منحت لندن له لقباً نبيلاً تكريمياً.

ومنذ ذلك الحين صار الفيلم أكثر توثيقاً، لأن الوثائق الفيلمية باتت متوافرة، لا سيما مشاهد الحربين العالميتين الأولى والثانية، اللتين وقف طاغور ضدهما انطلاقاً من نزعة انسانية. وخلال هذا القسم الأخير من الفيلم تبدو مؤثرة جداً صلوات طاغور من أجل السلام والإنسان ولقاءاته مع غاندي، والحال أن الفيلم نفسه ينتهي بطاغور يصلي من أجل الانسان.
حين حقق ساتياجيت راي (1921–1992) فيلمه هذا عن طاغور كان قد بدأ يعرف على نطاق ما، ولكن في الحلقات النخبوية من محبي السينمائي في أوروبا. أما في الهند فإنه بقي هامشياً لفترة طويلة. وحتى حين بدأت أفلامه تنتشر، لم يقيض له من الشهرة ما يتمتع به مئات المخرجين والفنانين الذين جعلوا من السينما الهندية أضخم صناعة سينمائية في العالم؛ فراي، بأفلام مثل "عالم آبو"، و"صالون الموسيقى"، و"لاعبا الشطرنج"، و"البيت والعالم"، و"عدو الشعب"، و"الغريب"، وقف دائماً ضد التيار؛ أراد للسينما أن تكون فناً رفيعاً يضاهي الأدب الكبير. أراد لسينماه بشكل ما أن تكون معادلة لما حققه أستاذه الكبير طاغور في الأدب والفكر، فهمش في بلاده في حين بجل في الخارج.

المزيد من ثقافة