Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأرجنتيني فرناندو سولاناس أسس سينما ثالثة بعيدا من أوروبا وهوليوود

كان ينظر إلى أميركا الجنوبية أمّة واحدة في طور التكوين وفيلمه "ساعة الأفران" أحدث انقلابا

السينمائي الأرجنتيني العالمي فرناندو سولاناس (غيتي)

خطف وباء كورونا عدداً من الفنانين منذ انتشاره في مطلع هذا العام، آخرهم أحد أعلام سينما أميركا اللاتينية، الأرجنتيني فرناندو سولاناس الذي وقع ضحيته وهو في الـرابعة والثمانين من عمره، بعد ثلاثة أسابيع من الصراع مع المرض الذي باغته. كان سولاناس أصيب بكوفيد-19 في منتصف الشهر الفائت، فأدخل إلى المستشفى في باريس. آخر منشور على صفحته الفيسبوكية يعود إلى 21 تشرين الأول. يومها كتب الكلمات الآتية: "أصدقائي، لا أزال في العناية المركزة. وضعي دقيق، لكنني أحظى باهتمام جيد. مع زوجتي التي هي أيضاً في المستشفى، نودّ شكر الجميع لدعمهم". 

سولاناس سينمائي جاد ورجل سياسة بدأ يتعاطاها (بشكلها المباشر) منذ بداية التسعينيات. كان ملتزماً ومناضلاً ترشّح لرئاسة بلاده واستعمل الكاميرا سلاحاً للتغيير في وجه الاستبداد السياسي. أنجز أعمالاً هادفة ولكن ذات قيمة سينمائية. أفلامه جالت العالم من شرقه إلى غربه، وعرضت في أكبر المهرجانات السينمائية من مثل كان وفينيسيا وبرلين، حتى أسندت إليه جائزة فخرية عن مجمل أعماله التي بلغت 22. عرف بأفكاره ومعاركة ونقده اللاذع لكلّ أنواع السلطات طوال حياته. خيط رفيع يفصل نشاطه السياسي عن نتاجه الفني في السينما، لا بل يمكن القول إن أحدهما يكمّل الآخر. كلّ من عرفه عن كثب يشهد على رجل صاحب قيم، ولم يتنازل أو يتراجع على الرغم من الصعوبات التي تعرّض لها. قبل سبع سنوات، كان انضم إلى مجلس الشيوخ الأرجنتيني وكان مناهضاً شرساً للرئيس كارلوس منعم.

هذا المعروف باسم "بينو"، المولود في إحدى ضواحي بوينس آيرس، كان متعدد المواهب منذ نعومة أظفاره. درس المسرح والأدب وانكب على الموسيقى، ثم التحق بكلية الحقوق. لكن المهنة كحرفة وصنعة تعلّمها وهو يشتغل ميدانياً، إذ له أكثر من 800 دعاية تمرّس من خلالها على التصوير.

سينما التحرير

عام 1962، أخرج أول فيلم قصير له حمل عنوان "متابعة السير". ثم، بعد الانقلاب العسكري في الأرجنتين (28 يونيو/حزيران 1966)، أنتج وأخرج باكورته الطويلة "ساعة الأفران" (1968)، وثائقي قال فيه كلّ ما يريد قوله عن كلّ شيء. سولاناس سينمائي من زمن كانت فيه الأفكار والأيديولوجيات هي التي تحكم ولها الكلمة الفصل في ما يجري. تمرّده الأول يعود إلى الستينيات، فترة التغيير الموعود والتصدي لبطش الأنظمة السياسية الجاثمة على صدور الشعوب. هذا كله حمله هو وغيره إلى تأسيس تيار سينمائي تحلَّقت حوله مجموعة سينمائيين أطلق عليه "سينيه ليبيراثيون". دعى هؤلاء إلى "سينما ثالثة" لا تكون امتداداً للسينما الأوروبية أو الهوليوودية. 

خرج "ساعة الأفران" من عباءة هذا التيار. أنجز بالسر وبالـ16 ملم بالتعاون مع أوكتافيو جتينو ما يُعتبر المانيفستو الجمالي والسياسي للحركة. "انقلاب" سينمائي من أربع ساعات و20 دقيقة يدين الاستعمار الجديد، ويوثّق للكفاح العمّالي والمقاومة. إلا أن الفيلم مُنع من العرض حتى نهاية الديكتاتورية (1973)، وهو اليوم يعدّ من كلاسيكيات السينما الوثائقية، وشاهدناه في مهرجان كان قبل عامين في نسخة مرممة. يومها، روى سولاناس كيف هرّبه من الأرجنيتن: "كان التصوير مغامرة حقيقية. نجحنا في تهريب 175 بكرة لننجز المونتاج في روما. العرض العالمي الأول جرى في مهرجان بيزارو، بعد أيام قليلة من اندلاع ثورة مايو (أيار) 1968 في باريس، ما أعطى الفيلم صدى خاصاً. الفيلم منع في كلّ ديكتاتوريات أميركا اللاتينية، لكن بفضله باتت هناك وللمرّة الأولى في الأرجنتين قناة لعرض الأفلام السياسية، وكان الإقبال عليها كبيراً".  

عندما عرض "ساعة الأفران"، تجاهله بعض من الصحف عمداً أو عن غير عمد. فـ"نيويورك تايمز" كتبت أن الفيلم "استكشاف فريد لروح أمّة"، في حين ناقد "لو موند" قال فيه: "هذا فيلم يسجّل وصول سينما سياسية غير كلّ ما عرفناه في هذا المجال حتى اليوم. إنه فيلم يعيد النظر في وظيفة السينما كوسيلة تعبير. من خلال التجميع بين نشرات الأخبار وريبورتاجات ومقابلات، يستغل المخرج كلّ شيء ليصدم المُشاهد ويوعّي انسلاخه عن محيطه". 

فن الإحتجاج

عندما صوّر "ساعة الأفران"، كانت أميركا اللاتينية على هامش حركات الاحتجاجات في العالم، بل ترزح تحت أشد الأنظمة بطشاً وفساداً وعنفاً. في هذا السياق، قرر سولاناس أن ينجز فيلماً عن أحوال البلاد، يتمحور بشكل أساسي حول العنف اليومي والإفقار الثقافي والعنصرية والبيئة. ألقى فيه كلّ شيء يثير سخطه، لا سيما أنه كان يرى الناس لا يتحرّكون أمام صعود القمع في السياسة. أقدم على تحليل ومحاججة الفكر الثوري بأدق تفاصيله وبالأسئلة المرتبطة به. أسئلة لا تهمل الجوانب التاريخية والاقتصادية والجغرافية للثورة الوشيكة التي كان يجب أن تحدث بلا تأخر من وجهة نظره. وقد يكفي إلقاء نظرة على العنوان الفرعي الذي وضعه سولاناس للفيلم ("ملاحظات وشهادات في النيوكولونيالية، العنف والتحرر")، لنرى خريطة الطريق التي رسمها لنفسه. الفيلم قارب أميركا الجنوبية كأمّة واحدة غير محقَّقة وفي طور التكوين. استخدم سولاناس المَشاهد القصيرة والكولاج ولجأ إلى النص المكتوب والتعليق الصوتي لاستدراج المُشاهد إلى خطابه السياسي وإخراجه من قمقمه ليكون مشاركاً فعّالاً في القضية المطروحة. في قارة تحكمها الأنظمة العسكرية والأوليغارشيات، حاول سولاناس إثارة نعرة شعبية من خلال مانيفستو ينبش في جذور المأساة الثقافية والاجتماعية التي تتخبّط فيها الأرجنتين منذ منتصف الأربعينيات. 

كان الهدف من تأسيس حركة "السينما الثالثة" التصحيحية، والخارجة من رحم اليسار، هو إنتاج سينما معادية للرأسمالية حرة ومستقلة، في العالم الثالث تحديداً. في البيان الذي كتبه للحركة مع أوكتافيو جتينو، تمت الاستعانة بجملة كارل ماركس: "لا يكفي تفسير العالم، بل يجب تغييره". هذه الحركة سعت إلى البقاء في منأى عن أي تأثير أيديولوجي خارجي، متحررة من جماليات سينمات أخرى. شاشة لها واقعها الخاص، لا هي أميركية تجارية، ولا هي أوروبية فنّية. مغامرة بدأت بنيّات حسنة ولكنها بقيت ابنة زمنها فقط. واستمر سولاناس على هذه الحال طوال مسيرته، يبحث عن هويته وتحرره في أفلامه.

في "تانغو، منفى غارديل" (1985) مع ماري لافوريه وفيليب ليوتار، وثّق لمنفاه القسري في باريس التي لجأ إليها غداة الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين التي حكمت البلاد بين 1976 و1983. الفيلم نال جائزتي "سيزار" (جائزة خاصة بالسينما الفرنسية) بعد عرضه في مهرجان البندقية حيث كان فاز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى. أعقبه بعملين روائيين بارزين: "جنوب" (1988) الذي كرّسه بشكل نهائي بعد فوزه بجائزة الإخراج في كان. عمل لا يمكن نسيانه، خصوصاً أنه مشبع بموسيقى أستور بيازولا، أضحى نوعاً من "أنشودة لعودة الديموقراطية"؛ و"الرحلة" (1992) الذي عُرض في كان أيضاً. بدءًا من الألفية الجديدة، أقدم سولاناس على إخراج مجموعة أفلام عن الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد وكذلك عن إحباطاتها واحتمالات نهوضها، وصولاً إلى فضح كلّ أنواع المظالم.

وإن يبدُ ديماغوجياً ومباشراً في بعض الأحيان، يبقَ لسولاناس الفضل في تكريس سينما سياسية واضحة في طموحها وخطابها، تعرف ماذا تريد وكيف تريده، سينما تنتشل القصص من عمق المجتمع، سينما مواجهة مع الجمهور لا مسايرة أو مجاراة لشروط الترفيه رافضة كلّ أنواع الثوابت، تسعى بلا توقف إلى إزعاج السلطات، بتأثيرات متنوعة ولكن عرف صاحبها كيف يجعلها تخرج من وعيه. في نهاية حياته، استحضرت أفلامه الماضي، لتقع في الحنين أحياناً. الثائر الذي كانه أضاع البوصلة بعض الشيء، وما عاد يعرف في معمعة الزمن الحالي مَن هو العدو الذي كان أكثر وضوحاً في الستينيات، له وجه بمعالم صارمة وعنوان شبه ثابت. وبهذا المعنى، يمكن القول إن سولاناس كان ذلك الشخص المقيم في المنفى إلى الأبد، وربما المنفى الاختياري أكثر منه القسري. 

المزيد من سينما