Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ذاكرة الحرب" تحاصر "باب التبانة" في طرابلس اللبنانية

شارع سوريا يشق المنطقة نصفين خاضعين لمذهبين متصارعين والبطالة تطارد سكانها

أحياء مكتظة وجدران مشوّهة وطرقات مزدحمة، وابتسامة خافتة؛ هذه بعض المشاهدات التي تختصر أحوال منطقة باب التبانة، وتحفر بعمق في الذاكرة الجماعية لفقراء لبنان.

في شمال مدينة طرابلس، تصمت الألسنة عن السؤال، وتتحدث الوجوه عن "كرامة الرجال التي تمنعهم من الشكوى لغير الله، فهو وحده العالم بما في القلوب، ووراء الجدران". وأبعد من ذلك، تتحدث المعاملات اليومية عن عمق الروابط الاجتماعية بين الفقراء، والخوف على مصير جيل جديد تطوّقه الحاجة وقلة الوعي والأزمات.

شارع سوريا وصندوق الرسائل

يشقّ شارع سوريا منطقة التبانة إلى شقين؛ حي التبانة وجبل محسن، وشاءت الأقدار والأحداث التاريخية أن يتحوّل إلى "خط تماس" بين جماعتين مذهبيتين، وجاءت الحرب الأهلية اللبنانية ودخول قوات الردع السورية لتعميق هذا الفرز الذي تكرّس مع مجزرة التبانة 1986 التي ارتكبها النظام السوري وميليشيات متحالفة معه.

وتشهد الأبنية المصابة ببنيانها على تلك الحقبة وكذلك أسماء الشوارع، فأهالي التبانة يخلّدون ذكرى شهدائهم من خلال تسمية الشارع الذي بدأت منه المجزرة بـ"شارع خليل عكاوي – أبو عربي". كما تتخلّد الذكرى في رؤوس شباب وأطفال عايشوا تلك المرحلة.

 يعود فادي  في الذاكرة إلى ليلة رأس السنة الميلادية لعام 1986، في الوقت الذي كان البعض يستعد لاستقبال العام الجديد بهرج ومرج وفرح، نزفت التبانة بشكل غير مسبوق. يروي بعض ما حصل في تلك الليلة، التي بدأت بدخول ميليشيات إلى المنازل للتفتيش عن السلاح، وبعد التحقق من خلوّها، طمأنوا الأهالي بأنه لن يحدث لهم شيء. وما إن حلّ الليل، حتى اجتاح المسلحون الأحياء ومارسوا القتل العشوائي على شُبهة الانتماء إلى "حركة التوحيد".

هرب فادي إلى منزل عمه، وفي اليوم التالي كانت أكداس الضحايا في الشوارع والمنازل. خسر الشاب خمسة من أفراد أسرته، وأكثر ما آلمه مشهد أمه التي قُتلت بوحشية وبُترت أطرافها.

يشعر فادي أن التبانة متروكة اليوم لمواجهة مصيرها كما كانت إبان الحرب الأهلية. فالفقر وكورونا والوضع الأمني والانهيار الأخلاقي، وغيرها من التحديات التي تهدد باب التبانة. يحمَد الله أنه أب لأربعة بنات، وليس لديه صبي لأن "تربية الشباب في التبانة صعب، في ظل تعاطي المخدرات المنتشر بالشوارع"، وما يتفرّع عن ذلك من أفعال شائنة كالسرقة وأذية الأهل والناس.   

يبدي أرباب الأسر وكبار السن خوفهم من معادلة "الفقر الذي قد يدفع الأبناء إما إلى أحضان الحركات المتطرفة، أو إلى تجار المخدرات".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المؤسسات الصناعية في خطر

في قلب المنطقة الصناعية في التبانة، مشهد لافت "ورشة فارغة من السيارات، ورجال يتحلقون حول طاولة لعب الورق". يستقبل هيثم عكاري، صاحب المحل، زائريه بالابتسامة لأن حاله من حال الناس، فـ"المنطقة الصناعية دخلت مرحلة الموت السريري" بسبب غلاء الدولار وعدم إمكانية شراء قطع التبديل للسيارات، وجاءت أزمة كورونا والحديث عن الإغلاق العام لتقضي على أي أمل باستعادة الحركة الاقتصادية.

يقارن عكاري بين ماضي باب الذهب وحاضر المنطقة الفقيرة. ويشير إلى أن المنطقة خسرت دورها وعلى مراحل، بدءًا من الحرب الأهلية، وصولاً إلى المعارك بين جبل محسن والتبانة، ولاحقاً أزمة الفقر.

يذكر أن المؤسسات الصناعية تنازع، وينطلق من تجربته الشخصية، فمحله في حكم المتوقف ويستمر بالعمل لأن إيجاره 150 دولاراً أميركياً، وما زال المالك يتقاضاه على سعر الصرف القديم 1500 ليرة لبنانية (0.99 دولار أميركي). أما إذا تحوّلت المطالبة إلى الدفع بالدولار الأخضر أو سعر الصرف في السوق السوداء، فإنه "سيقدم له مفتاح المحل ويشكره على تعاونه"، وينتقل إلى مصاف العاطلين من العمل الذين تزدحم بهم الأرصفة والمقاهي.  

يغوص عكاري في قلب معاناة أهل باب التبانة، ويستشهد بـ"طابور الفلافل" لأن "العائلات لم تعد قادرة على الطبخ في المنازل، أو شراء اللحم والدجاج، لذلك فإنها تسدّ رمقها بساندويش فلافل مقابل 2000 ليرة لبنانية (1.32 دولار أميركي)". ويرى أن هذا رأس جبل الجليد، لأن الجدران تخفي الكثير من المعاناة والفقر. ويجزم أن الأشخاص غير قادرين على تسجيل أبنائهم في المدارس، أو دفع نفقات الاستشفاء "فلا يوجد أي مستشفى فيها".

مع مرور الزمن، انقلب "باب الذهب" إلى مأوى للفقر والوجع، وليس أدلّ على ذلك المنازل الخالية من الفرش، ببنما يشير وجوده إلى ترف وتحسّن في الأوضاع المعيشية. وتحوّل أبناء التبانة من تجار وأرباب عمل إلى أجراء؛ يقصد بعضهم بيروت للعمل مقابل أجر يومي لا يتجاوز الـ50  ألف ليرة لبنانية (نحو 6 دولارات السوق السوداء)، وهو أفضل من مدّ اليد لأحد، وعلى قاعدة "الكحل أحسن من العمى".

في المحصلة، عندما تنطفئ أضواء الإعلام وتتوقف الأقلام عن الكتابة، تستمر معاناة الناس وتتعمق. تؤكد باب التبانة هذه الفرضية، فهذه المنطقة التي كانت في فترة من الفترات "نجمة النشرات"، غاب الاهتمام عنها عندما اختلفت الأولويات وازدحمت الأجندات، لتبقى صفحة لم تكتمل بعد من تاريخ لبنان المعاصر. 

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير