Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أشهر محاكمات التاريخ المعاصر على خشبة المسرح الفني في موسكو

"فالس نورمبرغ" تأكيد على اعتماد روسيا الفن كإحدى أهم أدواتها لإيقاظ الوعي الوطني

جانب من محاكمات القياديين النازيين في نورمبرغ الألمانية (غيتي)

بات واضحاً تحوّل روسيا إلى اعتماد "مسرحة" الأحداث التاريخية بوصفها إحدى أهم أدوات إيقاظ ذاكرتها الوطنية ووعيها القومي. فبعد استعراض "مسرح الأمم" لسيرة ومسيرة الزعيم السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف، واستعادة تاريخ رئيس الحكومة الروسية الأسبق في مطلع القرن الـ 20 بيتر ستوليبين، على خشبة "المسرح الفني للدراما" الذي يحمل اسم الأديب الروسي ماكسيم غوركي في مسرحية بعنوان، "رئيس الوزراء من دون أصدقاء"، جاء دور "محاكمات نورمبرغ" أشهر المحاكمات في التاريخ المعاصر، التي وجدت المساحة المناسبة لإماطة اللثام عن كثير من خفاياها، في توقيت مواكب لاحتفالات موسكو بالذكرى الـ75 للنصر على الفاشية.
ومع ذكرى بدء هذه المحاكمات في 20 نوفمبر 1945، والتي استمرت حتى الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 1946، شهدت جماهير العاصمة الروسية أول عروض مسرحية "فالس نورمبرغ"، ضمن إطار مبهر من أجمل الديكورات الفنية التي أعادت إلى الأذهان أجواء أشهر المحاكمات في التاريخ العالمي المعاصر. واستلهم دميتري رازوموف فكرة كتابة سيناريو "فالس نورمبرغ" الذي يحمل كثيراً من أفكاره الطليعية، من واقع ما كتبه مؤلف المسرحية ألكسندر زفياغينتسيف، وما استند إليه من وثائق أرشيفية، عمد من خلالها إلى تأكيد الدور البطولي للاتحاد السوفياتي السابق في دحر الفاشية والانتصار على النازية. كما أن ما جادت به قريحة فنيي الديكور من مفردات، أسهمت في تحويل مدخل المسرح إلى ما هو أقرب إلى "صورة طبق الأصل" عن مدخل وردهات "قصر العدالة" الأشهر في نورمبرغ، و"القاعة 600" التي شهدت وقائع المحاكمة التاريخية لقيادات النازية، إلى جانب "البوفيه" بجدرانه وموائده الخشبية، ما أضفى سمات الواقعية التي اقتربت بأجواء المحاكمة إلى تاريخ الأمس القريب، وتحول معها الجمهور الحاضر في المسرح إلى شبه شهود في قاعة المحكمة.

حب مستحيل

إلا أن هذه المسرحية لم تكن مجرد سرد لوقائع تاريخية "جافة"، بقدر ما كانت خليطاً من الأحداث التي امتزجت فيها الواقعية بالخيال مع الحكايات الإنسانية، ففيها يستمتع المشاهد بمتابعة قصة الحب التي "نشبت" بين "إيرينا" احدى مواطنات الاتحاد السوفياتي المنتمية إلى الرعيل الارستقراطي الذي بادر بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية في عام 1917 بالرحيل إلى فرنسا، و"دينيس" أحد ضباط الاستخبارات ممن دفعت بهم القيادة العسكرية السوفياتية إلى ما وراء خطوط العدو. وفيما أسهم هذا الواقع في خلق الأجواء الطبيعية لاستخدام اللغة الروسية للحديث بين بطلي هذه "الحكاية الإنسانية"، فقد زاد من حدة وتيرة مفرداتها انتماء كل منهما إلى طبقة اجتماعية مغايرة للآخر. فالضابط السوفياتي البولشفي العقيدة والتوجه، ينتمي الى إحدى الطبقات المعدمة، ويتواصل مع إحدى أنصار الملكية القيصرية، وابنة لمهاجرين من ممثلي الارستقراطية الروسية، مما يتحول بالعلاقة في بداياتها إلى مواجهة بين ممثلي فصيلين متناحرين، لطالما انتميا إلى ما كان يطلق عليهم "البيض"، أي أنصار القيصرية المعادين لثورة أكتوبر، و"الحمر" أي ممثلي العمال والفلاحين وكل من أيّد الثورة الشيوعية، من أبناء الدولة الواحدة. وتحكي هذه المسرحية مفردات علاقة بين بطليها تطورت من عداء صارخ في بداياته، تحول تدريجاً إلى تقارب عاطفي بلغ حد السقوط في شرك الحب على الرغم من يقين طرفيه بأن لا آفاق لهذا الحب. فلم يكن لأي من بطلي قصة الحب الرومانسية أن ينسى أو يتناسى تلك القوى السياسية التي لن تسمح لأي منهما بنهاية طبيعية لقصة العشق والغرام. ولكَم كانت غريتا شوشتشيفيتشوتيه، مخرجة هذا العرض المسرحي الليتوانية الأصل والجنسية، بارعة في اختيار الموسيقى التصويرية للموسيقار الألماني الشهير ريتشارد فاغنر المفتون بهتلر وانتصاراته، لتكون خطاً أحمر يفصل ما بين ممثلة الأرستقراطية الروسية المولعة بهذه الموسيقى، وضابط الاستخبارات الروسية "الأحمر" المرغم على عدم تقبل فرضية الاستماع إليها.

شاهد مفاجئ

ويقول مؤلف المسرحية زفياغينتسيف إن "المحاكمة أكدت بما لا يدع مجالاً للجدل، ليس فقط حول إدانة المعتدي، بل وحددت قانوناً جوانب جريمته". ونذكر في هذا الصدد ما قاله هيرمان غيريغ أحد أبرز القيادات السياسية والعسكرية الألمانية، في دفاعه حول أنه "ينفي حقيقة أن ألمانيا استعدت للحرب ضد الاتحاد السوفياتي"، وتأكيده على أن ما قامت به ألمانيا من عمليات هجومية ضد الاتحاد السوفياتي في يونيو (حزيران) 1941، لم يكن إلا من أجل استباق العدوان الذي كان يضمره ستالين". ومن واقع ما احتوته "الأرشيفات السوفياتية والأجنبية"، التي قال مؤلف النص المسرحي إنه استند إليها، اصطدمت مثل هذه الحجج التي وصفها بالواهية، بشهادة الـ "فيلد مارشال" فريدريك باولوس قائد القوات الألمانية في معركة ستالينغراد إحدى أكبر معارك الحرب العالمية الثانية، التي أدلى بها وكشفت عن مضمون خطة "بارباروس". وأكد المؤلف أن ظهور باولوس في قاعة المحاكمة باغت كثيراً من النازيين المتهمين، ممَن لجمتهم مفاجأة أنه لا يزال على قيد الحياة، فضلاً عن أنه لم يكن هناك من يعتقد أن الاتحاد السوفياتي يمكن أن يخاطر بنقل باولوس قائد القوات الألمانية في معركة ستالينغراد الذي تمكنت القوات السوفياتية من أسره مع حوالي 100 ألف من قواته في أواخر يناير (كانون ثاني) 1943، للإدلاء بشهادته داخل قاعة المحاكمة في نورمبرغ الواقعة داخل المنطقة الخاضعة للسيطرة الأميركية من الأراضي الألمانية. لكن ما قلب المحاكمة "رأساً على عقب" كما يُقال، هو أن باولوس لم يغير شهادته أو يتراجع عن اعترافاته التي كان أدلى بها أمام القيادة العسكرية السوفياتية، ما هدم كل منظومة دفاع هيرمان غيرينغ، أحد أبرز القادة النازيين بعد هتلر ومساعده غوبلز، وزملائه من القياديين العسكريين الألمان الذين صدرت على تسعة منهم أحكام بالإعدام.

الفن والنفس البشرية

وحول هذا النص المسرحي، وفي مؤتمر صحافي عقده المسرح الفني للدراما بالتعاون مع وكالة "نوفوستي" الروسية، قال المدير الفني لمسرح غوركي للدراما إدوارد بوياكوف، إن "الجميع يدرك مدى الأهمية التاريخية لهذه المحاكمات، وهناك من يعتبرها علامة فارقة في تاريخ القرن الـ 21، إضافة إلى المؤشرات والقرائن التي تقول إن كل البناء المعماري لـ "أوروبا ما بعد الحرب" يستند في كثير من أركانه إلى نتائج هذه المحاكمات". هكذا قال بوياكوف، وإن عاد ليستدرك ما فاته، مستخدماً حرف العطف "لكن"، الذي طالما قال عنه الأديب الروسي، "امبراطور القصة القصيرة" أنطون تشيخوف: "آه من لكن هذه"، لتدارك ما غفل عنه أو تاه منه.

 وقال بوياكوف إنه "ما من علم أو حقيقة أو تاريخ أو إعلام يمكن أن يغيّر ما يمكن أن يفعله الفن مع النفس البشرية"، في إشارة إلى ما وراء قصة الحب التي اشتعلت بين بطلي العرض المسرحي، "إيرينا" التي أدت دورها الفنانة اليزابييث أرزاماسوفا، وضابط الاستخبارات السوفياتية "دينيس" الذي قام بدوره الفنان أناتولي رودينكو. وخلص إلى القول إن "ما جرى على المسرح من أحداث يتلاقى ويتقاطع مع كثير من الأحداث الراهنة التي نشهد كثيراً من مفرداتها مع كل يوم جديد". 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


مهمة شاقة

أما مخرجة العرض غريتا شوشتشيفيتشوتيه، فاعترفت بأنها لا تزال بعد مخرجة شابة، شرُفت بثقة مدير مسرح ذو قدر، مثل المسرح الفني للدراما، مما دفعها إلى أن تعكف على الدراسة والبحث والاطلاع في محاولة فهم المزيد، وتدارك أهمية تقديم مثل هذا الموضوع على خشبة المسرح، "ذلك لأنه يمكن إرغام المرء، بما في ذلك الإنسان الشاب، على التفكير من خلال ما يخالجه من مشاعر وإحساسات". وأضافت، "أما الحرب فتلك قضية حية لا يمكن نسيانها أو تناسيها، كي لا تتكرر مرة أخرى".
وحول أهمية الزمان والمكان، قال زفياغينتسيف، إن "المسرح الفني للدراما هو المسرح الوحيد في روسيا الذي أدرك وعلى مدى 75 سنة أهمية إخراج مسرحية تتناول محاكمات نورمبرغ على مثل ذلك النحو الذي خرج به للمرة الأولى، ليس في تاريخ الاتحاد السوفياتي وحسب، بل وفي روسيا أيضاً، لتناول قضية لم تكتف بتحديد المسؤولية الجنائية لمجرمي الحرب وإدانة مرتكبيها، بل ولتحديد ماهية الجرائم التي ارتكبوها". وكشف المؤلف أنه عكف على مدى سنوات طويلة على تقصي الحقائق والبحث عن الأدلة والقرائن عبر مشاهدة وتقليب آلاف صفحات الوثائق ومحتويات "الأرشيف" داخل روسيا وخارجها، إلى جانب عشرات الكتب الصادرة حول هذا الشأن في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، فضلاً عن لقاءات مع عدد من شهود هذه المحاكمات التاريخية، ومنهم بنجامين فيرينتس الذي يبلغ من العمر 101 عام اليوم، إضافة إلى جلوسه لساعات طوال مع رومان رودينكو، المدعي العام السوفياتي في محاكمات نورنبرغ وعدد من مساعديه. وخلص المؤلف إلى تأكيد مدى الصعوبة التي يمكن أن يصادفها "المسرحيون" لدى التصدي لمثل هذه الأعمال التاريخية، لوضعها في قالب فني درامي، بما لا يخل بالنص ومن دون أن ينال من مفردات ما يتضمنه من وثائق وحقائق.

وأضافت ليزا أو اليزابيث أرزاماسوفا، بطلة "فالس نورمبرغ" أن الحرب العالمية الثانية تحمل بالنسبة لها من الغموض ما تحمله الحرب الوطنية الروسية ضد نابليون في عام 1812، ولذا ترى أن جيلها مدعو إلى تفهّم ما تتضمنه مفردات هذا العرض المسرحي من معان، أهمها أن ما جرى ويجري من حروب لا بد من استيعاب أركانه، وتدارك الأسباب التي يمكن أن تفضي إلى مثل تلك الآثار المدمرة التي يكتفي بمشاهدتها عبر السينما والتلفزيون. وأضافت أن "المشاعر الجارفة الفياضة، من خوف ورعب ومعاناة، تظل أهم سبل التأثير التي يمكن للمسرح أن يُلجأ إليها للوصول إلى عقل وقلب وروح المشاهد". 

عداء تاريخي ولكن...

كان لافتاً في مسألة انتشار ظاهرة العودة إلى "مسرحة" الأحداث التاريخية، واستعادة رموز الماضي من أجل إصلاح الحاضر في روسيا المعاصرة، أن مخرجة العرض شوشتشيفيتشوتيه، وهي ممثلة وكاتبة سيناريو وأستاذة جامعية ليتوانية الأصل والجنسية، تلقت تعليمها المسرحي في موسكو على يدي المخرج السينمائي المعروف سيرغي سولوفيوف، الأستاذ في المعهد العالي للسينما الذي تخرجت فيه عام 2014. وعلى الرغم من "العداء التاريخي" بين روسيا وليتوانيا الذي أسهم في تسريع وتيرة الانفصال بين بلدان البلطيق، ومنها ليتوانيا التي كانت أولى البلدان التي أعلنت انفصالها عن الاتحاد السوفياتي السابق عام 1991، تبدو غريتا شوشتشيفيتشوتيه الأكثر اهتماماً بين ممثلي الجيل الشاب في هذه الجمهوريات اهتماماً بالمواضيع الروسية والسوفياتية. وكانت عكفت في العام الماضي وحده على إخراج أكثر من عمل فني في موسكو والجمهوريات السوفياتية السابقة، ومنها "نهاية بيريا" (وزير داخلية ستالين)، على خشبة مسرح الجيش السوفياتي، و"قصة ايفان غروزني "الرهيب" ويليزافيتا" في أرمينيا. وهي في ذلك تقترب من المخرج الفيس هيرمانيس ابن جمهورية لاتفيا السوفياتية السابقة، الذي كان أيضاً أول من اختار سيرة ومسيرة الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف لتقديمهما على خشبة "مسرح الأمم" في قلب العاصمة الروسية في وقت سابق من هذا العام.
وهكذا تؤكد مسرحية "فالس مورنبرغ" أن العودة إلى التاريخ لم تعد حكراً على المسرح والسينما اليوم في روسيا، إذ تجاوزتهما هذا العام لتصل إلى وكالات الأنباء والمؤسسات الإعلامية، ومنها وكالة "نوفوستي" التي اعتمدت مشروع استعادة أحداث "محاكمات نورمبرغ التاريخية"، لتقديمها تحت عنوان، "نورمبرغ... بداية السلام"، في إطار مشروع مشترك مع المسرح الفني للدراما في العاصمة الروسية.

المزيد من ثقافة