Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عن آسيا جبار التي نفت نفسها بعيداً عن الطفولة

الطاهر بن جلّون: أن نقول رغباتنا ضد عدونا بلغته؟

آسيا جبار (غيتي)

من بين الأنواع الأدبية العديدة التي يميل الكاتب المغربي الطاهر بن جلون إلى ممارستها، بل يجد سعادة في ممارستها، الكتابة عن المبدعين الآخرين إن لم يكن دائماً على شكل دراسات وكتب، فعلى شكل نصوص غالباً ما تكون ظرفية يحاول من خلالها أن يقول أشياء أخرى غير التحيات العابرة واستعادة الذكريات. ومن هنا مثلاً، حين كتب على مدى سنوات في زاوية خاصة أُسندت اليه في المجلة العربية / الفلسطينية الأسبوعية "اليوم السابع" التي صدرت في باريس بين 1984 و1991، كانت معظم مقالاته غالباً بالفرنسية تُترجم إلى العربية التي كان يتقنها بالطبع ولكن "ليس إلى درجة المغامرة بكتابة نصوص متكاملة فيها" كما كان يقول، تتناول زملاء له من الكتاب العرب أو غيرهم. ومن هنا كانت له نصوص عن محمود درويش ونجيب محفوظ وجان جينيه وبول بولز وإلياس كانيتي وخوان غويتيسولو وعشرات غيرهم من الكتاب. وحتى الآن بين يدي كاتب هذه السطور مقال بالفرنسية بخط بن جلون، عن الكاتب المغربي محمد خير الدين وهو من آخر ما بعث إلى "اليوم السابع" قبل توقفها، ولسنا ندري ما إذا كان عاد ونشره أو عمل على ترجمته إلى العربية. واللافت أن الروائي المغربي الكبير كان يكتب دائماً بحبر كحلي غامق على ورق أزرق فاتح شفاف، ليوقّع مقاله بعد ذلك بعربية ظريفة لها نكهة مغربية.

روابط بين الضفتين

كان بن جلون يحب أن يقول دائماً أن تلك الكتابات يستهدف منها عقد روابط متواصلة مع ما يحصل من حوله في الحياة الثقافية الفعلية ناهيك بربطه بين الثقافة العربية والأوروبية. ومن هنا لم يكن غريباً أنه، في مقابل تلك المقالات التي كان ينشرها في "اليوم السابع" التي، بحسب قوله، كان يقرأها من الغلاف إلى الغلاف، تكوّنت بالنسبة إليه ثقافة عربية جديدة في المرحلة نفسها التي نال فيها جائزة الغونكور الأدبية الفرنسية الرفيعة فكان الاحتفال به وبها بالنسبة إلى الفرنسيين مناسبة ليحدثهم عن تلك الثقافة، لم يكن غريباً إذاً، أن ينشر هذه المقالات عن الثقافة العربية وبعض كبار مبدعيها في الصحف والمجلات الفرنسية، مستفيداً من انفتاحه المتجدد على ما يحدث في الفضاء الثقافي العربي. ولا بد أن نذكر بالتحديد كيف أن صحيفة "لوموند" الفرنسية العريقة إذ أُخبرت في خريف عام 1987 أن الفائز بجائزة نوبل في ذلك العام كاتب عربي، خُيّل إلى محرريها أن ذلك الفائز سيكون الشاعر أدونيس صديق بن جلون، من هنا، على سبيل التحسب، اتصلت الصحيفة بالكاتب المغربي طالبة منه أن يحضّر ملفاً لينشر حال الإعلان عن فوز هذا الأخير ظهيرة اليوم التالي. فاتصل بنا طالبا العديد من المعلومات لنستنتج بدورنا أن نوبل ستكون من نصيب أدونيس. لكن ذلك لم يحصل!

كتابات على الجانب الآخر

لم يقصّر بن جلون في الكتابة عن زملائه المغاربة لا سيما عن آسيا جبار التي كانت تشاطره مكانته في الثقافة الفرنسية وهواه العربي، وهكذا حين أصدرت جبار باللغة الفرنسية، عن منشورات "لاتيس" الباريسية روايتها الجديدة حينذاك "الحب، الغرابة"، كتب بن جلون عن الرواية في "ملحق كتب لوموند" أن "رواية آسيا جبار تقدم نفسها على شكل تقسيم موسيقي ذي خمس حركات تسبقه أو تقطعه أصوات وأناشيد. في الرواية ثمة طفولة امرأة تظهر من خلال حكاية الحرب الجزائرية الأولى (1830-1871) ثم نلتقي بذاكرة محفورة في الماضي الراهن حيث نرى فلاحات وأرامل يروين لنا حرب التحرير بكل خفر وتواضع. لكن آسيا جبار تنبّهنا إلى أن هؤلاء النساء لا يكتبن أدباً حول حياتهنّ: وكلما كانت معاناة الواحدة منهنّ خلال الحرب أكبر، كان كلامها أكثر رزانة. لقد استمعت إلى حكايتهنّ، وأردت أن أترجم لهنّ حكاية القرن التاسع عشر، أردت أن أخلط بين صوتي وأصواتهنّ".

ويضيف بن جلون: "تكتشف آسيا جبار خلال بحثها في ذلك الماضي أن اللغة الفرنسية التي تكتبها، لغة مغمّسة بالدم. وهي إذ تقرأ التقارير التي كتبها ضباط وارستقراطيون استولوا على الجزائر، تتحقق من أن شهود ذلك العنف إنما كتبوا عنه بلغتها. وتقول: "إنني وريثة أولئك الذين قُتلوا. ولقد تحقّقت عبر هذا الكتاب، أن هناك دماً في إرث اللغة".

يرى الكاتب أن ذاكرة آسيا جبار "مسكونة بتقاطع مزدوج كان قد سبق لها أن حاولت اقتلاعه في فيلم لها عنوانه "الزردا" أو "أناشيد النسيان". وفي الذاكرة أن الكولونيل بيليسييه يحكي عن الحملة الجزائرية الأولى بدقة البصاص ولؤمه. وهو شهد بأم عينه، يوم 19 يونيو(حزيران) 1845، تلك المحرقة في كهوف ولد رياح، حيث أبيد ألف وخمسمئة شخص. وفي الذاكرة كولونيل آخر يدعى سان – آرنو يسجن بعد الكولونيل الأول بشهرين ثمانمئة شخص ويكتب: "لقد سدّدت كل المنافذ وعزلت المكان لأجعل منه مقبرة فسيحة".

صمت المدفونين

يضيف بن جلون: على هذا النحو تملأ آسيا جبار صفحاتها بصمت لا ينفذ، هو صمت المسجونين، المدفونين الذين لا يُبعثون من باطن الأرض أبداً. وهي تحاصر الأيام المحاصرة، أيام الحداد المستحيل، وتصغي، بعد أكثر من قرن، لأصوات الجدود. وتكتب: "إنني أتلمس طريقي في جوف الألم، فيما يبحث الجسد عن صوته".

لا يغيب عن بن جلون أن هذه الرواية هي "كتاب عن الحب. حب الجسد وحب اللغة. لكن هذا الحب لا يسمّى. في المجتمع المغربي التقليدي لا يسمي الرجل زوجته أبداً. بل يطلق على الزوجة والأبناء اسماً هو "البيت". لكن والد صاحبة الحكاية يتخلى عن ذلك التقليد. إنه معلم يضع بناته في مدرسة فرنسية. يريد لبناته أن يصبحن متقدمات على زمنهنّ، وهو الذي حين يكتب لزوجته، يفعل شيئاً استثنائياً إذ يخاطبها بكلمة "مدام" أي يعطيها توصيفاً هو في النهاية تسمية. التسمية، هي الحب المفتوح"، تقول آسيا جبار. واللغة الفرنسية، على الرغم من كل الجراح المرتبطة بها، تستخدم كذلك من أجل تقليص المسافات: "كنت أدرس الفرنسية، وكان جسدي يتغرب على طريقته". وحين كان أبوها يُسأل لماذا لا تضع بناته الحجاب، كان يجيب: "لأنهنّ يقرأن" ومعناها بالعربية الفصحى "يدرسن".

إذن، بفضل المدرسة الفرنسية يقول بن جلون، "أفلتت البنات من العزلة، وحُزنَ لغة رابعة يعبّرن بها عن رغبتهنّ: أما اللغات الثلاث الأولى فكانت: العربية للتعبير عن التطلعات؛ الليبية – البربرية لاستعادة أقدم الأوثان، ثم لغة الجسد (حتى ولو كانت أمية) الذي يرقص داخلاً في الاهتزاز والصراخ. أما الفرنسية فكانت تحفظ للكتابة السرية: الكتابة لنقول الذات، وقول الذات من دون تعرية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اليد المقطوعة

"بهذا الكتاب، يستطرد بن جلون، حاولت آسيا جبار العودة نحو ذاتها، في الوقت نفسه الذي راحت فيه تسبر أغوار كتب التاريخ ونظرة النساء اللواتي فقدن رجالهنّ – أزواجاً وأبناء – في الحرب واللواتي جفّت منهنّ المآقي لأن "الرجال الذين كانوا يسندونهنّ" لم يعودوا موجودين هنا للدفاع عنهنّ".

في نهاية الكتاب، على موسيقى الناي، تروي لنا آسيا جبار أن أوجين فرومنتان مدّ لها، في زمن متخيّل، اليد المقطوعة التي كان قد عثر عليها من الأغواط المحتلة عام 1853، ولم يتمكن أبداً من رسمها. إن هذه اليد العائدة لجزائرية مجهولة فرضت نفسها على الكاتبة بعد الحادثة  بمئة وثلاثين سنة. وجعلتها تحمل القلم وتكتب. "ومن هنا يبدأ الكتاب كله باليد التي تمدها فتاة عربية صغيرة لأبيها الذي يقودها للمرة الأولى إلى المدرسة. ثم ينتهي الكتاب بيد أخرى، وهذه اليد الأخرى نراها منتزعة من جسدها، تشهد في عمق أعماق الظلمة، وتروي وتكتب وترسم وتقودنا".

"لقد تحدثت آسيا جبار عن نفسها بلغة أخرى غير لغة جدودها،  تحدثت بشعر صافٍ شفاف. وتحدثت لتقول إن حجابها قد نزع عنها. تحدثت لتقول إنها قد خرجت من الطفولة لكي تنفي نفسها نهائياً عن تلك الطفولة. ويختم بن جلون: "لقد أفلت الجسد الأنثوي من المحتلّ. وها هوذا يقال اليوم بلغة رائعة بقلم كاتبة كبيرة".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة