Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في روايتها الكبرى "الماندارين" سيمون دي بوفوار وخيبات المثقفين

هي وسارتر وكامو شخصيات روائية وآلغرين يستشيط غضبا

الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار (غيتي)

اسم شخص من جهة وعنوان كتاب من جهة أخرى، أسهما طوال القرن العشرين في حصر الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار في حدود قد لا تكون ضيّقة بشكل عام، لكنها كانت أضيق من أن تستوعب حياتها ومكانتها في الحياة الثقافية الفرنسية بل العالمية أيضاً. بيد أن لا الرجل كان رجلاً عادياً، ولا الكتاب كان من تلك التي يمكن أن تمر مرور الكرام. فالرجل كان جان بول سارتر، أحد أكبر فلاسفة وأدباء ومناضلي القرن العشرين. أما الكتاب فكان، طبعاً، "الجنس الثاني" الذي منذ أصدرته دي بوفوار عام 1949 شغل المفكرين، لا سيما المفكرات بعدما باع في أصله الفرنسي نحو 22 ألف نسخة خلال أسابيع قليلة من صدوره، وبيع من ترجمته الأميركية نحو مليون نسخة خلال فترة قصيرة، وبات "إنجيل" الحركات النسوية في العالم، من دون أن ننسى حظر الفاتيكان له منذ وقت مبكر، وتمكّنه من إخراج كاتب كبير من طينة فرانسوا مورياك عن وقاره وجعله يوجّه رسالة إلى مجلة  "الأزمنة الحديثة" التي تديرها دي بوفوار يقول فيها بكل بساطة، "حسناً، الآن بتُّ أعرف كل شيء عن عضو السيدة مديرتكم!". والحقيقة أن تعبير مورياك الفاحش هذا لم يكن شيئاً مقارنة بألوف التعليقات التي أتت أكثر فحشاً منه. ومع ذلك لا بد من أن نذكر بأن الكتاب بحث علمي وتعبير عن نضال اجتماعي كتب بلغة بالغة الجمال.

الكاتبة خاسرة كبرى

مع الوقت نُسي الحظر الفاتيكاني ورُمي تعليق مورياك في مزبلة التاريخ، وراح الكتاب يزداد شهرة وحضوراً ويُقلّد ويعارَض ويحلَّل ويُستكمل ويترجم أكثر وأكثر ويُقرأ أكثر وأكثر. ولنقل هنا أن الخاسر الأكبر من كلّ ذلك كانت الكاتبة نفسها التي أنسى نجاح وحضور كتابها عموم القراء والقارئات بأن لها أعمالاً أخرى كثيرة، تماماً كما أن حضور سارتر في حياتها بكثافة جعل كثراً يتعاملون معها كمرافقة للفيلسوف الكبير وامرأة له، ناسين أنها كانت أكثر من ذلك بكثير كما أن لها علاقات غرامية عدة أخرى. ومنها تلك العلاقة مع الكاتب الأميركي نيلسون آلغرين التي تصف بعض تفاصيلها، ولو مواربة في روايتها الكبرى "الماندارين" التي تهديها إليه على أي حال بشكل أغاظه، إذ "فضحت" علاقته بها!.

"الماندارين" هي بالفعل رواية كبرى وعمل أساس في حياة سيمون دي بوفوار ومسارها. ولكن ليس فقط لأنها مكّنتها من الحصول على جائزة "غونكور" الأدبية، عام 1954 مباشرة بعد صدورها. ومع ذلك لا يخلو الأمر من نقاد أخذوا على الرواية حين صدورها كونها تبدو وكأنها عمل بيوغرافي وأوتوبيوغرافي "توثيقي"، غايته رسم صورة عما كانته الحياة الثقافية في فرنسا حين كتابتها، وبالأحرى طوال الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة. وذلك عبر رسم للحياة شبه الفعلية التي عاشتها مجموعة من شخصيات تختبئ خلف الشخصيات الروائية. وسنوضح هذا بعد سطور أي بعد أن نستعرض "أحداث" الرواية.

 

 

الحكاية الحقيقية

فالحقيقة أن تلك الأحداث تدور حول عدد قليل من شخصيات سرعان ما يتعرّف إليها القارئ النبيه مهما حملت من أسماء مختلفة في الرواية ذاتها. فإذا كان لدينا ست أو سبع شخصيات "روائية" تتبدل وتتنامى وتتفكك العلاقات بينها، على مدى صفحات الرواية التي تقترب من ستمئة صفحة؛ آن دوبروي وزوجها روبير وهنري بيرون والحسناء بول وعدد آخر من شخصيات ثقافية يسارية أو أقل يسارية تعيش تلك التشابكات في باريس الضفة اليسرى، قبل أن تدخل على الخط مثلاً شخصية كاتب أميركي يُقدّم إلينا باسم لويس بروغان الذي تلتقيه آن خلال رحلة تقوم بها إلى شيكاغو، وإذا كانت لدينا صحف منها واحدة أساسية تحمل اسم "الأمل"، وصراع بين هنري وروبير بشأن الموقف من ستالين مثلاً، فإن القارئ سيكتشف من دون كبير جهد أن روبير ليس سوى القناع الروائي لسارتر، وهنري هو قناع لألبير كامو، أما آن فهي كاتبة الرواية نفسها التي تتولّى سرد الحكاية في معظم الأحيان لكنها تتخلى عن ذلك في أحيان أخرى، لضرورات تقنية، كما أن الكاتب الأميركي بروغان، الذي تلتقيه آن في شيكاغو وتقيم معه علاقة غرامية، ليس في حقيقته سوى نلسون آلغرين نفسه. لقد أتى كل هذا شفافاً إلى حدّ مدهش، بحيث اعتبرت الرواية ككل "رواية مفاتيح" تريد أن تحكي ذلك الفصل من حياة الزوجين سارتر –  دي بوفوار مع تغيير في الأسماء.

ومن هنا ارتفع عدد القراء الذين اهتموا بالرواية، وكانوا في أول الأمر من أهل النخبة وإن توسعت دوائرهم مع حصول "الماندارين" على جائزة "غونكور"، بحيث صارت هناك جمهرة ما من قراء استمتعوا حقاً بقراءة الرواية قبل أن ينضم قسم منهم إلى "النخبويين" ويغرقوا في تحرّي الأحداث الأدبية والفكرية الحقيقية التي تُروى هنا ليكتشفوا، وأحياناً في صخب "فضائحي" استظرفوه، حقيقة تلك العلاقات والمشاعر والتشابكات التي تكمن في خلفية تلك الحياة البراقة التي كانوا يقرأون عنها في الصحف، وربما يطّلعون من خلالها على تلك المناكفات التي كانت تدور بين سارتر وكامو، إذ اختار الأول صف الشيوعيين والستالينيين ولم يبرح تلك الصفوف على الرغم من انكشاف معسكرات الاعتقال الستالينية، فيما أصرّ كامو على التمسك بمواقف ليبرالية غامضة تقول لنا الرواية إنها قادت قناعه إلى التناغم مع من سيظهر لاحقاً أنهم كانوا من المتعاونين مع النازية خلال الحرب، حين كانت أجزاء واسعة من فرنسا واقعة تحت الاحتلال النازي. في هذا الإطار، بدا واضحاً أن "الماندارين" هي من نوع الروايات التي يمكن لقرائها أن يتمتموا وهم يقرأونها: "إذاً هكذا كانت تجري الأمور!".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعيداً من تصفية الحسابات

ومع ذلك لن يكون في إمكاننا أن نقول هنا إن سيمون دي بوفوار كانت ترمي إلى تصفية حسابات ما، كانت أبعد عن ذلك. كانت ترمي حقاً إلى كتابة رواية تحاول أن تسند ما هو "تخييليّ" فيها إلى وقائع عاشتها بالفعل. ومن هنا ذلك التوازن الدقيق الذي عرفت كيف تقيمه بين ما عاشته فعلاً وما رسمه خيالها. وكان هذا أجمل ما في الرواية التي سيدفع نجاحها الكاتبة إلى تكرار التجربة لاحقاً في روايات تالية، قلّ منها ما حقّق نجاحات تضاهي نجاحات "الماندارين". فهذه الأخيرة نجحت في الحقيقة كرواية ولكن أيضاً كشهادة على مرحلة، تغوص بشكل خاص في أوهام وخيبات المثقفين الفرنسيين وربما غيرهم أيضاً بعد الحرب العالمية الثانية وعند بدايات الحرب الباردة وانكشاف جرائمها وانقسام العالم إلى معسكرين متناحرين، ناهيك عن كونه كتاب اعترافات بشكل أو بآخر. مهما يكن، لا شك أن رواية "الماندارين" أسهمت مساهمة أساسية في المكانة المستقلة إلى حدّ كبير، التي صارت لـسيمون دي بوفوار في الحياة الثقافية الفرنسية حتى إن ظل وجودها مرتبطاً بوجود سارتر، وبقي "الجنس الثاني" كتابها الأشهر.

الاستقلال أخيراً

ولدت سيمون دي بوفوار عام 1908 في باريس التي سترحل فيها عام 1986، بعد ست سنوات من رحيل سارتر. ودرست الفلسفة أول الأمر وخاضت مهنة التعليم مثل سارتر الذي التقت به باكراً وارتبطت به حتى النهاية. وهي مثله تركت التعليم بعد تحرير فرنسا عند نهاية الحرب العالمية الثانية لتخوض إلى جانبه معارك فكرية وسياسية، ناهيك عن خوضها الكتابة الأدبية ناشرة منذ عام 1943 روايتها الأولى "المدعوة"، متبعة إياها حتى عام 1949 بسلسلة كتب روائية وغير روائية لم تلفت الأنظار حقاً، حتى كان كتابها "الجنس الثاني" الذي انفجر كالقنبلة وعزز مكانتها البسيطة التي كانت حققتها في كتب مثل "بيروس وسينياس" (1944) و"دم الآخرين" (1945) وهي رواية كتاليتها "كل البشر فانون" عام 1946. مهما يكن، بعد "الجنس الثاني" لم يعد على سيمون دي بوفوار أن تعرّف نفسها، ولا حتى أن تدافع عن استقلاليتها حتى عن سارتر، خصوصاً عنه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة