Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفن السابع بين القتل والبراءة والبحث عن لغة الأدب

حين أرّخ أربعة من كبار المخرجين للسينما في مئويتها الأولى

المخرج أمير كوستاريكا (غيتي)

في واحد من مشاهد فيلم "أندرغراوند" للمخرج البوسني أمير كوستاريكا، يخرج أهل القبو المحتجزين فيه معتقدين أن الحرب لم تنته بعد، فإذا بهم يجدون فوق الأرض قوات ألمانية، من فورهم يعتقدون أنها قوات ألمانية حقيقية ويبدأون مقاومتها ويقتلون ويجرحون ضابطاً وجنوداً منها. ثم تمضي برهة قبل أن يتبين لهم أن ما وجدوه إنما هو تصوير لفيلم عن "الحرب الوطنية" و"المقاومة ضد النازيين" وأن الحرب الحقيقية انتهت منذ زمن بعيد، وأن الألمان هنا ليسوا سوى كومبارس وممثلين ثانويين يقومون بأداء "فيلم كاذب" جديد يروي الحرب من وجهة نظر منتصريها.

كان الفيلم يومها جزءاً من احتفال السينما بمئويتها الأولى حيث عرض المهرجان الفرنسي أفلاماً عدة حققها سينمائيون عن السينما كموضوع وكان هذا المشهد من فيلم كوستاريكا وحده كافياً لجعل "أندرغراوند" يصنف في خانة أفلام السينما عن السينما، وقال كوستاريكا أنه يعتبر فيلمه عملاً عن السينما، أكاذيب السينما، خياليات السينما.   

الفيلم الأسطوري لم يوجد أبداً

إذا كان كوستاريكا، اختار أن يجعل السينما قطب الرحى في واحد من أجمل مشاهد "أندرغراوند"، فإن زميله اليوناني ثيو أنغلوبولوس، طاول في فيلمه "نظرة أوليس" وللمناسبة نفسها، فن السينما بشكل أكثر وضوحاً ومباشرة. فعلى رغم أن فيلمه يتحدث هو الآخر عن حرب البلقان، فإن انغلوبولوس انطلق في مشروعه من أساس سينمائي: يتجول بطله (أوليس المعاصر) في بلدان البلقان، بعد أن ظل عقوداً منفياً في الولايات المتحدة، للبحث عن لفافتي فيلم أسطوري، كان من أول الأفلام البلقانية وحققه الأخوان ماناكيس رائدا السينما في اليونان وفي البلقان. أنغلوبولوس يعرّف فيلمه بأنه "بحث عن نظرة ضائعة، وعن براءة مفقودة" وهو يقصد بالنظرة والبراءة، نظرة السينما إلى الواقع في بداياتها، وهو يضع تلك النظرة في تعارض مع الصور الراهنة التي تصوّر حروب البلقان. فإذا كان الرجل الذي يطلق عليه الفيلم اسم "A"، عاد من منفاه ليذرع البلقان عبر رحلة تشبه رحلة بطل ملحمة الأوذيسة والإلياذة، فيعاصر حروب هذا البلقان العجيب، فإن نظرة A إلى كل ما يحدث لا تزال مطعمة بالبراءة الأولى التي كانت طبعت نظرة الأخوين ماناكيس إلى بلقانهما في ذلك العصر المبكر من عصور المذابح. أمام هذا التوازي والتقاطع بين نظرة الأخوين ونظرة A ونظرة أوليس، لا يعود من المهم أن يثبت لنا أن لفافتي الفيلم الأسطوري موجودتان حقاً، أم أنهما لم يصورا من الأساس، أم أنهما صورا ولم يحمضا، فبراءة السينما في أيامها الأولى، ليس المهم أن نعثر اليوم على دليلها الحسي، المهم أن تشكل بالنسبة إلينا ذريعة لنظرة جديدة، أو تعويذة ولو وهمية ضد نظرة الواقع الشريرة المدمرة. وبهذا المعنى يضع أنغلوبولوس براءة السينما في صباحاتها الأولى، على تعارض مع ما يراه ويختبره A في بلقان العصور الحديثة.

واضح هنا أن براءة السينما لدى أنغلوبولوس ستبدو، في الظاهر، متعارضة كل التعارض مع أكاذيب السينما كما يصورها كوستاريكا، غير أن هذا التعارض لا يوجد إلا في الظاهر، لأن كوستاريكا، بدوره، لا يقترح علينا أقل من حيادية السينما، وقدرتها على أن تكون بريئة، أو شريرة في الوقت عينه، بحسب الدور الذي ننيطه بها.

 

أسوأ سينمائي في التاريخ

السينما في براءتها الأولى. السينما في جانبها المبهر، هو الموضوع الأساسي، كذلك، في فيلم هو كله هذه المرة عن السينما، وأي سينما؟! هذا الفيلم هو "إد وود" من إخراج الأميركي تيم بورتون. وود الذي يحمل عنوان الفيلم اسمه هو المخرج إدوارد وود الصغير، الذي دخل تاريخ السينما من باب ضيق باعتباره "أسوأ مخرج عرفه فن السينما على الإطلاق"، والطريف أن هذه السمعة - السلبية للوهلة الأولى - هي التي لفتت أنظار هواة السينما قبل سنوات إلى أفلام هذا المخرج العجيب الذي عاش علاقته بفن السينما انبهاراً دائماً، وكانت سينماه الحقيقية علاقته هو نفسه بالسينما، لا سيما بنجم أفلام الرعب بيلا لوغوسي. لقد اختار تيم بورتون أن يصور جزءاً من سيرة إد وود يبدأ مع تعرفه على بيلا لوغوسي، وينتهي بعد فترة قصيرة من موت هذا الأخير ضحية لإدمانه. ومن هنا جاء الفيلم مزدوج البعد، فهو من ناحية رسم جزءاً من حياة إد وود وافتتانه بالسينما، والأساليب المضحكة والملتوية التي يمارسها من أجل الوصول إلى تحقيق أفلامه العجيبة الحافلة بالأخطاء وبالسخافات؛ ومن ناحية ثانية رسم لنا، بطريقة مجازية ومواربة، حياة السينما نفسها من خلال سقوط نجم في سنوات الخمسين، هو بيلا لوغوسي. ولقد عرف تيم بورتون كيف يخلق "تمفصلاً" فعالاً بين جانبي فيلمه. وهذا "التمفصل" جاء عن طريق نظرات إد وود البريئة. فمن هو إد وود في نهاية الأمر؟ هو بالتأكيد واحد من ملايين الشبان الذين اجتذبهم الفن السابع، فإن كان الملايين عجزوا عن أن يكونوا أكثر من مجرد متفرجين، فإن إد وود أصر على أن يكون مخرجاً من دون أن تكون لديه أية بضاعة ثقافية، بل أية مخيلة عفوية تساعدانه على تحقيق ما يريد من أفلام. كانت المواضيع لديه تولد يوماً بيوم، من خلال نظرة، أو حتى من خلال لقاء: في هذا المجال يكاد يكون أجمل مشاهد الفيلم ذلك اللقاء الوهمي الذي يخيله تيم يورتون بين إد وود (مرتدياً ملابس نسائية فاضحة) وبين أورسون ويلز، جالساً مكتئباً في مقهى.

من الواضح أن بورتون شاء أن يصور الحد الأقصى للمشاعر وللعبة الانبهار، عبر فيلم عن مخرج الحد الأدنى ليوصل التناقض إلى ذروته، وليجعل تحيته إلى فن السينما في مئويتها، أكثر صدقية وبراءة. وما تصويره لفيلمه بالأسود والأبيض سوى إمعان في إيصال تلك البراءة إلى حدودها القصوى. لقد توقف تيم بورتون في الفيلم عند رهط من مشعوذين وصعاليك ودجالين شكلوا عالم إد وود، ثم غاص في دواخلهم وبين لنا كم أنهم أطفال في تلك الدواخل، وكشف لنا كم أن السينما عززت من براءتهم وطفولتهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تلك المدينة الغريبة

الطفولة، وبراءة السينما، ثم قدرة السينما على إنقاذ أرواحنا، هو الموضوع الذي يختبئ خلف فيلم أساسي آخر من تلك الأفلام مهرجان كان: "قصة لشبونة" للألماني فيم فندرز. في هذا الفيلم يعود فندرز إلى موضوعة السينما، حتى ولو بدا على شكل "فيلم طريق". فالرحلة التي تبدأ في ألمانيا لتصل إلى لشبونة يقوم بها هنا رودجر فولغر، الذي اعتدنا أن نراه في أفلام سابقة لفيم فندرز، وهو يحمل هذه المرة اسم فيليب ونتر، ويتوجه عابراً أوروبا التي صارت بلا حدود لكي يساعد على إنقاذ فيلم يحققه صديقه فردريش مونرو عن لشبونة. الفيلم صامت، لكن مخرجه يحتاج إلى مؤثرات صوتية تنقذه. وونتر هو أبرع من حقق تلك المؤثرات. يصل ونتر إلى لشبونة لكنه لا يعثر على صديقه، بل يجد بيته محتلاً من قبل عصابة أطفال يمضون وقتهم في تصوير مشاهد سينمائية بواسطة كاميرا فيديو. ومن بين الأطفال طفل غامض صامت يكون هو الذي يقود ونتر في نهاية الأمر إلى حيث يختبئ صديقه مونرو بعد أن أصابته أزمة إبداع وقرر التوقف عن تكملة الفيلم.

واضح هنا أن "قصة لشبونة" ينتمي إلى فيلم رائع آخر من أفلام فيم فندرز هو "وضعية الأمور" صور بدوره في لشبونة، وتحدث موضوعه كذلك عن عملية التوقف عن تصوير فيلم في المدينة كان عنوانه آنذاك "الناجون". الموضوع نفسه في الحالتين. وفي الحالتين أزمة إبداع وجمود وتوقف، ومرجعيات أدبية وسينمائية، تدخل الفيلم كله عالماً ذهنياً عبر لغة سينمائية تستمد آفاقها من ثقافة أوروبية ذات دلالة، يعبَّر عنها في الفيلم الجديد، باكتشاف ونشر كتابات البرتغالي الغامض فرناندور بيساو. إذن، عبر قراءة مقاطع عن أشعار بيساو، يعيش وينتر حياة مدينة لشبونة الغامضة، ويستخدم تقنيات السينما لتسجيل أصوات أهلها وأحاديثهم وضجيج المدينة، ثم حين يلتقي أخيراً بصديقه المخرج، تكون خطبة عن فن السينما تبعث الحياة والأمل في نفس المخرج فإذا به "يمتشق" كاميراه القديمة ويذرع الشوارع مصوراً حياة المدينة ويشاركه وينتر حماسته مسجلاً الأصوات. في "قصة لشبونة" تختلط السينما بالأدب، والرؤية الذاتية بحياة مدينة غامضة يزيد من غموضها كتابة بيسوّا ثم الإيطالي أنطونيو تابوكي عنها، فإذا بفيلم فيم فندرز يأتي ليعطيها حياة متجددة تأتيها عبر سينما تنظر إليها في براءة كلية. كما لو أن فندرز يريد أن يقول لنا، كما يفعل أنغلوبولوس وبورتون من قبله، بأن السينما التي تضحى مع مرور الزمن بديلاً من الحياة وجزءاً منها، لا بد لها أن تحوز على كل البراءة اللازمة لكي تصل إلى هذا المستوى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة