Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المستشرق أندريه ميكيل يكتب قصائده نفسها بالفرنسية والعربية

"أشعار متجاوبة" ديوان الشغف المتبادل بين لغة الأنا والذات

المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل (منشورات الجمل)

المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل من رعيل العلماء الغربيين الكبار الذين تبحّروا من اللغة العربية، وكرّسوا حياتهم وأبحاثهم للكشف عن كنوز تراثها الأدبي، شعراً ونثراً. ولد العام 1929، في بلدة ميز الفرنسية الجنوبية. التحق بكلية التربية العليا عام 1950، وفيها تخرّج أستاذاً مجازاً في تعليم القواعد، ثمّ دكتوراً في الآداب عام 1967. واتّجه منذ بداياته الى دراسة اللغات الشرقية، ولا سيما العربية، وتخصص بدراسة الآداب العربية القديمة والحديثة، حتى الموسوعية التي أتاحت له الإشراف على أطروحات المئات من الدارسين العرب والغربيين، ممن ارتادوا جامعة إيكس أون بروفانس، والكوليج دوفرانس اللتين مُنح فيهما كرسيّ اللغة العربية وآدابها، طوال أكثر من ثلاثين سنة (1964-1996).

الكتاب الصادر حديثاً للمستشرق أندريه ميكيل، عن دار منشورات الجمل (2020)، الذي أعده وقدم له الشاعر العراقي كاظم جهاد، بعنوان "أشعار متجاوبة" عبارة عن أربع مجموعات شعرية - أتحدث عنها لاحقاً - صاغها مؤلفها ميكيل باللغة العربية أولاً، ثم أتبع كلّ قصيدة بترجمتها إلى الفرنسية.

لكن، قبل التفصيل في الكلام على ظاهرة الكتاب وما فيه، لا بدّ لي من استكمال التعريف بالمؤلف ميكيل، وبأهمّ آثاره وأعماله الكثيرة التي تعبّر عن شغفه بالتراث العربي تاريخاً وشعراً وسرداً وترجمة وأبحاثاً. إذاً، إنّ أول ما يتبادر إلى ذهن العارف بالمؤلف عنوانان أو ثلاثة من ترجماته إلى الفرنسية، عن العربية، وأهمّها كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي ساهم جمال الدين بن شيخ في نقله إلى الفرنسية، (2005)، وكتاب "كليلة ودمنة" (1957)، و"مجنون ليلى"، يضاف إليها العشرات من الأبحاث والدراسات والروايات والدواوين الشعرية، من مثل: "الأدب العربي" (1981)، "ليلى يا عقلي" (1984)، "الجغرافية البشرية في العالم الإسلامي حتى أواسط القرن الحادي عشر"، "اللغة والآداب العربية التقليدية" (1977)، "العرب، الإسلام وأوروبا" (1991)، "في العروبة والإسلام" (1992)، "العرب: من الرسالة إلى التاريخ" (1995)، "من الخليج إلى المحيطات"، "الإسلام" (1994)، "حكايتا عشق؛ من المجنون إلى تريستان" (1996)، "الرجل العجوز والريح" (2007)، "الابن الراحل قبل أوانه" (1971)، "الابن اللامتحقق" (1989) "وجبة المساء" (1964)، وأعمال أخرى بالفرنسية طبعاً، بلغت السبعين مؤلفاً أو أكثر.

عشق العربية

 

بالعودة إلى العمل الشعري الأخير للمؤلف أندريه ميكيل، عنيتُ "أشعار متجاوبة"، والذي شاءه مصوغاً في لغتين متقابلتين، لغة شغفه الأول، أي العربية، سوف يجد فيه الباحث أو القارئ أثراً من ذلك العشق للغة العربية، وللشعر العربي الذي انشغل به باكراً. وبلغ ذلك العشق حدّ "الانخطاف الدائم"، على حدّ وصف  الشاعر والناقد كاظم جهاد، معد الكتاب وواضع المقدمة المرجعية، بذلك الشعر، ما حفزه على إنجاز "وثبته نحو الآخر"، المتمثلة في استلاف لغة الآخر (العربية) وتبنّي ما فيها من جمال وغنائية ضافية، وإيقاع صادح، وتذويبها في نسيج لغته الشعرية العربية، تتويجاً لمسار الشغف الذي أشرنا إليه. أما ترجمة النصوص الشعرية العربية إلى اللغة الفرنسية، "المتجاوبة" فأحسب أنها نوع من الإقرار بحيازة كيان المؤلف ذاتيْن معبّرتيْن عن تجارب الشغف والعشق والبعاد والحزن والموت والوحشة وفقد الابن، واستذكار الأحبّة، والأرض الأولى. كلّ ذلك بتأنّق أسلوبي، جدير بشاعر متمرس، وبذائقة عالية، تجعله قيماً على حوار "اللسانين"، بحسب كاظم جهاد، وناسجاً مكانته بين شعرائهما، بعد العلماء.

في مجموعته الأولى، من كتابه الثنائي اللغة (العربية - الفرنسية)، بعنوان "في زئبق الليالي"، والتي كتبت قصائدها بالعربية أولاً، ثم أُلحقت بترجمة من مؤلفها، يستهل الشاعر أندريه ميكيل شعره بالكلام على التكوين، بدء الخليقة الشعرية:

"بينا كان العصفور ماشياً على المياه المتجلّدة

صرخت شجرة في صمت الأرض كلها

منادية على الذكريات والظلال

 فطلع من أعماق الجزائر المفقودة

البدر الأخير المؤذن بنهاية النوايا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الطبيعة المنتقاة

وهكذا إلى أن تعادل الترجمة الفرنسية كل الأبيات، بل كل المعاني الواردة في النص العربي. ولا يزال حتى تلحق بها قصائد، متفاوتة في الطول؛ بين خمسة أو ثلاثة أسطر شعرية ("يُطبق الليل يا بنتي...") وبين أربعة وعشرين سطراً ("حلُمي قبلة تستهزئ بالشعراء/ قبلة المطر على عين العجوز الجذماء/ وقبلة الشهاب لخشْبة السماء...")، يعبر فيها الشاعر عن مصالحته الكون وما وراءه، والطبيعة المنتقاة من عالم مقدس أو موشح بقدر من السمو الديني، من مثل "البُراق، والإله المولود، والسماء، ومهد موسى، وسكوت المصلّى" وغيرها، تختلط عندها مع كائنات الشاعر الرومنطيقي ذي النزعة الإحيائية، كما هي الحال مع تيوفيل غوتييه، على سبيل المثال.

ومن القصائد، في هذه المجموعة، ما نظمه الشاعر ميكيل، على بحر وزن الرمل، في بعض من أبيات قصيدة "أنتِ"، يقول فيها:

 "إن في قُطْبِ حياتي شجرهْ

لم أشاهد من هباء ظلماتي مثله 

هي فجر بين أحلام الثرى

نشوة الكوكب مذ رنّتْ قِسيُّ الأنبياءْ

فهي أنت حين يُفلَقُ الضّحى

وتناجينَ الزهور تحت رغوة السّماءْ..." 

ومن الواضح، ههنا أنّه لا يضير الشاعر عدم التزامه التام ببحر وزن الرمل، شأنه بكل الأوزان التي يختار منها تفعيلة واحدة أو اثنتين على الأكثر، ما دامت أغلب قصائده مشغولة على نظام قصيدة النثر وعلى نظام الشعر الحرّ، بمنظور الشاعر (وعلى هذا النحو، يتوالى شعر الشاعر، بين منظوم ومقفّى: ("تسألينني عن رزانة العيونِ/ تعجبينَ من سكوتي غير أنّي/ منحنٍ على مقلتيْنِ..."). قصائد نثر، وكلمات موحية، وحقول معجمية محدودة، ومستلة من خليط عالم رومنطيقي مسيحي وتوراتي النبرة، قريب من مناخ تيوفيل غوتييه، وعالم صوفي وجودي على طراز الخيّام، وعالم قريب من السوريالي وليس كذلك، يزاد عليها جميعاً حرص الشاعر على تحسس الجرْس والنغم اللذين لطالما استحسنهما الشاعر ميكيل في التراث الشعري والنثري التقليديين اللذين كانا رفيقيه في مسيرته البحثية الطويلة.

إذاً، يستكمل الشاعر وجدانيته الغنائية، في مجموعاته الشعرية المتتالية (الطفل والوعد، هو، وداع، إلى أين؟ وإليكم)، في قصائده ومقطوعاته المئتين، عارضاً حيناً بوحه وحنينه الى المحبوبة بنبرة المجنون أو تأنّق تريستان، وحيناً آخر مولهاً بنار الغياب الحارقة نظير هوغو أو بدر شاكر السيّاب، وهو يشيّع ابنه الراحل باكراً، يقول:

"ذهبتَ... يموت كل موج ومَرْمرٍ

فيصرخ تَمٌّ تحت فَجْأة خَنْجَرِ

وجُهد أخيرٍ في جَنَاح مسمّرِ...

وكيف بلا حبّ نُسافر في البَحْرِ؟

ذهبتَ فأُصْعِقَتْ حمائم المنائرِ.

وكيف بلا حبّ نسافر في البحرِ؟".

بالطبع، لن يتسنى لهذه العجالة أن تحيط بكل مظاهر الكتاب الشعري الثمين، للعلامة ميكيل، بحسبها الإشارة إلى مفاصل فيه جديرة بالنظر المعمق تالياً؛ من مثل حرص الشاعر على ميزة الإيجاز الموحي في النص العربي، في مقابل التفصيل والشرح في النص الفرنسي. أو النظر في تفنن الشاعر بأنواع الشعر التي يسكب فيها تجربته الإنسانية والشعورية البالغة الثراء، من مثل قصائد النثر، والمقطعات، والهايكو، والشعر الحر، وغيرها، والنظر في لغة الحنين الصارخ إلى النقاء المطلق، إلى الجمال، وإلى الرأفة، وهما من القيَم المسيحية الماثلة في خطاب ميكيل الشعري.

"عندما تصبح كلّ المنابع نقيّةً

والأشجارُ رؤوفةً

سأنصت إلى رُحى السماءِ

تجرشُ ببطء بطيء

 ما يتبقى منّي

سوى استغاثتي بكِ".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة