استيقظ الجزائريون صبيحة الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، على حالة سياسية جديدة، وتأكدوا من ذلك بعد سماع إعلان رئيس اللجنة المستقلة للانتخابات، عن فوز الـ "نعم" في الاستفتاء حول تعديل الدستور. وبعيداً من نسبة المشاركة الضعيفة، إلا أن اللافت هو أنه أصبح للجزائريين لغة وطنية ورسمية ثانية هي اللغة الأمازيغية، التي كرّسها الدستور الجديد ابتداءً من هذا التاريخ من ضمن "المواد الصماء"، أي تلك التي لا يمكن تغييرها لاحقاً، وتعدّ من ثوابت الأمة إلى جانب اللغة العربية والإسلام والعلم الوطني، بالتالي أبعدها وحررها نهائياً من أي تجاذب سياسي في المستقبل.
حملة مضادة
لكن الجزائريين الذين أصبحت بلادهم تسيّر وفق دستور جديد، هو الثامن في البلاد منذ الاستقلال عام 1962، عاشوا فترة من التجاذب خلال الحملة التي سبقت الاستفتاء، وشهدت "قرع طبول الحرب" من قبل الأحزاب الإسلامية، ضد المادة 4.3 التي تكرس اللغة الأمازيغية لغة وطنية ورسمية ومن الثوابت. وكانت جل نقاشاتهم وتدخلاتهم تدعو إلى الاقتراع ضد الدستور، والغرض من ذلك هو إسقاط هذه المادة. ومن أجل تحقيق ذلك، جاب قادة الأحزاب الإسلامية والجمعيات المصطفة تحت لوائهم، مدناً وقرى جزائرية عدة وعقدوا لقاءات وتجمعات وشاركوا في حوارات إعلامية تلفزيونية وإذاعية. وفي كل ذلك، كانت حربهم ومدافعهم موجهة أساساً ضد مضمون هذه المادة الصماء التي تكرّس اللغة الأمازيغية لغة وطنية رسمية، ودعوا أتباعهم وناشطيهم ومناصريهم إلى الانتخاب بـ "لا" على الدستور، بنيّة إسقاطه، حتى إن عبد القادر بن قرينة، رئيس حركة البناء الوطني القريبة من تيار الإخوان المسلمين، الذي ترشح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، صرح بأنه سيجمع 12 مليون صوت ضد هذا الدستور لإسقاطه، بالتالي إسقاط مشروع اللغة الأمازيغية.
وكان التيار الإسلامي بكل أحزابه وجمعيات المجتمع المدني والجمعيات الطلابية التي تدور في فلكه، شارك في الاستفتاء على الدستور بنيّة إسقاط المادة 4.3 الخاصة باللغة الأمازيغية. وانضم إلى التيار الإسلامي في دعوته إلى إسقاط تلك اللغة، التيار الإسلامي المحافظ في حزب "جبهة التحرير الوطني"، الذي وصل الأمر برئيسه أبو الفضل بعجي إلى المطالبة بمحو وإسقاط الكتابة بالأمازيغية من على لافتات "جبهة التحرير الوطني" الرسمية، إلا أنه تراجع عن ذلك لاحقاً، ما يظهر أن الحزب كان منقسماً حول هذه المادة.
مقاطعة علمانية
وإذا كانت القوى الديمقراطية والعلمانية من الأحزاب والشخصيات السياسية والثقافية الحرة تعتبر معركة ترسيم اللغة الأمازيغية واحدة من معاركها منذ الاستقلال، إلا أنها وعلى الرغم من أن مشروع تعديل الدستور الجديد يكرّس وجود هذه اللغة وفق ما تراه وتدافع عنه منذ الأزمة البربرية عام 1947 ثم في معاركها مع الأنظمة السياسية المتعاقبة منذ الاستقلال، دعت إلى مقاطعة الاستفتاء، لأن مطالبها كانت أكثر وأشمل من هذه المادة الأساسية. واعتبرت تلك القوى أنه يجب ألا يكون موضوع ترسيم الأمازيغية، "الشجرة التي تغطي الغابة"، إذ لطالما طالبوا بدستور يكون مصدره النقاش العام والتوافق ويكرّس حريات أوسع ويفصل بين السلطات فصلاً واضحاً ويقلّص صلاحيات الرئيس.
نتيجة معاكسة
استفاق الجزائريون صبيحة الثاني من نوفمبر وهم يهزأون بالتيارات الإسلامية التي انتخبت ضد الدستور بغرض إسقاط المادة 4.3، فكانت النتيجة لصالح خصومهم الديمقراطيين والعلمانيين الذين قاطعوا الاستفتاء وظلوا يطالبون بجعل اللغة الأمازيغية لغة وطنية وتثبيتها في "مادة صماء".
لقد انتخب الإسلاميون من أجل إسقاط الدستور إلا أنهم وجدوا أن أصواتهم الانتخابية كرّست، من دون وعي منهم، أحد أكبر مطالب خصومهم من الديمقراطيين والعلمانيين. لكن السؤال المطروح اليوم بعد الاستفتاء على الدستور الجديد، هو كيف سيكون مصير البلد بلغتين رسميتين على مستوى التعليم والإدارة والإعلام والثقافة؟
وأدخل النظام الجزائري البلد في مرحلة جديدة على المستويات التنظيمية واللغوية والسياسية أيضاً، وعليه أن يدرك كيف سيعالج هذه المرحلة منذ البداية حتى لا يسقط البلد في الارتجال والفوضى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعميم الأمازيغية
ولا يمكن تحقيق ما ورد في الدستور الجديد، في ما يتعلق بمنح اللغة الأمازيغية حقوقها الثقافية والتعليمية والسياسية، إلا إذا أُنجز ما يلي وبشكل علمي وتربوي على المستوى الوطني، بعيداً من الشعبوية السياسية، التي عرفتها تجربة التعريب في الجزائر في بداية السبعينيات.
ويجب أن تقرأ معركة تعميم الأمازيغية جيداً الأخطاء التي وقعت فيها معركة التعريب، ومن هنا يجب أن تكون مقاربة معالجة اللغة الوطنية الأمازيغية معالجة وطنية شاملة، أي إخراجها وتخليصها من كل مقاربة مناطقية أو جهوية. وأمام هذا الوضع، لا بد من أن يتولّى أمرها ذوو الاختصاص من تربويين وعلماء الاجتماع، وذلك لوضع خريطة علمية دقيقة لتعميم تعليم اللغة الأمازيغية بحكمة وهدوء، ولكن لن يتحقق ذلك لذوي الاختصاص مهما كانت كفاءاتهم العلمية ونيّتهم الصادقة واجتهادهم التربوي وحسّهم الوطني، إلا إذا توفر لهم غطاء متين من إرادة سياسية ديمقراطية متفتحة ومؤمنة حقيقة بـ"جزائر جديدة" كما هو الشعار المرفوع الذي طرحته ثورة الحراك التي انطلقت في 22 فبراير (شباط) 2019 وأطاحت بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة وعدد كبير من حاشيته.
تجارب سابقة
مبدئياً، يجب التفكير في اختيار الحرف الرسمي الموحّد الذي تُكتب به هذه اللغة الوطنية من دون ضياع الوقت، ويجب أن يكون هذا الاختيار مؤسساً على قاعدة علمية بعيداً من الشعبوية السياسية الإسلاموية أو البعثية التي تدعو إلى كتابتها بالحرف العربي، وهي دعوة ليست حبّاً باللغة العربية، بل إن هدفها إفشال تجربة تعليم هذه اللغة وخلق بلبلة حولها. إن من يبحث في اختيار الحرف المناسب، عليه أن يقوم بذلك في ضوء ما تحقق من البحوث التي أُنجزت في هذا المجال منذ قرن من الزمن، وأن يتأسس ذلك على قراءة موضوعية وهادئة للمسار الذي حققته هذه اللغة الوطنية، منذ كتابات واجتهادات كثير من العلماء والباحثين والمجتهدين جرت على مدى ثلاثة أجيال متلاحقة من دون كلل، على الرغم من الملاحقات والسجن والنفي والإقصاء التي تعرّض لها هؤلاء من أمثال الأنتروبولوجي الكاتب مولود معمري وسعيد بوليفة وسالم شاكر وعمار مزداد وعبد الله حمان ويوسف مراحي وعبد السلام عبد النور وسعيد شماخ وجمال بن عوف وحميد أوباغة ومحند أكلي صالحي وإبراهيم تازاغارت وعبد الرزاق دوراري وتسعديت ياسين وغيرهم.
ويجب على هؤلاء المتخصصين، التفكير في التأسيس الفوري لمدرسة وطنية كبيرة لتخريج المعلمين الأكفاء لتدريس هذه اللغة من دون السقوط في شعبوية وارتجالية "تجربة التعريب" التي خلقت أعداءً وخصوماً للغة العربية، لا لشيء إلا لأن تجربة التعريب كانت سياسية أيديولوجية أكثر منها علمية، وتولاها الإخوان المسلمون القادمون من المشرق العربي بشكل خاص، الهاربون من أنظمتهم السياسية أو بتنسيق معها. بالتالي، فإن تأسيس مدرسة وطنية لتكوين وتخريج المعلمين على أساس تربوي علمي، هو تخليص تعليم الأمازيغية من كل حس سياسوي أو جهوي.
ويجب الإسراع في التفكير بتأسيس كتابة دولة (إدارة رسمية) تابعة لوزارة التربية الوطنية، خاصة بتعليم اللغة الأمازيغية لتوفير الوسائل المادية والبشرية والمنهجية، كي يلتحق تعليمها من حيث الإمكانيات، بما هو متوفر للغة العربية.
كما يُفترض التفكير أيضاً في تأسيس كتابة دولة تابعة لوزارة الثقافة من أجل دعم الترجمة وتشجيع الإبداع بهذه اللغة في الأدب والسينما والمسرح، بخاصة الإبداع الموجّه للطفل، وتوزيع هذا الإبداع على المستوى الوطني وتحريره من كل جهوية أو مناطقية.
ويجب أن يبدأ العمل الجاد على تحرير "الأكاديمية الجزائرية للغة الأمازيغية" و"المحافظة السامية للغة الأمازيغية" باعتبارهما المؤسستين المهتمتين بترقية اللغة الأمازيغية، وتحريرهما من الحس السياسي والأيديولوجي وجعلهما فضاءً حقيقياً للعلماء والمتخصصين من أجل خدمة هذه اللغة وترقيتها بعيداً من التجاذبات.
لقد استفاق الجزائريون على مرحلة جديدة في حياتهم اللغوية والتنظيمية والسياسية، على الرغم من المقاطعة الكبيرة، إلا أن الدستور الجديد أصبح أمراً واقعاً.