جاءت الثورة الصناعية الرابعة كنتيجة تراكمية حتمية لما أنتجته الثورات السابقة لها، بخاصة الثورة الثالثة في أواخر الستينيات، التي دمجت في عملية مبتكرة مجموعة تقنيات مادية ورقمية وغيرها، مع تقنيات وطرق جديدة وأساليب إبداعية للوصول إلى أفضل صيغة ممكنة من التطور الحالي، وربط التكنولوجيا في كل مناحي حياتنا المعاصرة، بحيث أصبحت المنظومة الافتراضية السيبرانية جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية.
وفي الوقت الذي نعيش فيه اليوم تجليات الثورتين الثالثة والرابعة، بدأ التحضير للثورة الصناعية الخامسة، ثورة ما بعد الذكاء الصناعي، والأكيد أن فيروس كورونا سرّع وتيرة ظهور بعض ملامحها. والسؤال أين المجتمع العربي من كل هذا؟ وما التحديات التي واجهها ومازال يواجهها التحول الرقمي؟
الحقيقة أننا في العالم العربي مازلنا بعيدين تماماً عن أبسط التطبيقات الرقمية ضمن هذه المنظومة الضخمة، وما نتفاخر به من استخدام بعض البرمجيات والتطبيقات ليس إلا طرف خيط في عالم رقمي هائل الابتكارات، وإذا ما تجاهلنا أهمية تطبيق الرقمنة بشكلها الأمثل في القطاعات الحياتية المختلفة، إلا أننا لا يمكن بعد اليوم أن نغض بصرنا عن ضرورة تطبيقها في القطاع التعليمي، بخاصة بعدما خلفه استحداث عالم كورونا من ارتباطات تقنية وما يحاول فرضه اليوم كضرورة طارئة.
وهذا يتطلب إعادة تشكيل الطريقة التي نعيش ونعمل ونفكر ونتفاعل ونتواصل بها بشكل سريع، وتغيير عقلية العمل القديمة للاستفادة من التقنيات الحديثة وتطبيق الخدمات الجديدة وتبسيط إجراءات الحصول عليها بسرعة ومرونة وبساطة.
بدأت في الثورة الثالثة الإلكترونية عملية رقمنة بسيطة بتحويل الصيغ المادية للمعلومات إلى صيغ رقمية شملت نواحي الخدمات المتنوعة وفي الإنتاج والتصنيع، كما غطت جوانب عدة، عملية وتقنية، وأدت إلى تغييرات جذرية في نماذج الأعمال والتطبيقات في الصحة والاقتصاد والعلوم والأمن والتجارة والاستثمار والسياحة والنقل والمواصلات والصناعة والتعليم، وانبثقت ضرورة تطبيق هذا التحول في القطاعات المختلفة كاستراتيجية ونموذج عمل جديد بديل للنموذج التقليدي السابق، حيث يوفر الوقت والجهد والتكاليف ويزيد الكفاءة والإنتاجية.
تقنيات التحول الرقمي
من أهم تقنيات التحول الرقمي الذكاء الاصطناعي AI وتقنيات الواقع الافتراضي والمعزز، وإنترنت الأشياء IOT والبلوك تشين Blockchain والحوسبة السحابية Cloud Computing والأمن السيبرانيCyber Security والبيانات الضخمة Big Data والطباعة الثلاثية الأبعاد 3D printing، وتعمل هذه التكنولوجيا على خلق قيمة تنافسية أعلى وتقديم أفضل تجربة للمستخدم وزيادة ولاء العملاء واستكشاف أسواق جديدة، مع توفير الجهد والطاقة وزيادة الكفاءة والعوائد. وتُعد تقنية الواقع المعزز AR من أهم التقنيات المستخدمة في التعليم، حيث باستطاعتها خلق بيئة تعليم افتراضية تمكّن المتعلم من التفاعل بشكل مباشر مع تكاليف معدومة تقريباً وسهولة في الاستخدام، فهي لا تحتاج أكثر من هاتفك الذكي وواحداً من التطبيقات المخصصة لها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التعليم الإلكتروني
يُعرّف التعليم الإلكتروني على أنه طريقة تعليمية حديثة تُستخدم فيها أدوات الاتصال الحديث من حواسب آلية وشبكات الوسائط المتعددة ورسومات وآليات بحث ومكتبات إلكترونية، سواء قبل أو أثناء أو بعد الحصة الدراسية، ويتضمن نمطين، هما نمط التفاعل المتزامن أثناء عرض المادة، ونمط التفاعل غير المتزامن خارج وقت عرض المادة التعليمية.
وتبرز أهمية التطبيق الرقمي في مجال التعليم نسبة لنوع المعلومات التي يُراد منها الفهم والاستيعاب الدقيق مع ضرورة ابتكار أساليب تقديم وعرض مختلفة تسهم في خلق تفاعل إيجابي في صفوف الطلاب، وتُستخدم فيه الحلول التقنية لمعالجة المشكلات المتجذرة في المنظومة التعليمية ودمجها في كل مكوناتها، وكذلك تدريب المعلمين على تدريس المناهج التعليمية الرقمية المصممة بطريقة مبتكرة والوصول إلى بيئة تعليمية رقمية متكاملة، تحقق غايتَي الفائدة والترفيه في الوقت ذاته، وتضمن التواصل الفعّال بين الطلاب والمعلمين وأولياء الأمور.
تبدو متطلبات التحوّل الرقمي ثابتة في مختلف القطاعات مع بعض الاختلافات النوعية، فصياغة استراتيجية رقمية تحتاج استثمار خبرات علمية لتطوير كوادر بشرية وتأهيل فرق مهنية تدير البيئات التقنية والبنية التحتية الخاصة بها بشكل جيد، ومن ثم صياغة خطة خاصة تبعاً لكل نموذج، وتوفير منصات تعليمية ومنظومة من الأجهزة وأنظمة التشغيل، و وسائط التخزين والبرمجيات.
هي ثقافة كاملة ربما لن تبدو سهلة في البداية، بخاصة إذا استثمر فيها الجيل القديم من المعلمين، الذي ربما تُعيقه المقاومة الثقافية للتغيير، فهي تحتاج من مستخدميها الإلمام بعديد من المهارات والتقنيات للوصول إلى الأهداف المرجوة وتحقيق نتائج فعالة من هذه العملية، وعند الافتقار للخبرات المناسبة سيبدو الأمر أصعب بكثير. ولكن التحديات الأساسية تكمن في آلية وضع الإستراتيجية ذاتها وفي خصوصية البيانات وحمايتها وكل ما يخص الأمن السيبراني.
بيئات التعلم الرقمية
هي بيئات اتصال متكاملة تُصمَم بواسطة الأجهزة الرقمية وتوظَف فيها تكنولوجيا المعلومات لإدارة المحتوى والأنشطة داخلها، وتشتمل المكونات الرئيسة للبيئات الرقمية بشكل عام، على مواقع الويب، والخوادم السحابية، ومحركات البحث ومنافذ الوسائط الاجتماعية، وتطبيقات الأجهزة المحمولة، والصوت، والفيديو، والموارد الأخرى المستنِدة إلى الويب، حيث تتيح عرض المواد رقمياً بشكل تفاعلي عبر الإنترنت، بغرض تقديم المقررات الإلكترونية التفاعلية وإدارتها وتقييم أداء الطلاب، حيث تسمح لهم بالتفاعل في ما بينهم ومع المعلمين، وتشتمل على مهمات وتكليفات، وتوفر مجموعة من الأدوات ضمن لوحة تحكم تساعد في دعم العملية التعليمية لكل من المعلم والمتعلم، مما يسهّل العملية التعليمية بكاملها ويجعلها أكثر مرونة من طريقة تقديم وشرح وضمان وصول المعلومات وتنمية التحصيل المعرفي بالشكل الأمثل.
وتتنوع بيئات التعلم، فهناك بيئة تعلم شخصية مخصصة للاستخدام الاجتماعي الحر كمواقع التواصل الاجتماعي والصور والفيديو والمدونات وغيرها، وبيئة تعلم افتراضية تضم أدوات وتقنيات وبرمجيات تمكن المعلم من نشر الدروس ومتابعة العملية التعليمية بالكامل كالمؤتمرات، وبيئة تعلم متنقلة تعتمد على الهواتف الذكية والحواسيب اللوحية، وبيئة تعلم سحابية تعتمد على الحوسبة السحابية عبر الإنترنت وتتيح المواد التعليمية للطلاب في أي وقت ومكان أو تحميلها، وبيئة تعلم مدمجة وهي بيئة تدمج فيها الأدوات الرقمية والتقليدية.
هل العالم العربي مؤهل للعالم الرقمي؟
برأي ميلاد السبعلي، مؤسس الجامعة الافتراضية السورية وأحد أوائل الداعين إلى التحول الرقمي في العالم العربي منذ عام 1998، فإن "الطالب والأستاذ العربي لم يكونا مُهيأين للدخول في هذا المجال، وكذلك الجامعات والمدارس والمؤسسات التعليمية والبنى التحتية، لم تكن جاهزة لأن الانتقال إلى التعلم الإلكتروني، أو التعلم عن بُعد، إذ أن ذلك عبارة عن تحول جذري في عملية التعليم والتدريس والتواصل، لا يحصل بين ليلة وضحاها". وأضاف "منذ 20 سنة ونحن نطالب بإدخال منظوماتنا التربوية في مجال التعلم الإلكتروني وإدخال التكنولوجيا إلى مجال التعليم تدريجياً للتهيئة لهذا التغيير الثقافي بشكل عام، والتغيير في طريقة التفكير والتعلم والتدريس، ونظرة كل من المعلم والطالب إلى نفسيهما بشكل طبيعي، بالتالي نضمن توفر سهولة الانتقال عند الحاجة، على عكس ما وقع عند قدوم الجائحة الحالية، التي جاءت على شكل نقلة جذرية مختلفة تماماً ومفاجِئة لكل من الطالب والمدرس والأهالي".
تحول في المفاهيم
واعتبر السبعلي أنه "من الضروري أن يَحدث التحول الإستراتيجي بمفهوم التربية والتعليم في الجانب الثقافي الفكري على مستوى العقلية أولاً، والإدارة وبناء الجيل الجديد ومفاهيم التنمية وثقة الشعب بنفسه، لتكون في صلب أي تحول أو تغيير. فمن المؤكد أن موضوع البنية التحتية سيصبح أسهل بكثير بعد التركيز على طريقة تفكير الطالب وتدريبه على عقلية النمو والتطور بالبحث الدائم والتعلم المستمر، وكذلك تطوير منظومة التقييم بعيداً عن التلقين والتكرار والحفظ، وتحويله إلى تقييم فردي كشخص يحمل بعداً فكرياً وإبداعياً واجتماعياً ونفسياً ومهارات تطبيقية وغيرها، ونعمل على تنمية وتطوير نقاط قوته وتوجيهه باتجاهات معينة، بإحداث تحول نوعي في العملية التعليمية يتضمن ذلك إدخال التكنولوجيا، وهذا لا يعني أننا بتحويل جامعاتنا ومدارسنا إلى جامعات افتراضية سيحصل هذا التغيير، فالهدف ليس استبدال المعلم والصف المدرسة بالتكنولوجيا. فالجانب التكنولوجي والتعامل مع التكنولوجيا ليس هدفاً بحد ذاته، بل وسيلة لإحداث تحول نوعي في وظيفة المنظومة التربوية في عملية التنمية الشاملة وانتقال بلداننا إلى العصر الجديد عصر الاقتصاد المعرفي، نحن بحاجة لرؤية استراتيجية جديدة للمنظومة التربوية، للانتقال إلى منظومات قادرة على التجدد والتطور ومواكبة العصر، وهي عملية تطبيقية يجب أن تكون جزءاً من إستراتيجية الحكومات نفسها، لبناء رأس المال البشري، الذي يمثل أساساً في بناء اقتصاد المعرفة، ولا يجب أن توضع على عاتق المدرسة أو المعلم فقط".
بين الرقمي والتقليدي
ربما ترفع هذه المعلومات رصيد التعليم الرقمي وتظهره كبديل مثالي لا مجال للمقارنة بينه وبين سابقه، لكن الحقيقة أن متابعين كثر في هذا الموضوع يجدون أنه ما زالت هناك مميزات خاصة لبيئات التعلّم التقليدية، لم تستطع الرقمية تحقيقها بخاصة في ما يخص الجانب الاجتماعي، فالعملية التعليمية بكاملها تتم عن بُعد، بدءاً من التسجيل والإدارة والمتابعة واستصدار الشهادات، ما يقف عائقاً في وجه التواصل الملموس والاكتساب الاجتماعي والحصول على المساندة والدعم من المعلم مباشرة، وكذلك يضعف الدافعية التي تنشأ عادةً من الاتصال والتنافس مع الآخرين، إضافة إلى أنه يركز على الاهتمام بالجانب المعرفي أكثر من المهاري.