Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"اعترافات زوجية" مسرحية سورية بين لعبة الذاكرة وحال السأم

مأمون الخطيب يعيد صياغة نص الفرنسي إيريك إيمانويل شميت مشهدياً

من مسرحية "اعترافات زوجية" على مسرح دار الأوبرا (الخدمة الإعلامية للفرقة)

اتكأ الفنان مأمون الخطيب في عرضه الجديد "اعترافات زوجية" على نص بالعنوان نفسه للكاتب الفرنسي إيريك إيمانويل شميت (1960). وهي من التجارب النادرة التي يستعير فيها مخرجو المسرح السوري نصوصاً لكتّاب معاصرين، إذ جرت العادة على اقتباس مسرحيات المكتبة، وهي أقرب إلى الأدب المسرحي منها إلى نصوص كُتبت لأدائها مباشرةً على الخشبة. وهكذا ابتعد المخرج السوري هذه المرة عما يطلق عليه أنطونان أرتو "الالتصاق بالنص"، مستلهماً عبر إعداد الكاتبة آنا عكاش للنص الأصلي، مادة درامية خالصة.

تجلّى ذلك في الجهد الدراماتورجي لاكتشاف أسلوب شميت، الذي عادةً ما يشتغل على نصوصه اشتغال المؤلف الموسيقي. فالنص لدى هذا الكاتب الفرنسي - البلجيكي بمثابة نوتة قوامها الحوار الرشيق والعصبي بين الشخصيات، الذي يوزعه وفق إحالات إخراجية صارمة ودقيقة عن الحالة النفسية لشخصياته. ناهيك عن تشريح دقيق للحركة والصمت، والتقلّبات الدرامية من أفعال وردود أفعال.

كان شميت أو كما يطلق عليه الفرنسيون قد حرص على كتابة "اعترافات زوجية" بالفاصلة والنقطة، إضافةً إلى شرح وافر لطريقة أداء الحوارات على المسرح. وقد حققت هذه المسرحية شهرةً واسعة منذ تقديمها أول مرة عام 2003 في بعض دول أوروبا وأميركا اللاتينية، ولنلاحظ مهارة فنية عالية لهذا النص في تقريب نظريات الفلسفة من الحياة العامة، حالها حال كتابات شميت التي تتيح غالباً حواراً هادئاً ومتوازناً بين الأديان السماوية الثلاثة.           

مشاكل الزواج

كان المغربي أحمد الويزي قد نقل "اعترافات زوجية" إلى العربية عام 2016، ويعد من النصوص التي تنتمي بقوة إلى كتابة مسرحية راهنة، فقد استفاد مؤلفه من اشتغاله في حقول الفلسفة والتحليل النفسي، ناقلاً مشاكل الزواج والمتزوجين إلى الخشبة بصيغة أقرب إلى محنة وجودية، فتشعر معها الشخصيات أنها على مفترق طرق، وذلك عبر قصة كل من "جيل" و"ليزا" اللذين سنشاهدهما في النسخة السورية عبر شخصيتي لينا (رنا جمّول)، وجمال الساحلي (مالك محمد). الزوجان اللذان يدخلان في لعبة مشوقة مع الذاكرة الشخصية لكل منهما.

يبدأ العرض بقدوم كل من الشريكين ليلاً إلى عش الزوجية، حيث تقود لينا زوجها إلى عالم منسي وغامض، بعد قضائه خمسة عشر يوماً في المستشفى، وذلك على خلفية تعرضه لحادثة أفقدته ذاكرته، لتحاول الآن إنعاشها بالرد عن أسئلته التي لا تتوقف. وهي مرةً عن أثاث البيت، ومرةً عن علاقتهما كزوجين طيلة عشرين عاماً، وهل كانت هذه العلاقة ناجحة أم  فاشلة ومليئة بالمشاكل، حالها حال جميع الزيجات التقليدية. ونلاحظ رفض الزوج منذ البداية وتشكيكه في رواية الزوجة، وعدم تصديقه لها، فهل هي حقاً زوجته، أم أنها إحدى الأرامل اللاتي حدبت عليه كشخص فاقد للذاكرة، وتريد أن تزجي الوقت معه لتبديد وحدتها، والشفقة عليه من حياة المستشفيات المملة والكئيبة؟

 

أسئلة الزوج وأجوبة الزوجة ترمم تباعاً معرفتنا عن ماضي القصة، وذلك عبر لعبة مونتاج لافتة لا تسلم قيادها للمتفرج بسهولة، بحيث تبدو حوارات الزوجين رشيقة وسلسة على الرغم من مواربتها الماكرة. لكنها لا تلبث أن تتداعى عبرها مقاطع متجاورة ومتناقضة من حياتهما، فالزوج (كما تخبرنا لينا) كاتب روايات بوليسية، وناقد وصحافي ورسام، ولديه نظريات خاصة به عن كل شيء. وهو إضافةً لهذا وذاك لا يؤمن بالتغيير، فحتى مصابيح البيت المحترقة، والأريكة الخرِبة لا يجوز تغييرها. إنها من الثوابت في حياتهما، وحتى فتات الخبز يجب الإبقاء عليه، فهو بالنسبة إليه ليس سوى "دموع الخبز" التي لا يراها ولا يشعر بها إلا من لديه مشاعر استثنائية نحو الأشياء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وشيئاً فشيئاً نرى أن الأمور ليست على ما تبدو عليه، فالزوج وعبر زلة لسان في ذكر المكان الذي قضى فيه مع زوجته شهر العسل، يكشف لنا ولزوجته أنه لم يفقد الذاكرة تماماً، وأنه كان قد استردها جزئياً في المستشفى. لكنه أبى أن يكشف ذلك لزوجته، مصراً على معرفة حقيقة ما حدث في تلك الليلة، وكيف تلقى تلك الضربة التي أفقدته ذاكرته. وهذا ما سيدفع الزوجة إلى اتهامه بالكذب، مفشيةً أنه في تلك الليلة منعها من مغادرة المنزل بالقوة، ومن ثم حاول قتلها بعد اتهامها بخيانته مع رجل آخر، فما كان منها إلا أن ضربته على رأسه بتمثال فينوس الرخامي كدفاع مشروع عن النفس.

رواية يدحضها جمال الساحلي عندما يجعل الزوج يخبرنا أنه عند عودته في تلك الليلة من حضوره لمعرض تشكيلي، وأثناء تشاغله في قراءة الجريدة في صالة البيت، فاجأته لينا بضربة قوية من خلف الستائر على رأسه، وذلك انتقاماً منه لنرجسيتها الجريحة. ذلك بعدما غزا الشك رأسها إبان مشاهدتها لـ"ستوري" على "فيسبوك" جمعه مع صديقته الفنانة التشكيلية "سارة كيالي"، غريمتها الفاتنة والمثقفة، والأكثر شهرةً منها كرسامة أقل موهبة.

اعترافات عنيفة

مكاشفات تحيل اللعبة إلى مستوى من الاعترافات العنيفة والمتلاحقة. فالزوج ليس رساماً، واللوحات المعلقة على جدران البيت هي من رسم الزوجة، المرأة العصابية المدمنة على الكحول والمهدئات، خصوصاً بعد أن قرأت ما كتبه شريكها عن الزواج في مجموعة قصصية من تأليفه، وتحمل عنوان "مآخذ زوجية صغيرة". وفيها يشبّه الزوج المؤسسة الزوجية بجمعية للقتلة، فالرجل والمرأة منذ البداية يجتمعان على العنف، وتدفعهما رغبة وحشية كل منهما تجاه الآخر، فيتصارعان، ويرافق ضرباتهما العرق والأنين والحشرجة، ثم الشكوى. ولا يتوقف ذلك العنف المتبادل إلا عندما تخور قواهما، ويلجآن إلى الهدنة التي يسميها شميت على لسان الزوج بـ"الإشباع". ثم يعاود هذان "المجرمان" الانخراط في جمعيتهما، وقد اختارا هدنة الزواج، فما جمعهما إلا النضال ضد المجتمع. وسوف يطالبان بعدها بكثير من الحقوق والواجبات، وبثمرة ذلك العراك الجسدي والنفسي العنيف بما سينجبانه من أولاد. وذلك بهدف كسب صمت الآخرين واحترامهم. وبعدها يشرعان معاً في تبرير كل أفعالهما الإجرامية باسم الأسرة، ولفائدة الجنس البشري.

المسرحية التي تنتهي نهاية شبه سعيدة في ركون الزوجين إلى المصالحة، ودعوة الزوج لقضاء أمسية لطيفة في المنزل، ومتابعة فيلم سينمائي، تبدو في مشهدها الأخير محملة بالأسى والإذعان للأمر الواقع. فالزوجان ما زالا في ساحة معركة لم تنته، ولم تخمد نيران غيرتهما وشكوكهما بعضهما نحو بعض. وهذا ما عكسه أداء كل من رنا جمّول ومالك محمد، محاطين بديكورات من رفوف حديدية باردة (صمم السينوغرافيا نزار بلال)، ومبللين بظلال إضاءة خافتة (تصميم علاء كيراوي) عكست وحشة المكان. وبررته موسيقى بيانو (تأليف إياد جناوي) رافقت فعل تعري الزوجين من ثيابهما مع كل جولة من جولات المواجهة، وصولاً إلى نسف هذا الفعل وهدمه، ومن ثم العودة إلى ارتداء قطع الملابس. تماماً كسياق لهدنة بين حرب قادمة ومتجددة.

النسخة السورية من "الاعترافات" التي قدمت على مسرح دار الأوبرا السورية بعد مشاركتها في مهرجان القاهرة التجريبي لعام 2019، كانت قد بدأت جولتها منذ عام 2018 على مسرح القباني، وبإنتاج من مديرية المسارح والموسيقى. وأكملت برنامج عروضها في المدن السورية، وهي تجربة لافتة في مسيرة المخرج مأمون الخطيب، سواء على صعيد إدارة الممثل، أو حتى عبر تجاهلها الحديث عن الحرب الدائرة في البلاد منذ مارس (آذار) 2011، بحيث بدا هذا خياراً فنياً صرفاً، لا سيما في ظل توجه معظم العروض التي أُنتجت في العقد الأخير إلى تقديم قراءات متباينة عن الأحداث الدامية، التي تشهدها البلاد بلا توقف منذ نيف وتسع سنوات.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة