Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا ستتسع الهوة بين شمال بريطانيا وجنوبها في ظل جونسون؟

عصابة "داونينغ ستريت" ترفع مستوى أصدقائها في الشمال اقتصادياً واجتماعياً لكنها تضعف تلك المنطقة في السياسة

تخبط بوريس جونسون في مواجهة كورونا عزز قوة السلطات المحلية مناطقيا (غيتي)

توجه بوريس جونسون إلى "سيدجفيلد" في مقاطعة دورهام بعد فوزه الاستثنائي في الانتخابات العامة في ديسمبر (كانون الأول) 2019. وقد  اشتهرت هذه المنطقة بمناجم الفحم، وتعد مكاناً يحمل معان رمزية مهمة، إذ بقيت دائرة إنتخابية عمالية آمنة لزمن طويل، ومثّلها توني بلير في مجلس العموم، بعدما فاز بها في الانتخابات بغالبية بلغت ذات مرة 25 ألف صوت، أو 53 في المئة من الأصوات. وقد خسر فيل ويلسون، النائب الذي خلف بلير على مقعد "سيدجفيلد"، أمام مرشح المحافظين بول هاول إثر زيادة في حصة المحافظين من الأصوات بنسبة 13 في المئة ما أدى إلى فوز هاول بأغلبية 4500 صوت. وتذكيراً، لقد احتفظ حزب العمال بذلك المقعد منذ 1935 إلى ذلك الوقت. ويعد من المقاعد في شمال البلاد وأجزاء من منطقة "ميدلاندز" في وسط إنجلترا، التي اتخذت خطوة التحول التاريخي، إذ تخلت عن حزب العمال وأعطت أصواتها للمحافظين، وذلك استجابة لمشروع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتعهد بـ"رفع المستوى" الاقتصادي لبلدات منسية تخلفت عن الركب. هكذا تحول "الجدار الأحمر" الشهير (إشارة إلى مناطق تؤيد حزب العمال تقليدياً) إلى أزرق (لون المحافظين). 

وآنذاك، ذكر جونسون "أود أن أشكر جميع الناس في هذه الدوائر الانتخابية المدهشة. أود أن أشكركم جميعاً على الثقة التي أوليتموها لحزب المحافظين ولي أنا، وأعلم مدى صعوبة اتخاذ ذلك القرار. أود أن يعرف سكان الشمال الشرقي، أننا سنكون عند حسن ظنهم. وسيكون كل شيء أفعله كرئيس لحكومتكم، مكرساً كي نكون عند حسن ظنكم".

ووفق ما يذهب إليه مثل دارج، كيف يجري ذلك يا بوريس؟

فيما تستعد الحكومة لإغلاق معظم القطاعات الاقتصادية في الشمال ومنطقة "ميدلاندز"، وتدخل في صراع مفتوح مع عديد من القادة المحليين، ينبغي أن يكون الجواب بأن ذلك لا يجري بشكل حسن. ويتأكد يوماً بعد يوم أن "تنفيذ" الخروج من الاتحاد الأوروبي أمر أكثر صعوبة مما كان متوقعاً، بصرف النظر عمن يستحق اللوم عن ذلك. ولا يزال عدد من المناطق الصناعية والوظائف، في الشمال ومناطق "ميدلاندز"، معتمداً على أسواق الاتحاد الأوروبي وسلاسل التوريد التي ستتلقى ضربة قاصمة إذا خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون صفقة، حتى لو كان بعض مواطني هذه المناطق قد صوتوا لمصلحة تلك النتيجة (الخروج من دون صفقة) عن وعي كامل مع معرفة بما يمكن أن تؤدي إليه.

وكذلك فإن مشاريع البنى التحتية "الجاهزة للبدء"، إضافة إلى مشاريع أخرى، لا تزال في حاجة إلى مزيد من الوقت قبل انطلاقها على غرار "إتش إس 2" (المرحلة الثانية من بناء خط السكك الحديد العالية السرعة)، لم تُحدث أثراً كبيراً في الشمال حتى الآن. في هذه الأثناء، يعاني ذلك الجزء من البلاد بشكل غير متناسب من قيود "كوفيد"، ويتفق كثيرون مع ما ذهب إليه آندي بورنهام (محافظ مانشستر) عن معاملة الشمال بطريقة غير عادلة.

في مقلب مغاير، كي نكون منصفين، تحقق الحكومة مزيداً من التقدم بشكل ودي في مناطق أخرى. وسواء تعرضت مقاطعة "لانكشاير" ومدينة "ليفربول"، للتنمر أم لا، فإنهما توصلتا إلى التأقلم مالياً، على غرار ما تفعله منطقة مدينة "شيفيلد" في جنوب "يوركشاير". وقد تتوصل مقاطعة "ويست يوركشاير"، وسلطات الشمال الشرقي ومدينة "نوتنغهام"، إلى وضع مماثل، وقد لا تفعل. وعلى أي حال، فإن الخلافات بشأن المال، وإخفاق الأعمال، وعودة البطالة الجماعية رغم تمديد العمل ببرنامج الإجازات المفتوحة (بمعنى دفع بدل مالي عن أيام التوقف عن العمل بسبب كورونا)، لا توحي كلها بأن ما يجري يشكل "رفعاً للمستوى".

وعلى الصعيد السياسي، تقارن شخصيات مثل بورنهام وليزا ناندي، وزيرة الخارجية في حكومة الظل والنائبة عن دائرة "ويغان"، الأجواء السامة الحالية بتلك التي شهدتها مرحلة الثمانينيات من القرن العشرين. إذ ارتبط  عهد مارغريت ثاتشر بإهمال مناطق ومدن الشمال مع تعزيز ملحوظ للانقسام بين الشمال والجنوب. وآنذاك، دعا بعض المسؤولين الحكوميين إلى تبني فكرة السماح لمدن تعاني تفتتاً على غرار ليفربول، بأن تنهار بطريقة منظمة وتتلاشى، علماً أن أعمال الشغب (التي شهدتها المنطقة) والجهود التي بذلها اللورد مايكل هيزلتاين، الوزير (في ذلك الوقت بحكومة ثاتشر، قد صححتا بعضاً من تلك الأفكار.

وكذلك أدى إضراب عمال مناجم الفحم الوحشي بين 1984 و1985، وخفض المعونات والخدمات العامة (من حكومة المركز المحافظة)، ودورة الحرمان والانحطاط، إلى جعل الشمال مكاناً كئيباً يسوده البؤس. ولم يكن غريباً على الإطلاق أن سنوات ثاتشر وخلفها جون ميجور، شهدت اختفاء النواب المحافظين في مدن عظيمة كـ"شيفيلد" و"مانشستر" و"برادفورد" و"لييدز"، لأنها لم تعد تريدهم أن يمثلوها في مجلس العموم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وآنذاك أيضاً، حدث مقدار كبير من الاستياء المتبادل. وحازت شخصية هاري إنفيلد الكوميدية الصاخبة المسماة "لودزاموني" Loadsamoney (وتعني أكواماً من النقود) التي قدمت نموذجاً عن متعهد البناء في مقاطعة "إيسكس" في جنوب البلاد نظيراً لهذه الشخصية في شمال شرقي إنجلترا، عبر شخصية أُطلق عليها لقب "بوغرأولموني" Buggerallmoney (أي اللعنة على كل النقود). وعلى نحو مماثل، ظهر كاتب عمود صحافي اسمه بوريس جونسون، اشتكى ذات مرة من عقدة الضحية التي عانى منها أبناء "ليفربول"، في رأيه.

واستطراداً، لقد سعى جيل لاحق من قادة حزب المحافظين إلى تغيير هذا الوضع تغييراً كاملاً. وعلى ذلك النحو، طور جورج أوزبورن، وزير المالية الأسبق الذي كان نائباً عن دائرة ثرية في مقاطعة "شيشّاير" في شمال غربي إنجلترا، سياسات كمشاريع تنمية مناطق الشمال Northern Powerhouse التي اشتملت على خطط طموحة في إنشاء شبكات السكك الحديد الضرورية للغاية، بهدف ربط أجزاء المنطقة ببعضها بعضاً وبالجنوب أيضاً.

وسعياً إلى استكمال نموذجه الاقتصادي الجديد، شجع أوزبورن المجالس البلدية في الشمال ومنطقة "ميدلاندز"، على الاتحاد ضمن مجموعات إقليمية أكبر برئاسة قادة منتخبين محلياً بشكل مباشر، أو محافظين، ممن سيتمتعون بصلاحيات أوسع، وبتأثير أكبر بقليل، على إنفاق الحكومة المركزية، وستكون مكانتهم السياسية أكثر أهمية بقليل من مكانة قادة المجالس البلدية التقليديين. وبذلك، وسعت حكومة ديفيد كاميرون بشكل كبير، فكرة حزب العمال الجديد المتعلقة بانتخاب محافظين انتخاباً مباشراً (طُبقت للمرة الأولى في لندن حيث أُعيد كين ليفنغستون إلى الواجهة بوصفه أول محافظ للعاصمة). وأعادوا أيضاً تطبيق فكرة الحكومة الإقليمية التي جعلتها حكومة إدوارد هيث إجراءً مؤسساتياً من خلال إعادة تنظيم الحكومة المحلية في 1974، مع إنشاء سلطات محلية ضخمة في "ستراثكلايد"، غرب "يوركاشاير" وجنوبها، و"ميرسي سايد"، ومناطق أخرى يعيش في كل منها ملايين البشر.

في المقابل، أضحت تلك الميزة البالغة الضخامة غير مرغوبة في أوساط حزب المحافظين، حين باتت المجالس البلدية الكبيرة، كـ"مجلس بلدية لندن الكبرى" Greater London Council الذي أُنشئ قبل غيره بوقت طويل، أشبه بمرادفات للهدر ولـ"مهابيل اليسار" من هواة الاستعراض الذين قادوها. وفي الغالب،  تحدت تلك المجالس حكومة ثاتشر، من خلال تقديم دعم مالي كبير إلى وسائل النقل العام، ورعاية برامج مساعدة الأقليات العرقية والجنسية، ورفض (تعليمات الحكومة الرمكزية) رفع الضرائب عليها. ومع حلول 1989، حلت ثاتشر كثيراً من تلك المجالس، التي ذهبت وذوت معها مراكز قوة سياسية مهمة تابعة لحزب العمال.

ومع حلول العقد الثاني من الألفية الجديدة، وقفت نزعة الرحمة لدى المحافظين المتمثلة بكاميرون وأوزبورن وراء محاولة حققت بعض النجاح في قلب النهج المحافظ المتصلب رأساً على عقب. وكذلك أدت انقسامات حزب العمال، والإهمال ومشاعر الرضا عن النفس، إلى مساعدة المحافظين على البدء في إجراء عملية تجديد حزبهم. في المقابل، تسبب بريكست و حزب "يوكيب" أو "استقلال المملكة المتحدة" Ukip في خرق عادات التصويت القبلية التقليدية. وكذلك شكلت الفرصة التي ساعد بوريس جونسون نفسه على خلقها ومن ثم استغلالها، واضعاً فوق مخططات أوزبورن طبقة جديدة تمثلت بالتعهد الغامض بـ"رفع المستوى" levelling up.

وفيما أرادت ثاتشر أن تترك لقوى السوق أن تعيد بناء اقتصاد الشمال، وقد شكل تصوراً متماسكاً من الناحية المنطقية في الأقل، فإن أجندة جونسون أكثر تفككاً، وتعتمد كما يبدو على كثير من الإنفاق العام والاستثمار في مشاريع كبيرة. ولم يكن من قبيل الصدفة أن دومينيك كامينغز، كبير مستشاري جونسون، هو من أبناء مقاطعة "دورهام" في شمال شرقي إنجلترا (رغم أنه بعيد كل البعد عن الطبقة العاملة). وأيقظت النخبة المدينية النائية المفترضة لجيريمي كوربين، الهواجس المتعلقة بـ"شمال لندن" لدى كثيرين، فلم تساعد حزب العمال على التواصل بفعالية مع ناخبيه الأكبر سناً، وكذلك فعل الارتباك بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.  

وتكمن السخرية في أن الاستراتيجية الخاصة بالشمال نفسها، وإنشاء كاميرون وأوزبورن قادة مجموعات المجالس البلدية المنتخبين بشكل مباشر، باتت هي ما يؤرق حكومة المحافظين الحالية، وتسبب لها كثيراً من الصداع. ولقد مثل كاميرون وأوزبورن، إلى حد ما، الآباء السياسيين لبورنهام (محافظ مانشستر)، ملك الشمال المتوج حديثاً (إشارة إلى شعبيته وتمرده على إجراءات حكومية)، وكل ما شهدته الأسابيع الماضية الحافلة. وكذلك تملك الحكومة الآن أيضاً مصدر إزعاج محتمل يتمثل في "مجموعة الأبحاث الشمالية" Northern Research Group المؤلفة من النواب المحافظين لدوائر انتخابية شمالية، سيضطر الوزراء إلى مواجهتها كجماعة ضغط قوية، لا سيما أنها تمثل تجمعاً برلمانياً كبيراً بما فيه الكفاية، لإلحاق هزائم بالحكومة في مجلس العموم.

وعلى الرغم من أن جايك بيري، قائد هذه المجموعة، وزير سابق انتخب نائباً قبل بضع سنوات، فإن عديداً من أعضائها حديثو العهد في عالم السياسة، ولم يُدربوا بعد تدريباً كاملاً على كيفية تجنب الخروج عن نغمة حزب هيمنت عليه منذ وقت طويل المقاطعات والضواحي الجنوبية، إضافة إلى نخبة حضرية محافظة تضع مقراتها في "إيزلنغتون" و"نوتينغ هيل" وعدد من الأحياء الموسرة الأخرى في العاصمة.

ويشار إلى أن غراهام برادي، رئيس لجنة "1922" المؤثرة من النواب العاديين، يتصادف أنه ممثل دائرة "تفاورد" الانتخابية في الشمال، الأمر الذي يعني أنه سيضم صوته ونفوذه إلى أصوات مجموعة الشمال المحرجة.

قد يكون جونسون وكامينغز وبقية الشلة في "10 داونينغ" (مقر الحكومة) مستمرين في التزامهم بشأن إعادة إحياء اقتصاد الشمال، وأجندة "رفع المستوى" وطموحات الطبقات العاملة في الشمال. إنهم أقل ميلاً لاستساغة محافظي المُدن الشمالية الكبرى كبورنهام، ممن يدأبون على الدعوة إلى مزيد من تفويض السلطات من الحكومة المركزية إلى السلطات المحلية (خصوصاً في قضية مواجهة انتشار كورونا والفشل الحكومي المستمر في هذا المجال)، مع إعطاء الأخيرة مزيداً من المال والقوة.

وفي كل حال، لم يكن سوى ذلك المغمور آنذاك، دومينيك كامينغز، مَنْ قاد حملة "لا" الناجحة أثناء الاستفتاء العام في 2004 على إنشاء مجلس نواب محلي منتخب في إنجلترا (وقد ثبت لاحقاً أنها تجربة مفيدة، عندما حل أوان الإستفتاء العام على الخروج من الاتحاد الأوروبي). وبذا، قتل كامينغز خطط جون بريسكوت (نائب رئيس الحكومة بين 1997 و2010 إبان عهدي بلير وبراون) لإنشاء حكومات فيدرالية مناطقية في إنجلترا.

وكخلاصة، تود العصابة الموجودة حاضراً في "10 داونينغ"، أن ترفع مستوى أصدقائها في الشمال اقتصادياً واجتماعياً، وفي المقابل، ووفق ما اكتشفه بورنهام، تبدو (العصابة نفسها) مصممة بصرامة على محاولة الهبوط بمستوى الشمال، وكذلك الأمر مع الحكومات المحلية المُفوضة في أسكتلندا وويلز، باستخدام كل أشكال قوى الجذب المركزية في السلطة، تلك التي تمتلكها سلطات "وايت هول" (وهو حي الوزارات قرب مقر الحكومة) و"ويستمنستر" (ضاحية غرب لندن وسط العاصمة حيث مقر الحكومة والوزارات).  

© The Independent

المزيد من تحلیل