Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تكشف لوحة فيرمير الأشهر والأكثر تعقيدا أسرارها يوما؟

تعبير عن الفن هي أم كناية عن التاريخ وملهمته أم شيء آخر تماماً؟

لوحة "الفتاة ذات اللؤلؤة" لفيرمير 1615 - 1675 (غيتي)

ما من لوحة من اللوحات القليلة الباقية حتى اليوم من إنتاج الرسام الهولندي يوهان فيرمير، حيّرت مؤرخي الفن وهواته بقدر ما فعلت لوحته التي لا يزال لها حتى اليوم عناوين متعددة تزيد من حيرتهم. فهي حيناً "فن الرسم" وحيناً "الرسام وموديله" وتارة "الرسام في محترفه" ثم "مجاز الشهرة" بالنسبة إلى بعض الباحثين الإنجليز، وغالباً "مجاز الفن" بالنسبة إلى كثر. ثم ما إن يستقر المؤرخون على واحد من هذه العناوين حتى يطلع باحثون يبدون أكثر علماً وجدّية ليقولوا حاسمين: أبداً بل إن العنوان الذي ينطبق عليها أكثر من غيره لن يكون سوى "كناية التاريخ" بمعنى أن اللوحة التي رسمها فيرمير بين العامين 1666 و1673 وتعتبر من لوحاته الضخمة نسبياً (130x 110 سم) لا علاقة لها مباشرة بالرسم وبالفنان وبموديله على الرغم من المظاهر، التي غالباً خداعة كما يقول لنا الواقع. وهنا من خلال هذه المظاهر أراد الفنان، بحسب هذه الفرضية التي سنرى بعد سطور أنها الأكثر صواباً، أن يمجد التاريخ كما فعل بالنسبة إلى علوم أخرى كالجغرافيا والفلك، بل حتى كما فعل بالنسبة إلى الإيمان الذي كرّس للتعبير عنه لوحة بديعة.

من هو ذلك الفنان الغامض؟

ولكن قبل التوقف عند هذه اللوحة ورموزها ومدلولاتها قد يكون من المفيد أن نتوقف بعض الشيء عند الرسام نفسه، الذي لا شك في أنه على أية حال هو من نراه من الخلف جالساً أمام لوحة يرسمها في ظلام الجانب الأيمن منها وأمامه المشهد الذي يرسمه. ففيرمير وعلى عكس ما يفعل معظم الرسامين عادة، لم يشأ أن يجعل من نفسه محور اللوحة وموضوعها. كل ما في الأمر أنه، بتواضع أُثر عنه، جعل الصدارة للموضوع الذي يرسمه. في هذا الإطار قد يكون فيرمير، وعلى الأقل من خلال العدد القليل من لوحاته التي وصلتنا حتى الآن ولا تزال تنكشف بالقطارة مرة أو مرتين كلّ نصف قرن، أقل فناني عصر النهضة احتفالاً بشخصه ورسماً لنفسه، من هنا تزداد الأسرار والغوامض المتعلقة بحياته وفنه كلما توغلنا أكثر في سبر لوحاته والمعلومات المتوافرة عنه.

 

 

نعرف مثلاً أنه ولد عام 1632 ابناً ثانياً لأبويه في مدينة دلفت التي سيكنّى بها طوال حياته، ونادراً ما غادر المدينة التي استقر فيها يرسم لوحاته ويبيعها ليتمكن من العيش. ونعرف أنه تزوج عام 1653 من ابنة صاحبة فندق كانت قاسية عليه واستُردت بعد موته بضع لوحات من أرملته على سبيل سداد بعض الديون، منها اللوحة التي نحن في صددها. أما أول لوحاته الموقّعة منه فتحمل تاريخ 1656 وصار من بعدها بست سنوات نقيباً للرسامين في المدينة ثم انتظر حتى عام 1668 ليوقّع لوحة ثانية هي "الفلكي" المعروضة في متحف اللوفر اليوم. أما بالنسبة إلى تنقلاته فيبدو أن واحدة كانت إلى فرنسا ثم أخرى إلى أمستردام عند بداية العام 1675 الذي رحل فيه عن عالمنا في عزّ عطائه، في السادسة والخمسين من عمره.

فن واقعي يناسب الزمن الجديد

فن فيرمير بشكل عام واقعي ومعظم لوحاته صغيرة الحجم تبدو كأنها رُسمت داخل بيته الفسيح بما في ذلك بضع لوحات دينية لا تعتبر من أهم أعماله على أية حال. ففن فيرمير دنيويّ يمثل غالباً مشاهد من الحياة اليومية. بل يمكن القول إن معظم تلك اللوحات بورتريهات تمثل أناساً يعرفهم ويعرفونه وربما من أفراد عائلته. ولن ننسى في هذا السياق ذلك الفيلم السينمائي الجميل المعنون "الفتاة ذات اللؤلؤة" الذي قامت فيه سكارليت جوهانسون بدور خادمة في بيت الرسام وكانت عشيقته ورسمها تكراراً. طبعاً كان الفيلم مبنياً على قصة خيالية لكنه أعطى فكرة عن فن الرجل الذي أوصل الفن الدنيوي البوجوازي إلى ذروة في هولندا، حيث كان يعيش ذروة انتقاله من مجتمع ديني إلى مجتمع مدني تلعب فيه الفردية دوراً، وكذلك الحكم المدني. وربما في مقدورنا على أية حال أن نعتبر هذه اللوحة هنا علامة على ذلك الانتقال. ولو من باب الاكتفاء باعتبارها تعبيراً عن التاريخ ودروسه انطلاقاً من أن الهولنديين كانوا فخورين بذلك التاريخ الذي نقلهم فكراً ومجتمعاً وثقافة وسياسةً إلى العصور الحديثة كما يفيدنا الباحث سيمون شيما بالتفصيل في كتابه الكبير "تعانق الثروات".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تمجيد مركّب لتاريخ براق

بالنسبة إلينا هنا سنتبع هوى أولئك الذين ربطوا اللوحة بتمجيد التاريخ وقدموا لدعم نظريتهم قرائن يصعب دحضها ومعلوماتهم. منها، جانبياً، الخريطة الكبيرة التي تمثل ما كان قد تبقى من أراضي البلاد الواطئة قبل أن تستعيد هولندا كامل أراضيها طاردة المحتلين الإسبان وقد اعتنقت البروتستانتية على الضد من باباويتهم الكاثوليكية. ونلاحظ على جانبي اللوحة صوراً للعديد من السفن المعروفة في التاريخ الهولندي وبخاصة السفن التجارية التي لعبت دوراً كبيراً في ولادة المجتمع الهولندي التجاري الجديد. ولنلاحظ هنا أيضاً كيف أن أكسسوارات الغرفة نفسها بما فيها الكراسي والستائر وبعض الأشياء المرمية على الطاولة تنتمي إلى عراقة تاريخية لا شك فيها، بل إن الستارة الكبيرة نفسها تعبق برائحة آسيوية تنم عن الحاضر الكولونيالي لهولندا. غير أن هذا يبقى ثانويّ الدلالة مقارنة بالموديل نفسها. فهذه، ومهما كان من شأنها في الحياة الحقيقية، يبدو واضحا أنها أُلبست وزُيّنت بشكل يجعلها كناية عن شخصية تاريخية محددة سيقول الباحثون بكل ثقة إنها شخصية كليو المعروفة في الفنون والأساطير القديمة بكونها ملهمة التاريخ ورمزه ويؤكد ذلك تاج الغار الذي وُضع على رأسها ربط تاريخياً بإلهة التاريخ تلك. والبوق الذي تحمله في يدها اليمنى هو الذي يستخدم تاريخياً للإعلان عن الانتصارات وبحزن عن الهزائم ما يربطه بالتاريخ بصورة مباشرة، ويجد التعبير النظري عنه في الكتاب الذي تحمله "كليو" في يدها اليسرى كأنها بضمّه بهذا الشكل إلى صدرها تعلن انضمامها إليه بل اندماجها الكلي به، ناهيك بالنظرة التي تلقيها في الوقت نفسه في نصف استدارة ناحية الرسام، إلى الصفحات المفتوحة على الطاولة بجانبها. من الواضح أن كل ذلك يحيلنا مباشرة على التاريخ، حتى إن كان ثمة ما يعطي الفن هنا دوراً في تصويره!

من حواضر البيت

نظر الباحثون إلى لوحة فيرمير هذه، بكونها واحدة من أعمق لوحاته وأكثرها تركيبية لتعدد عناوينها وتفسيراتها. وإن كان ثمة اتفاق على الأقل يتناول كون الرسام المرسوم في اللوحة لا يمكن أن يكون سوى فيرمير نفسه، مع افتراض فحواه أن من "تلعب" هنا دور كليو إنما هي واحدة من بناته، وهي فتاة يمكن مشاهدتها في عدد من "بورتريهات" أخرى رسمها لمشاهد في حياة يومية منزلية تعبق بالفن والحسّ العائلي، لكن لا تنم على أية حال عن الفقر الذي أحاط بحياته وجعله غارقاً في الديون بشكل دائم، بما في ذلك تلك التي كانت تتوجب عليه لأم زوجته والتي ما إن رحل حتى وضعت يدها على هذه اللوحة بين العديد من المقتنيات الأخرى التي تركها لزوجته. الحقيقة أن هذا الواقع يضعنا أمام سؤال لا بد منه: لماذا لم يرسم فيرمير كثيراً ولو لبيع لوحات يسدد بثمنها ديونه ويوفر لعائلته حياة كريمة قد توحي بها اللوحات؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة