Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف يغذي كورونا الخوف من مرور الوقت والحياة معلقة

فيما ندخل من جديد في إقفال عام و(حجر) شامل على مستوى البلاد يبدو الإحساس بانسلال الوقت أكثر حدّةً ووضوحاً ممّا مضى

الوقت في زمن الجائحة يمضي بطيئاً وتكاد عقاربه تتوقف مع إقفال أبواب مرافق المدينة والتعليم والعمل (غيتي)

أذكر أنني دائماً ما كنت أرغب في أن أكبر في السنّ. وبيَ توق لشراء سجائر "بال مال" Pall Malls وتدخينها أثناء سيري في شارع أكسفورد (الشهير وسط لندن) بينما أنفث حولي غمامة بنكهة النعناع. أردت للشعيرات أن تنمو على رجليّ كي أقتلعها بشرائح الشمع التي أشتريها من متجر سوبردراغ Superdrug. أردت أن أعمل في (منطقة) ويست إند West End (المشهورة بأسواقها وكاتبها في غرب لندن) كي أتناول سندويشات سمك التونة من عند "بريت" Pret a Manger ويكون استخدام خزانة الأدوات المكتبية متاحاً لي بلا حدود [قدر ما أشاء]. عندما أنظر الآن إلى هذه التطلعات السابقة، أجدها متواضعة جداً لكن هكذا هي روعة سذاجة الطفولة.  

واصلت التمنّي بالتقدم في العمر حتى بلغت عامي الخامسة والعشرين. ها قد أدركت أخيراً سن الرشد الصحيح، وعمراً يمكن الاستمتاع بعيشه فعلاً. ومذّاك، أراقب وقتي وحياتي وهما يمران بتركيز شبه مازوشي masochistic. وينضب مع مرور كل ثانية وشهر وسنة مخزون الكولاجين الثمين، بينما لا تزيد في المقابل ثروتي وحكمتي ولا يصبح جسمي أنحف كما كنت أحلم في سنوات ما قبل المراهقة.

من موقعي كصبية عزباء عمرها 27 تعمل عملاً حرّاً ظلّت تقطن مع ذويها حتى وقت قريب، أشعر أنني أتخلّف عن أقراني، لذا ربما يمكنكم أن تتخيلوا حزني عندما فُرض علينا الحظر في مارس (آذار). لم أتخيّل أنني لن أخلع هذا العام سروال الرياضة فيما ينسلّ الوقت منا غير عابئ بأي خطط خمسية وضعناها بعناية لحياتنا.

لا يساورني وحدي شعور القلق هذا. فيما يوشك الإغلاق الثاني أن يبدأ، يشعر عدد متزايد من الناس كأنهم ذباب فاكهة علق في كهرمان [العنبر] ملوث بفيروس كورونا. يقف مجمداً في الزمن بينما تمرّ حياته أمامه. ووجدت دراسة أجرتها كلية لندن الجامعية UCL أن معدلات الرضى عن الحياة سجلت تراجعاً مستمراً الشهر الماضي. 

ويُسمّي الطب هذا النوع من القلق "كرونوفوبيا" chronophobia وهي مشتقة من كلمة "كرونوس" اليونانية، وهو اسم إله الوقت في الميثولوجيا الإغريقية الذي ظهر أحياناً على شكل ملاك الموت، وهو تصوير مناسب حتى هذا الحد. قبل الحجر، كانت كرونوفوبيا التي تعني حرفياً الخوف من الوقت، تؤثر بشكل أكبر بكثير على المسنّين والمساجين وتتجلى عوارضها عليهم وتتراوح مستويات حدتها فتبدأ بالأفكار التي تطاردهم وتصل إلى حدّ الهلوسة والجنون.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مع استمرار الحجر، يشعر كثيرون منا بالحزن أمام عجزنا في هذه الظروف و(سيطرة) شبح خطط كان تنفيذها ممكنا. 

عبر التاريخ، كان على الأشخاص الذين يقطنون نصف الأرض الشمالي أن يخطّطوا عامهم بعنايةٍ حرصاً على جمعهم مخزون طعام في الصيف يكفيهم قضاء الشتاء. وفي المقابل في المناطق ذات المناخ الأكثر دفئاً، مثل جنوب أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، نمت المحاصيل على مدار السنة لذلك لم يتحول التخطيط الدقيق إلى جزء من الثقافة بالدرجة نفسها. 

يقول الدكتور نجم الفلاحي، استشاري الطب النفسي – العقلي في مستشفى نايتينغايل في لندن، إن هذه البلدان فيها ضغط أقل إزاء مواصلة التخطيط مقارنة بمجتمعنا. ويشرح أنه "في طب النفس، نرى نمطاً عند الأشخاص القلقين، الذين يفكرون دائماً في المستقبل أو في الماضي ولا يعيشون اللحظة الراهنة أبداً". وتصحّ هذه الحالة أكثر عند الشباب. 

ويضيف، نتعلم منذ طفولتنا أن سنين مراهقتنا والعشرينات والثلاثينات هي مدة التطوير الذاتي. ويضيف أنه مع الوقت "قسّم المجتمع الحياة إلى ثلاث مراحل، وحتّى منتصف الثلاثينات من عمرك، تعيش مرحلة التخطيط والبناء وهو جزء أساسي في تشكيل هويتك الشخصية". بدءاً بالتحصيل العلمي والحصول على أول وظيفة وصولاً إلى شراء منزل، نتعلم أنه علينا التطور باستمرار وتحقيق أهداف ملموسة قابلة للقياس. 

لكن الكثير من هذه الفرص بات اليوم مُهدّداً. ويشرح الدكتور الفلاحي "لا يمكننا التخطيط الآن وهذا أمر يخلّف وقعاً صادماً ومؤذياً جداً على الأشخاص الذين يمرّون بالمرحلة الأولى من حياتهم. فقد سُلب منهم المدماك الأساسي لهذه الحياة". من المنطقي إذاً أن كثرين منا يرون أن عجزهم عن التخطيط والتقدّم، سواء على الصعيد المهني أو المالي أو العاطفي، أمر غريب ومستهجن.

وتشعر فلورانس آرمسترونغ، مصففة الشعر البالغة من العمر 29 عاما بهذه الخسارة بشدة "لم أعد أتبيّن أي نظام يحكم الأشياء. أشعر كأنني أهدرت سنة من عمري وكلّما نظرت في المرآة  أرى المزيد من الخطوط [تجاعيد] وهذا يرعبني".

ما يخيف آرمسترونغ بشكل خاص، مثل كثيرات ممن هم في أواخر العشرينات من العمر، هو العجز عن المواعدة "أعتقد أنني أقيس مستقبلي للأسف من حيث بناء علاقة، وأكثر ما يخيفني هو أنّني أهدرت الكثير من الوقت في محاولة العثور على أحد. مهما تظاهرنا أنّ هذا العام لم يمرّ أبداً، فقد مرّ، وباعتبارنا نساء ما زالت بويضاتنا تموت سواء وقعت جائحة أم لا".

بالنسبة إلى العديد من العازبين، ألغت الجائحة سراب العزوبية على نحو ما عرضها "مسلسل الجنس والمدينة" Sex and the City، على هيئة حفلة جنسية مستمرة يؤججها احتساء الشمبانيا المستمر. وعلى الرغم من كون الاتصال الإلكتروني أقوى من أي وقت مضى، لا تقوى تطبيقات المواعدة واتصالات الفيديو عبر زوم على استبدال الاتصال البشري الحقيقي. وذات يوم، وجدت بيانات دراسة كلية لندن الجامعية على نحو ثابت أن الشباب الذين يعيشون وحدهم في المدن أكثر عرضة من أي فئة أخرى للشعور بالوحدة والكآبة وتراودهم أفكار إيذاء أنفسهم.

واعدت الكاتبة المتخصّصة في شؤون الجمال غابرييل داير، 28 عاماً، أشخاصاً عدة عبر تطبيق "هينج" Hinge خلال الصيف لكن إحساسها بالتعب يزيد إزاء المواعدة الإلكترونية لا سيما أنّ لقاء الغرباء في أماكن مغلقة بات غير قانوني في مناطق المستوى الثاني من خطة الحجر. وتقول داير "أكره تطبيقات المواعدة. لا أريد الجلوس في غرفتي فيما أنا في موعد مع شخص غريب عبر اتصال الفيديو "فايس تايم"، من يرغب في مثل هذا الأمر؟ أشعر باستمرار بأنني قضيت سنوات عالقة في الداخل من دون أن ألتقي أحداً".

لكن هذا الشعور بحمل عبء احتمالات عقيمة لا تُثمر تماماً كجهد سيزيف Sisyphean (لا يبلغ المرتجى) لا يقتصر على العازبين من دون غيرهم. فالطلاب في كل أنحاء البلاد تُسرق منهم تجربة الجامعة الشهيرة ويُتركون في قاعات مجرّدة من الفرص التي استفاد منها أسلافهم.

وتشدّد كاميلا لوزينسكا براون، 21 عاماً، طالبة في السنة الثالثة في كلية لندن الجامعية، على أهمية الخروج بالنسبة إلى قدرتها على تكوين الصداقات. وتتذكر "التقيت كل أصدقائي المقرّبين أثناء ليالٍ قضيتها خارجاً وهذا ما قرّبنا من بعضنا بعضاً وكسر الجليد بيننا، عندما كنا نضحك على نوادر السكر. أنا محظوظة لأنني أسّست مجموعة أصدقاء ثابتة وأتعاطف مع أخي الذي بدأ بدراسته الجامعية للتوّ ولا يستطيع الخروج". 

كثيرون من أصدقاء لوزينسكا براون قرروا تجاهل قيود المستوى الثاني والاستمرار بالاختلاط مع أسر أخرى حفاظاً على سلامتهم العقلية والنفسية. "كثيرون منهم يعيشون بعيداً عن أهلهم وشبكات دعمهم الاجتماعية ولا يحتكّون بأشخاص مسنّين... مجرّد الجلوس هنا يجعلك مهووساً بمرور الوقت وكل الحفلات التي تفوّتها عليك. عندما تفكّر كثيراً بالموضوع يراودك ألم في المعدة".

يشرح الدكتور الفلاحي إنّ محاولة الاستمتاع بكل يوم بدل تعذيب النفس بالتفكير في المستقبل هو الأفضل بالنسبة إلى صحتنا النفسية. لكن فيما يستمر طنين التنبيهات الهاتفية التي تنبئنا بالمزيد من القيود والوفيات وعظائم الأمور قد يكون ذلك أسهل قولاً وليس فعلاً. غالباً ما أذكر اقتباساً من رواية "غاتسبي العظيم" The Great Gatsby -"نواصل تقدمنا كمراكب تحارب التيار ونعود مرة بعد مرة إلى الماضي" - التي كُتبت بعد مرور ست سنوات على جائحة الإنفلونزا الإسبانية في العام 1918.

على الرغم من هذه التوقعات الكئيبة، يشعر الدكتور الفلاحي بالتفاؤل من أنّ هذا الأمر قد يؤدي إلى تغييرات إيجابية على الأمد البعيد. ويقول "بعد انتهاء الإنفلونزا الإسبانية، ازدهر العالم بشكل جامح وخرج الناس للاحتفال ليس مباشرة بعدها فقط بل استمر سنوات. بدأ الناس يقدّرون الوقت والحياة. فلنّعِد العدة لهذه المرحلة المقبلة". 

وفيما أفكّر في هذا، أبتهج. أنا متأكدة أن الدكتور الفلاحي لا يشير بكلامه إلى نوع المتعة التالي للجائحة الذي أدّى إلى انهيار وول ستريت لكن هذا ما يخطر في ذهني. لوهلة، تتحول جدران غرفة جلوسي إلى رؤى تملؤها فساتين حفلات مبهرجة وبطون تتدلى من قمصان قصيرة وأرضيات دبقة في نوادٍ ليلية ومواعيد من دون حظر والوقوف في غرف تعبق بالدخان وإجراء أحاديث عادية رائعة. إلى ذلك الحين، سوف أستبدل الشاي بالنبيذ.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات