Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لقاحات كورونا في رباعية محورها "الأشواك" وثورة الجينات

البرودة الشديدة نقطة مهمة في مدى عملانية استخدامها الواسع

جاءني صوته مثقلاً بمزيج من الألم والسخرية! بعد السلامات والمعاتبات والمجاملات المألوفة، قفز صديقي إلى النقطة التي تؤرقه وتدعوه إلى التمرد أيضاً والاستهزاء بإجراءات الوقاية من جائحة كورونا. حدث ذلك في شتاء 2020، وإغلاقات كورونا غيرت شكل الحياة جذرياً وبشكل مفاجئ، وصار العيش غير مألوف في معظم نواحيه. وارتسم آنذاك في الأفق سؤال حارق "إلى متى"؟ يستمر هذا الخروج القاسي عن الحياة التي طالت ألفة البشر بها.

حاول صديقي الدخول إلى الحوار من باب السخرية. "لماذا نُجبر على تحويل منازلنا سجوناً، طالما أن بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا، يعول على "مناعة القطيع" Herd Immunity، ويرى أن لا مانع من انتشار وباء كورونا، لأنه عندما تصبح نسبة الإصابات كبيرة، ينكسر انتشار الوباء بفضل وجود عدد كبير ممن يصبحون منيعين بعد إصابتهم بكورونا... نعم. نعم. بريطانيا لا سواها ذات الحول والطول في العلم، تلك التي نفاخر بتخرج أطبائنا منها، ترى الحل في انتشار الوباء، وليس في العزل المنزلي والكمامة وغسل الأيدي والتباعد الاجتماعي. إذاً، نحن نُخطئ في التصرف. يجب الاعتماد على مناعة القطيع والخروج من العزلة التي شلت الحياة وخنقت النفوس".

لعل النقطة الأهم في تلك الكلمات تكمن في مناعة القطيع. نعم. إنها "درة التاج" في مساعي الخروج من جائحة كورونا. ووفق ما بينت لصديقي قبل أقل من سنة، لا شيء في الوقاية من الأوبئة يفوق أهمية مناعة القطيع.

وبالطبع، بات معروفاً سوء تدبر بوريس جونسون لنصيحة العلماء بشأن مناعة القطيع التي تسمى أيضاً المناعة المجتمعية. إذ تهدف برامج التلقيح ضد الأوبئة، إلى نشر مناعة واسعة بين الناس. وتبدو المعادلة سهلة في أساسها، بمعنى أن يُعطى الناس لقاحاً ضد فيروس معين، فتولد أجسامهم مناعة ضده، وتصبح مستعصية عليه. وحتى إذا أصيب شخص ما بالفيروس، يكون كثيرون من مخالطيه منيعين، فلا يصيبهم بمرض (أو يعانون نوعاً "خفيفاً" منه) ولا ينقلونه إلى آخرين.
 

دروس مهمة من الجدري

منذ فجر الطب الحديث، تعمل برامج التلقيح على أساس توليد مناعة القطيع بهدف السيطرة على الأوبئة. وجاءت الخطوة الحاسمة في القرن التاسع عشر، مع صُنع لقاح الجدري (1796) وفرض برامج تلقيح إجبارية بشأن فيروسه في أوروبا في القرن التاسع عشر. وقبل حلول القرن العشرين، تقلص بشدة انتشار الجدري هناك، وبات تحت السيطرة. وسجل ذلك اللقاح أحد أضخم انتصارات الطب الحديث، مع اندثار الجدري واعتباره منقرضاً منذ 1980.

وعبر تلك العقود والسنوات، ومع انتشار الطب الحديث في أصقاع المعمورة، بات راسخاً في الثقافة العامة للبشر أن اللقاح شكل مخفف من الميكروب (سواء فيروس أو بكتيريا)، يُدخَل إلى الجسم فلا يكون له قوة إحداث مرض، بل يعمل الجسم على توليد مناعة ضده. ويستفيد الجسم من ذلك التدريب المناعي بأنه إذا واجه الميكروب المُسبب للمرض، يستنفر المناعة التي اكتسبها من "المعركة" مع الشكل المخفف، فتتصدى للميكروب المؤذي وتمنعه من إحداث مرض قوي.

من الأمثلة الشهيرة على ذلك أن لقاح "دي بي تي" DPT يشكل جسر المناعة الجماعية مع أوبئة الخانوق (دفتيريا) Diphteria والشاهوق (السعال الديكي) Pertussis والكزاز Tetanus. وكذلك الحال مع اللقاح الثلاثي الشهير "إم إم آر" MMR الذي يعطي مناعة ضد الحصبة  Measles (Rubeola) والنكاف ("أبو كعب"، بالعامية اللبنانية) Mumps  والحصبة الألمانية Rubella.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويستأهل لقاح "بي سي جي" BCG ضد السل حديثاً مستقلاً، لا تسمح به مساحة المقال. يكفي القول إن ذلك اللقاح جعل أحد أكثر الأمراض قتامة في ذاكرة البشر، شيئاً من الماضي. ولعل الشيء المهم أن يُستحضر في خضم جائحة كورونا، أن لقاح "بي سي جي" يولد خلايا مناعية من النوع المسمى "خلايا تي" T Cells، بكثافة عالية جداً. وتتميز خلايا "تي" بأنها تلتهم الميكروب، وتُشكل الضربة الثقيلة التي يسددها جهاز المناعة. وباختصار تبسيطي، يتكون خط الدفاع الأول في جهاز المناعة من أجسام مناعية، تعلق على الميكروب وتعيق عمله وتنهكه. وبعدها، أحياناً بأيام أو أسابيع قليلة، تأتي خلايا "تي"، وتضرب الميكروب، بل تلتهمه. وكذلك فإنها تستمر طويلاً، بمعنى أن جهاز المناعة يحتفظ بها جاهزة لمدة طويلة، وأحياناً لسنوات ربما تمتد على مدار العمر، كالحالة مع "بي سي جي".

إذاً، ثمة أبعاد كثيرة في مسألة اللقاح تشمل توليد أجسام مناعية تكون متخصصة وقوية بما يكفي للتصدي للميكروب، إضافة إلى توليد خلايا "تي" بوصفها الركن المكين في المناعة لأنها تلتهم الفيروس وتُشكل الركن الأساس في استمرارية المناعة زمنياً.

أربعة لقاحات، أربع مقاربات

ثمة أربعة لقاحات تقدمت حتى الآن على غيرها، وتعطى كلها في جرعتين، توخياً لتحفيز ذراعي المناعة، أي الأجسام المناعية وخلايا "تي".

ولعل من تابع تجارب لقاح كورونا، يستفيد من الوصف السابق في ملاحظة بضعة أمور. ففي بداية الجائحة، جرى التركيز على تركيبة جينوم (= المجموعة الكاملة للجينات التي تكونه) ذلك الفيروس، ويُسجل للصين أنها توصلت إلى تركيبة جينوم الفيروس بعد أيام من إعلانها وجوده وانتشاره في أواخر 2019. وسرعان ما سرى الحديث عن التحولات والتبدلات في تركيبة جينوم كورونا (تسمى تحوّرات) الذي ينتمي إلى عائلة تشتهر بكثرة التحوّرات في تركيبتها. ويعني ذلك أن المناعة التي تتولد ضد "شكل" معين من الفيروس، تغدو سريعاً غير فاعلة ضده بسبب التحوّر في شكله وتركيبته.  

إذاً، لم يكن ممكناً التعويل على الشيء التقليدي في لقاح كورونا، بمعنى صنع فيروس مخفف. وعمد العلماء إلى مقاربات أخرى.

وفي ذلك السياق، برزت أهمية تمرس العلماء في الجينات وتراكيبها. واتجهت أنظار كثيرين منهم إلى تلك "الأشواك" التي تغطي السطح الخارجي للفيروس، وتحيطه كأنها إكليل شوك، وذلك أساس اسم الفيروس لأن كورونا هو تاج، لذا لُقّب أيضاً بالفيروس التاجي.

وثمة نقطة مهمة تتمثل في أن الفيروس تركيبة جينية تماماً "من قمة رأسه إلى أخمص قدميه". وليست تلك "الأشواك" سوى جزء من الجينوم، بل إنها جزء فائق الأهمية لأنها تتولى مهمة "غرس" الفيروس في الخلايا التي يصل إليها في الجهاز التنفسي للإنسان.

وبتبسيط مُخِلْ، ركز علماء جامعة أكسفورد البريطانية على تلك "الأشواك"، ودرسوا تركيبها الجيني، وأطلقوا عليه اسم "البروتين كيه". تذكيراً، تتألف الجينات كلها من تراكيب تستند أساساً إلى البروتينات، بل يشار إليها أحياناً بالبروتينات التي تتشكل منها. إذا منعنا تلك "الأشواك" من الانغراس، ألا يكون ذلك كافياً لوقف ضربة فيروس كورونا؟ من بين 200 مقاربة في صنع لقاح ضد كورونا، تميزت مقاربة لقاح جامعة أكسفورد التي ترعاها شركة "آسترا زينكا" للأدوية، بتركيزه على "الأشواك"، بالأحرى التركيب الجيني المسمى "بروتين كيه". ومن ميزاته أيضاً أن البروتين "كيه" يحرك الأجسام المناعية وخلايا "تي"، كـ"نظرائه" الثلاثة الآخرين، إضافة إلى أنه لا يحتاج سوى برودة الثلاجة العادية التي تتراوح بين درجتين وثماني درجات مئوية. وفي آخر مستجداته أن التحديد العلمي بشأن قدرته على إعطاء وقاية من كورونا، ستظهر في أواخر ديسمبر (كانون أول) المقبل.

 

برودة أشد من الثلوج القطبية

ثارت ضجة كبرى حول لقاح شركة "موديرنا" الأميركية لأسباب عدة، ربما أبرزها أنه حرك مناعة ذات كفاءة في أكثر من 95 في المئة من الأشخاص الذين تلقوه، وتلك نسبة عالية تعطي الأمل بفائدته إذا أعطي على مستوى الجموع السكانية الكبيرة. ويُعطى في جرعتين. ويتميز بأنه اشتغل على مسألة تكاثر الفيروس. وعندما يدخل كورونا الجسم، يحتاج إلى دخول خلية بشرية كي ينفذ إلى نواتها التي تحتوي الجينوم، ثم يدمج تركيبته الجينية فيه، ويسيطر عليه. وفي خطوة تالية، يرسل الفيروس تراكيبه إلى منطقة متخصصة بصنع "نسخ" عن التراكيب الجينية وبروتيناتها، وهي موجودة خارج النواة، ويشار إليها بـ"إم آر أن إيه" MRNA، وحرف "إم" M يشير إلى التراسل بين جينوم الفيروس في النواة، و"مصنع" البروتينات الجينية خارجها. إنها آلية طبيعية تستعملها خلايا البشر كي تتكاثر طبيعياً. ويسخرها الفيروس لمصلحته، تماماً كما تفعل تراكيب السرطان. إنها آلية توصف بأنها "مصنع الحياة" للخلايا في الكائنات الحية كلها.

وكذلك يستعمل لقاح "موديرنا" تلك الآلية، ويعمل على إمداد "المصنع" بأجزاء من التركيبة الجينية لكورونا يُعتقد أنها هي التي تتسبب في المرض. ولأنها تكون "مجزوءة" ومعزولة عن بقية جينوم الفيروس (ولأسباب علمية أخرى)، فإنها تكون ضعيفة، فيتمكن الجسم من صنع أجسام مناعية، ثم خلايا "تي"، كي تواجهها. وفي المقابل، يتوجب الاحتفاظ بلقاح "موديرنا" في برودة ثلجية تقارب 20 درجة مئوية تحت الصفر، ما يوجب نسج سلسلة تبريد قوية كي تحفظه من نقطة إنتاجه إلى متلقي ذلك اللقاح.

وعلى نحو مماثل، ثمة قلق كبير تجاه البرودة التي يحتاجها اللقاح المرتفع الفاعلية الذي صنعته شركتا "فايزر (الأميركية)، و"بيونتك" (الألمانية)، إذ يجب ألا تقل عن سبعين درجة مئوية تحت الصفر، على امتداد سلسلة الإمداد باللقاح كلها. ويتميز لقاح "فايزر/بيونتك" بكفاءة عالية. ويستعمل تقنية الـ"إم آر إن إيه" في صنع نُسخ من الفيروس (تشمل أقساماً واسعة من تراكيبه الجينية)، يتعمد أن تكون مشوهة كي تبطل فاعليتها.

وفي سياق مواز، يلفت أن المراجع العلمية الأميركية كـ"الجمعية الأميركية لتقدم العلوم" و"معاهد الصحة الوطنية"، أبدت اهتماماً كبيراً باللقاح "المزدوج" الذي صنعته مؤسسة "جماليا" الروسية، وسمّته لقاح "سبوتنك في". ولم تعترض إلا على قِصَر مدة تجربته على البشر، وضآلة أعداد العينة التي دُرست استجابتها المناعية حتى الآن. في المقابل، تستمر جهود "جماليا" في تجربته على أعداد أكبر  ومجموعات بشرية متنوعة أيضاً (آسيويين وأوروبيين وهنود وأفارقة وعرب). ويتفرد لقاح لقاح "سبوتنك في" بأنه مكون من فيروسين يعملان كـ"شاحنة" لنقل أجزاء مستهدفة من فيروس كورونا إلى الجسم، كي تتعرض لضربات جهاز المناعة. وينتمي الفيروسان الناقلان إلى عائلة فيروسية معروفة تسمى "آدِنو فيروس" Adenovirus لأنها تصيب غدة لمفاوية في الجهاز التنفسي (اسمها "آدِنويد" Adenoid، ما يفسر التسمية) تقع مباشرة وراء الجدار الخلفي للأنف. وتضرب تلك الغدة فيروسات متنوعة تسبب أمراضاً معظمها "خفيف" نسبياً كالزكام العادي وحساسية الأنف.

وكذلك نزع علماء "جماليا" من الفيروسين التركيبة الجينية التي تمكنه من التكاثر، فصار "عقيماً"، ولا يستطيع سوى نقل التراكيب من دون التدخل فيها. وعمل العلماء على تحميل أحد الفيروسين تراكيب جينية من كورونا يعتقدون أنها تسبب المرض، فيما حمّلوا الآخر البروتين "كيه" نفسه الذي يستعمله لقاح أكسفورد. (ثار نقاش عن ذلك التشابه، لا يتسع المجال له). وقد أعطى مناعة فاعلة في 92 في المئة ممن تلقوه. ولا يحتاج إلا لبرودة الثلاجة العادية، على غرار لقاح أكسفورد أيضاً!

المزيد من صحة