Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

آمال نوار تدخل بقوة "حلقة" الشعراء العرب الذين ترجموا الشعر الأميركي منذ الستينيات

كتابها "حفلة قديمة على القمر" ضم مختارات شاملة ووزع مع "الفيصل"

شعراء اميركيون من أجيال مختلفة (يوتيوب)

التحقت الشاعرة اللبنانية آمال نوار المقيمة في الولايات المتحدة منذ التسعينات، بركاب الشعراء العرب الذين عُرفوا بإقبالهم على ترجمة الشعر الأميركي وتقديم نماذج من أعمال رواده على اختلاف تياراتهم أو مدارسهم وأجيالهم، إلى القراء العرب. هؤلاء الشعراء الذين حدبوا على الشعر الأميركي ترجمة وتعريفاً، يمثلون ظاهرة فريدة في حركة الترجمة الشعرية العربية، وبدا واضحاً أنهم يشكلون "حلقة" يتشاركون فيها عبر ما اختاروا وعرّبوا، في رسم صورة بانورامية شاملة وحقيقية للشعر الأميركي في مراحله ومدارسه وأجياله كافة، ما جعلهم يؤسسون تقليداً شعرياً نادراً ما عرفته حركة الترجمة الشعرية في العالم العربي، ما خلا ترجمة الشعر الفرنسي التي شكلت ظاهرة فريدة أخرى أسهم في ترسيخها شعراء كثر، قد يفوقون عدداً، رفاقهم الإنغلوفونيين[jd1] . أما هذه "الحلقة" فتضم أسماء مهمة من أمثال: توفيق الصايغ الذي أصدر في الستينيات أول "مختارات" شاملة من الشعر الأميركي، يوسف الخال الذي قدم أعمالاً لشعراء أميركيين رواد، سركون بولص الذي كان سباقاً في ترجمة جيل "البيت"، سعدي يوسف الذي كان حراً في خياراته، حسن حلمي الذي قدم مختارات مهمة أيضاً، رفعت سلام الذي ترجم الأعمال الكاملة لوالت ويتمان، سامر أبو هواش الذي ترجم ما يشبه "المكتبة" الشعرية الأميركية التي ضمّت كتباً مستقلة، عابد إسماعيل الذي ترجم الكثير من الشعر والنقد الشعري الأميركيين... ولا يمكن تجاهل أسماء أخرى دأبت على ترجمة قصائد عمدت إلى نشرها في كتب ومجلات ومنهم شريف الشهراني، حسن الصهلبي، أحمد مرسي، شريف بقنة.

ستة شعراء

"حفلة قديمة على القمر" هو عنوان المختارات الشعرية التي أنجزتها آمال نوّار، وصدرت في سلسلة كتاب "الفيصل"، الذي يوزّع مجانًا مع المجلة (مارس- أبريل)2019. وتضم مقدمة شاملة وضافية عن الشعر الأميركي ومدارسه، عطفاً على مقدمات أخرى تناولت فيها الشعراء المترجمين كلاً على حدة، ملقية ضوءاً على خصائص كلّ شاعر، مع منتخبات من قصائده. وهؤلاء الشعراء هم ستة ويمثلون تجارب بارزة، أثّرت في مسار الحداثة في الشِّعر الأميركي خلال القرن العشرين. بدأت مع والت ويتمان ومنجزه الشهير "أوراق العشب"، يليه والاس ستيفنز ونظريته عن الخيال، ثم مينا لُوْي وتجربتها الريادية والراديكالية الفريدة، يعقبها ستانلي كيونتز؛ الشاعر المعلّم والمُعَمِّر، ثم ثيودور رَتْكي؛ المعلّم الآخر، وشاعر الذّات والطبيعة، ثم أخيرًا، إليزابيث بيشوب؛ شاعرة العين، والعاطفة المتحفِّظة. وبدت المترجمة التي هي شاعرة أيضاً، صاحبة صوت مميز، بدفئه ورمزيته وقوّته، كأنها تحتفل بتجارب هؤلاء الشعراء الذين تحبهم وتتماهى في مراياهم، بل كأنها تتورط في أشعارهم بما فيها من متعة ومعاناة. والمختارات هي جزء أول من عمل طموح عن الشعر الأميركي الحديث، تشتغل الشاعرة على إنجازه منذ سنوات. ولا بد من الإشارة إلى أن نوار تمتلك اللغة الإنكليزية امتلاكها العربية، وهذا ما ساعدها على سبك القصائد المترجمة في صيغ شعرية متماسكة وشفافة، بعيداً من الصنعة المجانية والافتعال. إنها تنطلق من روح القصيدة، انطلاقها نفسه من لغتها وشكلها، فتنقلها إلى العربية وكأنها تكتبها بها من دون أن تخون صاحبها وخصائصها. ومن يقرأ الشعراء بالتتالي يدرك كيف أن نوار سعت إلى منح كل شاعر اللغة التي تلائم شعره وتعبر عن عمق تجربته.             

أما المقدمة الضافية التي وضعتها للمختارات فجاءت شاملة وبانورامية تختصر معالم الشعر الأميركي الحديث، في مدارسه والتحولات التي شهدها. ترى نوار أن الشعر الأميركي لا يشذّ عما تسميه الخلطة السحريّة التي تميز الثقافة الأميركية، المتعددة المشارب والمراجع، فالتنوّع خاصيّة أصيلة في هذا الشعر. وفي رأيها أن ويتمان وديكنسون اسمان عظيمان في الشعر الأميركي، عاشا في الزمن نفسه، غير أنّ شعريتهما مختلفتان حتى التناقض، مثلما كانت شخصيتهما؛ فديكنسون كانت تقدّس العزلة والانفراد، وويتمان المُخالطة والرِّفاق. إمرسون، هو الآخر عاش في زمنهما، إنما في فلك فلسفته المتعالية. أما إدغار آلن بو، فتراه متفرداً بعوالمه الشعرية والقصصية الغرائبية والسوداوية.

اختلاف وتفرّد

ولعل نزعة الاختلاف والتفرّد انسحبت على العقود اللاحقة، كما تقول نوار، ومن الممكن ملاحظة كيف انفتح الروّاد من شعراء المدرسة التصويرية الأنغلو- أميركية في عشرينات القرن الماضي، على شعراء المدرسة الرمزية الفرنسية، ومن ثم الدادائية، والسوريالية ليبتكروا شعريات جديدة، تباينت أصوات أصحابها حتّى ضمن المدرسة الواحدة. وتقدم نوار نماذج من التجارب التي صنعت المشهد الشعري في تلك المرحلة. وعلى سبيل المثل خرج عزرا باوند عن الحركة التصويرية للعام 1912 إلى حركة الدواميّة، وانتبه والاس ستيفنز إلى أنّ الأشياء ليست كلّها متساوية كيما تخضع للمواصفات التنظيرية نفسها، وانسحب وليم كارلوس وليامز أيضًا ليجدّد لغته الشعرية، ويطعّمها بالنكهة الأميركية الخالصة، القريبة من لغة عامة الناس، والمختلفة عما عدَّه اللغةَ الباليةَ للثقافة البريطانية؛ وكذلك الأمر مع ماريان مور، التي تفرَّدَ شعرُها

بأسلوب خاص، ولم يحتفظ من التصويرية سوى بخاصيّة الكثافة... وترى نوار أن الشعراء الطليعيين آنذاك لم يكتفوا بنافذتهم على أوروبا، بل سارعوا إلى تشريع نافذة أخرى على الشرق الأقصى، منفتحين على شعراء الصين واليابان وقصيدة الهايكو، وهو ما يؤكِّد الميزةَ الراسخة في الشعرية الأميركية، وهي الاستعداد الهائل لاستيعاب الآخر، والقدرة الفَطِنة على الانفتاح واستثمار التنوّع.

وتعدّد نوار ميزات أخرى للشعر الأميركي، بالغة الأهمية، كان لفت إليها الشاعر أُودن، منها: العلاقة المضطربة بالطبيعة، ففي أميركا، وفق رأيه، لا يشجّع حجم القارّة أو الظروف المحيطة أو عامل المناخ، على الحميمية، إضافة إلى ميزة القلق الذي يفسد علاقة الإنسان بماضيه ومستقبله.

ويمكن استثناء تجارب اهتمت بالطبيعة من خلال علاقتها الجدلية بالذّات، والإنسان المعاصر. وتستخلص نوار أنّ عدم ارتباط الشعراء الأميركيين بالماضي وبالطبيعة، جعلهم يكتبون في فراغهم الخاصّ، وهذا ما جعلهم يكتسبون أصالتهم. ويرجع ذلك أساسًا إلى أنهم لا يشعرون بأيّ ارتباط حقيقي بما أُنجِزَ من قبل، حتّى لو كانوا على دراية به.

من هنا، كما تعبر نوار، تتوالد لدى الشاعر الأميركي عمومًا، البيئة النفسية المواتية ليكون متجددًا، وخلّاقًا، وميالاً إلى جاذبية القطيعة، لا الاستمرارية، ولا تثقل كاهله عقدة الذنب أو تحمله على الوفاء للتقاليد الأدبية الموروثة، مع وجود استثناءات طبعاً.

خلاصات شعرية

من خلاصات المقدمة أن الحداثة الشعرية الأميركية التي انطلقت بالثورة على الشّعر الرومنطيقي الأوروبي، ومن ثم على الفصاحة في اللغة البريطانية، لا تزال مسيرتها الانتفاضية مستمرة إلى اليوم، وذلك بالثورة على مَنْ ثاروا من قبل، وبالثورة على نفسها جيلاً بعد جيل. إنّها ماضية في القطيعة مع الماضي، ومع سلطة الثقافة النخبوية.

وفي فصل بعنوان "وقفات قصيرة في المحطّات الشعرية الست" تلقي أضواء ساطعة على هذه التجارب الفريدة والبارزة، وعلى مميزاتها، وخصوصية كل منها، مع الإحاطة ببعض ملامح الشعرية الأميركية في سياق تطورها، منذ انطلاق مرحلة الحداثة في أواخر القرن التاسع عشر حتّى النصف الأول من القرن العشرين، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الحداثة التي انطلقت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

وفي فصل بعنوان "بصمات ذهبية في ما وراء الترجمة"، تتحدث نوار عن خوضها غمار هذه الترجمة الشعرية، فهي ارتأت الكتابة عن أسماء قليلة "بتبحّر وسخاء، بدلاً من مراكمة أسماء كثيرة في أنطولوجيا شعرية، تتناول تجارب مهمة باقتضاب وإجحاف". وتعترق أنها لم تتجوّل في حياة هؤلاء الشعراء الستة وأشعارهم بمزاج سائحة، غريبة، مندهشة، تلتقط الصور الفوتوغرافية لآثارهم فحسب، بل هي صادقتهم وجدانيًّا، وانغمست في عوالمهم الذاتية، وشاركتهم عذاباتهم ومُتَعهم، ونظرت إليهم كشاعرة متورطة في شعرهم، وكقارئة مفتونة بسحر إنجازاتهم ومشاعرهم وأفكارهم وأحلامهم وأسرارهم ومواقفهم ومساراتهم. وتقول: "كأنني جلست مع ويتمان تحت تلك "السنديانة" الوحيدة في لويزيانا. كأنّ أمواج البحر، اكتسحتني أيضًا، في نزهتي مع ستيفنز في "كيوست"، ومن ذهني وذهنه معًا سال ذاك "البلسم الذهبي". لكأنّ تمددت إلى جانب كيونتز في ذاك "القارب الطويل" الذي تهدهده اللانهائيات، ومعًا صرخنا: "أبي، عُدْ، عُدْ، أنتَ تعرف الطريق". لكأنّ مع رَتْكي رقصت "رقصة الفالس" حتّى تخوم الجنون. روح مينا لُوْي المتمردة، العاشقة، المغامرة، أيضًا جعلت "كلّ خليّة في جسدي جِنِّيًّا صغيرًا"، وروح الخسارة المتوّجة بالكبرياء لدى بيشوب، عذّبت روحي إلى حدّ الألق، والتوهّج البركاني الدَّفين؛ فمثلها أنا، خسرتُ "مدينتين بهيتين، وبِضع ممالك، ونهرًا وقارّة"، ولكنّي غنمتها هي، غنمتُ سحرها، وأصداء "الوَقْع الحزين، لقبقابٍ خشبيّ" كان يُطقطق يومًا ما، في محطة ما، في مدينة ما، على خريطة ترحالها".

يمكن إطلاق صفة "الترجمة بحب أو عن حب" على هذه الترجمة التي أنجزتها آمال نوار، لكنّ الحب هنا لا ينفصل عن المعرفة بهؤلاء الشعراء وبالشعر الأميركي عموماً. وعن الوعي اللغوي والرهافة. إنهم أصدقاؤها ولو خارج الواقع أو بعيداً في الزمن والمكان، وقد وجدت نفسها في قصائدهم وهمومهم. وقد حرصت على ترجمة القصائد التي هي من بين الأهمّ والأشهر لهم، والتي تدلّ على خصوصيات أساليبهم وشعرياتهم. وتقول: "لقد اشتغلت بتأنٍّ وتفانٍ، مطاردةً المعاني الزئبقية، وموليةً موسيقى النصوص وإيقاعها الداخلي عناية فائقة، بحيث لا يضنّ المعنى الشعريّ بموسيقى النصّ، ولا العكس. ولن أخوض هنا، في الصعوبات المعهودة والمعروفة التي يواجهها المُترجم عادةً، في أثناء عملية النقل من لغة إلى لغة، ومن ثقافة إلى ثقافة، ومن ذائقة إلى ذائقة؛ فالترجمة، ولا سيما الترجمة الشعرية، تُواجِه عوائق "فوق لغوية" لنَقْل الإحساس الشعريّ وهو لمّا يزل راعشًا بعد، ومُخضَلّاً، ونداوته تحلّ كالنِّعمة السماوية في النّفس. كيف ننقل البراعة ببراعة، والألم بألم، والهَوَس بهَوَس إلخ...؟ مَطِيَّتنا "الصِّدق"؛ بمعنى أن نقوم بترجمة النصوص بإحساس صادق بها، وتفاعل معها، يتجاوز المعنى السطحي، المباشر، للمفردات، إلى مرامٍ ومقاصد أعمق".

__

 [jd1]

المزيد من ثقافة