Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إعادة تدوير مسرحي للإنسان الفاقد الصلاحية في "ريسايكل"

المخرج المصري محمد الصغير يختبر تجربة الارتجال مع ممثلي فرقة "الطليعة"

من مسرحية "ريسايكل" المصرية (الخدمة الإعلامية للفرقة)

عند مشاهدة العرض المسرحي "ريسايكل" الذي تقدمه مجموعة من الشباب على مسرح الطليعة في القاهرة، قد يمتعض المشاهدون المتمرسون المنتمون إلى أجيال سابقة، ويتساءلون: أين الدراما، أين المسرح؟

من هنا فإن عملية تلقي مثل هذه النوعية من العروض التي تخرج عن المألوف وتتجرأ على التقاليد المسرحية الراسخة، بل وتسخر منها أحياناً، تتطلب قدراً من المرونة، وقدراً من الفهم لطبيعة الزاوية التي ينظر من خلالها هؤلاء الشباب إلى العالم، والتي تدفعهم إليها، أو تعكسها، ظروفهم المعيشية، والإحباطات المتتالية التي تحاصرهم من كل جانب، الأمر الذي يجعلهم أكثر ميلاً إلى السخرية من كل شيء، وأكثر تشظياً وعدمية، وإن ظلت الرغبة قائمة، حتى في لاوعيهم، في إعادة تنظيم العالم وفق تصوراتهم هم، بل وإعادة تدوير الإنسان الذي انتهت صلاحيته، واستعادته في شكل جديد قادر على مواجهة قبح العالم وعبثيته.

العرض هو نتاج ورشة ارتجال قادها المخرج محمد الصغير الذي تمرس على الإخراج في المسرح الجامعي، ثم انتقل إلى العمل في مسرح الدولة، وقدم أعمالاً لافتة مثل "شيز لونغ"، و"روميو وجولييت"، و"الليلة مكبث"، و"ياهاملت"، و"السيرة الهلامية"، وغيرها، وعرفت عنه جرأته على النصوص العالمية وتفكيكها وإعادة تركيبها من جديد، ولكن من دون أن يخرب في النص أو ينحرف عن رؤيته الأساسية.

قوام مرن

 

 

لا دراما بالمعنى التقليدي في العرض، نحن أمام مجموعة من الاسكتشات التي تتناول موضوعات اجتماعية وسياسية عدة، أو قضايا تخص الشباب أكثر، مثل: الزواج، فرص العمل، العلاقة بالآباء والأمهات، قهر الأنثى، المحسوبية، غياب العدالة... وهي في أغلبها اسكتشات تعتمد الكوميديا، سواء كوميديا الموقف أو الكوميديا اللفظية، كطبيعة أغلب العروض الشبابية، وربما تنبع الدراما - بشكلها غير التقليدي - من وحدة الهموم التي يطرحها العرض، لكن المشكلة هنا أن هذا القوام المرن قد يؤدي إلى الاستغراق في طرح المزيد من الأفكار والقضايا، مما يصيب العمل بالترهل، ويجعل المشاهد في حيرة، طارحاً سؤاله: متى ينتهي العرض؟ حتى لو كان مستمتعاً بأداء الممثلين وحيويتهم.

هذا ما حدث بالفعل، فقد استغرق العرض نحو ساعتين، وكان يمكن اختزاله في ساعة واحدة أو أكثر قليلاً، هناك مشاهد يمكن الاستغناء عنها كلية من دون أن تتأثر رسالة العرض. لكن يبدو أن المخرج كان راغباً في قول الكثير، أو راغباً في إتاحة مساحات أكبر لممثليه، الأمر الذي أحدث إشباعاً غير مطلوب، فأنت لن تستطيع مناقشة مشاكل العالم في عرض واحد، لكن مخرج العمل عادة ما يدخل تعديلات على عروضه سواء بالحذف أو الإضافة، ولعله يفعلها، خاصة أنها كانت الليلة الأولى للعرض.

تطبيق عملي

اللافت في هذا العرض أنه يعتبر تطبيقاً عملياً - وإن لم يكن بشكل مطلق - على ما أكده منظرو المسرح حول فكرة التدريب على الارتجال، وكان آخرهم الباحثة إنجي البستاوي في رسالتها للدكتوراه التي أشارت فيها إلى أن "التدريب على الارتجال يعد العامل الأساسي الذي يفيد في خلق حالة توازن بين زيادة وضعف الوعي الذاتي للممثل، فالارتجال يساعد على تلقائية الأداء، ولكن بشرط أن يكون ارتجالاً موجهاً تحت إشراف المدرب، حتى لا يتحول إلى مجال آخر لاستعراض الذات أو للانغلاق عليها، بحيث لا بد من عدم الإفراط في إدراك الممثل لذاته. فزيادة الوعي الذاتي للممثل تعتبر من أكثر معوقات التمثيل، وهناك عدة عوامل رئيسة لا بد من توافرها في المتدربين من أجل إقامة ارتجال ناجح، وهي على سبيل المثال لا الحصر: الحرية، الشعور بالأمان، الثقة بالنفس وبالآخرين وخاصة المدرب، الاستعداد التام، التفاعل مع الآخر.

بالفعل كان هناك ما يمكن اعتباره توازناً من جانب الممثل في إداركه لذاته، وكذلك استفادته من فعل المراقبة المباشرة لسلوكيات الناس في حياتهم اليومية، وسرعة الاستجابة للمؤثرات الخارجية والداخلية، وسعة المخيلة. وهذا ما اتضح في المشاهد التي تم الاشتباك فيها مع الجمهور الذي صار بعضه صانعاً للعرض المسرحي، وكذلك المشاهد التي تحول فيها الممثل من شخصية إلى أخرى بسلاسة، مستفيداً من خبراته الحياتية وتدريباته التي تنمي لديه القدرة على الإبداع، والاستجابة اللحظية لما يتعرض له من مواقف، وإن لم يخل الأمر من بعض الافتعال في محاولة للإلحاح على الإضحاك، وهو ما يعد إخلالاً نسبياً بمبدأ تلقائية الأداء.

 

 

ديكورات العرض التي صممها المخرج توافقت تماماً مع رؤيته، وأسهمت في توصيل رسالته، لا وجود لكتل ضخمة أو قطع بعينها، ستائر معلقة على جوانب الخشبة تحفل برسومات غريبة وأغلبها غير واضح المعالم، وقطع بشرية ملقاة هنا أو هناك، وكذلك مجموعة من المهملات المتناثرة، من أكياس بلاستيكية وفوارغ مشروبات غازية وغيرها، وكأننا في مخزن للخردة والبقايا غير النافعة، بما يشير إلى التماس مع ذلك الإنسان منتهي الصلاحية الذي نحن بصدده.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إمكانية التدوير

الملابس "صممتها عبير البدراوي" التزمت الخط نفسه الذي يؤكد فكرة انتهاء الصلاحية، وإمكانية إعادة التدوير، فجميعها تم تصنيعه من البقايا والنفايات، وكأن الخارج هو انعكاس للداخل تماماً، وهو ما يعمق فكرة بؤس العالم، وبؤس الإنسان الذي يحيا بداخله، ولم تخل هي الأخرى من الحس الساخر الذي ينظر به العرض إلى العالم، كانت الملابس والديكورات بالفعل جزءاً حياً وفاعلاً في العرض يعبران عن فكرته وموقفه، فضلاً عن مشاهد "المايم" التي أداها الممثلون، وكذلك الاستعراضات (صممها مناضل عنتر) كل تلك الوحدات تضافرت معاً في بناء العرض، ووظفت في مكانها الصحيح لتعكس في النهاية الصورة الكلية للعرض.

اسكتشات العرض ركزت على الإنسان الممزق، الضائع، غير المتسق مع عالمه، الإنسان الذي يبدأ حياته الزوجية بعبارات الغزل، وينهيها بالإساءة إلى شريك حياته والاعتداء عليه تحت وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة، حتى الأم يتم نسيانها في زحمة البحث عن لقمة العيش أو العثور على فرصة عمل، وغيرها من القضايا الاجتماعية، مع إشارات عابرة أو مضمرة تلامس السياسي عن بعد، ففي أحد المشاهد التي ارتدى فيها الممثلون أزياء شبه تاريخية يتم العثور على مقدمة ابن خلدون التي يتعامل معها الحاكم باستخفاف ويأمر حاشيته بأن يبولوا عليها، في دلالة واضحة على استهزاء الحكام بكل ما هو فكري أو ثقافي، وعكست الملابس شبه التاريخية ذكاء المخرج وقدرته على التحايل، وأبعدته عن مقص الرقابة التي ربما لا تتقبل مثل هذا الطرح.

في المشهد الختامي يتم تجميع أشلاء "مانيكان" في إشارة إلى فكرة إمكانية إعادة تدوير الإنسان الفاقد الصلاحية، والإيحاء بأن ما نحياه الآن "ظرف طارئ" يمكن تجاوزه، ويتم إلباس "المانيكان" زياً فرعونياً ليخبرنا العرض أنه كان بصدد الإنسان المصري، وأن فكرة إعادة تدويره قائمة وممكنة. وبغض النظر عن أن فكرة الزي الفرعوني مستهلكة، فإن الإشارة إلى المصري تحديداً تغلق أفق التلقي، فالمشاكل والهموم التي تناولها العرض ليست مقصورة عليه فقط ولكنها تخص غيره أيضاً من بني البشر. وبالتالي فإن الزي الفرعوني هنا كان عبئاً على العرض ولم يضف إليه بقدر ما خصم منه.

"ريسايكل" تعني بالعربية "إعادة التدوير" فهل كان يمكن بلورة عنوان العرض وفقاً لمعناه بالعربية، خاصة أن العرض ألح على محليته، أم كانت هناك ضرورة لاستعمال الاسم الأجنبي؟

المزيد من ثقافة