Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تستطيع بريطانيا تحمل صد المال القذر المسروق؟

بعد ركود اقتصادي سببه كورونا وبريكست، لا خيار سوى مزيد من التغاضي عن هذا التدفق من النقود الأجنبية

كثيراً ما يشار إلى لندن باسم عاصمة غسل الأموال في العالم (أ ف ب)

أتاحت لنا الفضيحة الأخيرة في جهاز مكافحة الجرائم المالية، التي شهدت تسريب تقارير مصرفية سرية، أن ننظر إلى ما وراء كواليس تلك الكميات الكبيرة من الأموال المشبوهة التي تمر عبر جهازنا المالي. وإلى جانب نقل المال لمصلحة المحتالين وتجار المخدرات، تبيّن الملفات المسربة كيف ينقل مسؤولون غامضون في بؤر الفساد، أموالاً بالملايين من بلدانهم عبر بعض أكبر المصارف في العالم. وتُسمِّى هذه البلدان في الأغلب "كليبتوقراطيات" Kleptocracy، بمعنى نظام حكم السرقة، إذ تستغل النخبة الحاكمة سلطتها في تحقيق ثروات هائلة تأتي من الموارد الطبيعية للبلاد.

ولا يكتفي نقل رأس المال المشبوه إلى أوروبا وأميركا من كليبتوقراطيات، بمجرد حرمان الشعوب التي تعيش في هذه البلدان من عوائد تلح الحاجة إليها، بل يمثل أيضاً "خصخصة السلطة نفسها" وفق تعبير توم بورجيس، مؤلف الكتاب الحديث "كليبتوبيا: كيف يغزو المال القذر العالم". وتُبرِز الاحتجاجات الجارية في بيلاروس الرابط الوثيق بين الكليبتوقراطية وغياب الحرية السياسية. فوفق أحد التقديرات، اختلس الرئيس ألكسندر لوكاشينكو والمحيطون به، منذ وصوله إلى السلطة، 10 مليارات دولار من الشعب البيلاروسي.

في المقابل، يُحدِثْ تدفق النقود القذرة أيضاً تأثيراً مضراً في البلدان التي تصل تلك الأموال إليها في نهاية المطاف. إذ تتأثر آراء المشرعين بمجموعات ضغط غامضة، وترسم مقالات مدفوعة الثمن في الصحافة الغربية صوراً وردية عن ديكتاتوريات فاسدة، وتتشوه أسعار البيوت بسبب تدفق رأس المال الأجنبي غير المشروع (وهذه نقطة أثارها عام 2015 مدير مكافحة الجرائم الاقتصادية في "الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة" بالمملكة المتحدة National Crime Agency، في إشارة إلى الارتفاع الهائل في أسعار العقارات في لندن). إذاً، فلا عجب أن يُشَار إلى لندن باعتبارها عاصمة غسل الأموال في العالم، وتعمل كمركز رئيسي لمجموعة كاملة من "حراس البوابات" gatekeepers، أي المصرفيين، ووكلاء العقارات، ومزوّدي الخدمات المؤسسية، ووكلاء العلاقات العامة، وجماعات الضغط، والمحامين، الذين يحتاج الكليبتوقراطيون إليهم كلهم للمساعدة في إخفاء مكاسبهم غير المشروعة.

وفي المقابل، تزعم الحكومة البريطانية أنها ملتزمة بالقضاء على الفساد، لكن في ضوء التوقعات القاتمة لمستقبل الاقتصاد بفضل الضربة المزدوجة لكوفيد وبريكست، علينا أن نسأل إذا كان هذا الالتزام سيظل مأخوذاً به على محمل الجد. وهناك سابقة شعرت فيها المملكة المتحدة بقلق على العوائد أكثر مما فعلت في شأن محاسبة المسؤولين عن التدفقات المالية غير المشروعة. ففي سبتمبر (أيلول) 2012، سعى وزير المالية جورج أوزبورن إلى التأثير في تحقيق أميركي في مزاعم بغسل الأموال في مصرف "أتش أس بي سي" HSBC، عندما أشار ضمناً إلى أن محاكمة المصرف قد تؤدي إلى تجدد الأزمة المالية. وكذلك ذهب تقرير أميركي إلى حد الزعم في 2016 أن "هيئة الخدمات المالية البريطانية" Financial Services Authority عرقلت التحقيق في "أتش أس بي سي".

واستطراداً، سيشير المسؤولون الحكوميون إلى حقيقة أن المملكة المتحدة سنّت في السنوات الأخيرة كثيراً من التشريعات التي تُحسّن الشفافية وتُصعّب على المجرمين والمنكشفين سياسياً إخفاء المكاسب غير القانونية. مثلاً، كانت المملكة المتحدة واحدة من أوائل البلدان في العالم التي وضعت موضع التنفيذ سجل "الملكية المفيدة" beneficial ownership الذي يسجل المالكين الحقيقيين للشركات المسجلة فيها. لكن مع معاناة "بيت الشركات" Companies House ("سجل تسجيل الشركات") ضعفاً في التمويل ميؤوساً منه، لا تتوافر سوى عمليات تدقيق قليلة جداً في المعلومات المقدمة، ولا يُلاحَق أحد بسبب إعطاء معلومات خاطئة (باستثناء مُخبر واحد في قضية شهيرة)، لذا يتضمن السجل مالكين مستفيدين كـ"السيد إكس إكس إكس ستالين" و"إكس إكس إكس رافين". والشهر الماضي، أعلنت الحكومة أنها تجري إصلاحات لـ"بيت الشركات" Companies House كي تُضيّق الخناق على الاحتيال، لكن الجدول الزمني غامض، ولا تُدخَل تغييرات إلا "عندما يسمح وقت البرلمان بذلك".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في الإطار نفسه، تعهدت الحكومة بمنع مالكي العقارات في المملكة المتحدة من الاختباء وراء شركات خارجية مجهولة، مع تقديمها مشروع قانون تسجيل الجهات الخارجية. وثمة حاجة إلى تشريعات كهذه. إذ أظهرت تحقيقات أجرتها منظمات غير حكومية أن الاستثمار في العقارات يشكل أسلوباً مفضلاً لدى المسؤولين الأجانب كي يوصلوا أموالهم إلى المملكة المتحدة. وعندما أعلن ديفيد كاميرون في 2015 عن نية الحكومة تضييق الخناق على الأجانب الفاسدين الذين يستثمرون في العقارات، استشهد بمحفظة عقارية تملكها شخصية من كازاخستان تبلغ قيمتها حوالى 150 مليون جنيه إسترليني (أي حوالى 195 مليون دولار أميركي).

وعلى نحو مماثل، تظهر تحقيقات أخرى من 2018 وجود مبان تشمل مبنى ضخماً من المكاتب والشقق الفاخرة يقع في شارع "بيكر" الشهير في لندن Baker Street، مملوكة لداريغا نزارباييفا ونورعلي علييف، ابنة رئيس كازاخستان آنذاك وحفيده. وتُقدَّر ثروة نزارباييفا التي شغلت في كازاخستان مناصب من قبيل نائبة رئيس الوزراء ورئيسة مجلس الشيوخ، بحوالى 595 مليون دولار. ويزعم محامو نزارباييفا أنها أنشأت أول مشروع لها في 1992 و"كانت واحدة من العديد من الأفراد الرياديين الذين استغلوا الإصلاحات الاقتصادية في كازاخستان في هذا الوقت. إذ اقتُنِيت البضائع آنذاك بموجب أحكام اتفاقية للشحن، بالتالي لم تكن هناك حاجة إلى رأس مال أولي. ولسوء الحظ بالنسبة إلى أولئك الذين يتطلعون إلى دعم هذه المزاعم، "بُذِلت جهود كبيرة في كازاخستان لتحديد الوثائق المتعلقة بهذا العمل، لكن نظراً إلى مرور الوقت لم تعد هذه الوثائق متاحة. ومع ذلك، تقدر [نزارباييفا] أنها حققت عدة ملايين من الدولارات (ربما تصل إلى ما يتراوح بين 40 مليون دولار و45 مليون دولار أميركي) خلال فترة السنوات الثلاث هذه". ولا يرد ذكر، بطبيعة الحال، حقيقة أن والدها كان رئيساً لكازاخستان، إذ فاز في انتخابات 1991 بنسبة 98.8 في المئة من الأصوات.

وجميع أغنى أغنياء كازاخستان هم إما أفراد في عائلة نور سلطان نزارباييف أو حلفاء سياسيون له. ويُحكى أن صهره، تيمور كوليباييف الذي يبلغ صافي ثروته 2.8 مليار دولار أميركي، اشترى قصر الأمير أندرو في مقابل 15 مليون جنيه إسترليني في 2007، على الرغم من أنه كان مقيّماً بـ12 مليون جنيه إسترليني (أي حوالي 16 مليون دولار أميركي). وأُفِيد في وقت لاحق بأن وكيلاً نصح أندرو بأن البيت لم يكن يستحق سوى حوالى ثمانية ملايين جنيه إسترليني في السوق وربما أقل من 6.4 مليون جنيه إسترليني في مزاد علني، أي أقل من نصف ما دفعه كوليباييف لشرائه. وأُبقِي الموقع مهجوراً لثماني سنوات، قبل هدم البيت القديم لأندرو وبناء قصر جديد أكبر حجماً. ولا يمثّل ذلك العقار الوحيد الذي يملكه كوليباييف في المملكة المتحدة. ففي 2007، أجرى سلسلة مشتريات، شملت شراء عقارات في المملكة المتحدة، منها عقار "قصر في ماي فير" الذي بقي فارغاً لـ14 سنة على الأقل.

وفي منحىً متصل، تشكّل الكليبتوقراطية المعيار السائد في آسيا الوسطى، لكن المال يبدو أنه لا يزال يجد طريقة للوصول إلى سواحل المملكة المتحدة. إذ ركزت العناوين الإخبارية الرئيسية المتعلقة بأوزبكستان في السنوات الأخيرة على الإجراءات القانونية ضد غولنارا كريموفا، ابنة أول رئيس لأوزبكستان. ففي مارس (آذار) 2019، أطلقت وزارة العدل الأميركية اتهامات بحق كريموفا في ما يتعلق بمخطط لغسل أموال وتقديم رشاوى بقيمة 866 مليون دولار أميركي.

ووفق الاتهامات، تلقت كريموفا وشركاؤها المال من شركات ترغب في الحصول على رخص في قطاع الاتصالات الأوزبكي. وضُخَّ كثيرٌ مما يُزعَم أن كريموفا حصلت عليه، في عقارات دولية، أشارت تقارير إلى أنها موجودة في فرنسا وسويسرا والمملكة المتحدة. وجمّد "مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الكبرى البريطاني" ثلاثة من أملاك كريموفا في لندن وحولها، ويضم أحدها، وهو قصر بقيمة 18 مليون دولار أميركي في ساري، بحيرة للقوارب وحوضاً داخلياً للسباحة.

 

وفي محاولة لمنع النقود المشكوك فيها من دخول سوق العقارات، وضعت المملكة المتحدة "قانون الثروة غير المبررة"، إذ يُطلَب من الأشخاص المنكشفين سياسياً أو أولئك المشتبه في تورطهم في جرائم خطيرة، شرح مصادر الثروة المستخدمة لشراء العقارات في المملكة المتحدة، تحت طائلة المخاطرة بتجميدها. وبرز تناقض صارخ في قضيتين صدرت فيها طاولهما قانون الثروة غير المبررة بحق أشخاص منكشفين سياسياً. تتعلق الأولى بعقارين يساويان معاً 22 مليون جنيه كانت تملكهما زاميرا هاجييفا، وهي زوجة مصرفي من أذربيجان مسجون حالياً. وأنفقت هاجييفا أكثر من 16 مليون جنيه خلال 10 سنوات في متاجر "هارودز"، بما في ذلك 32 ألفاً في يوم واحد على الشوكولاتة. وكانت القضية ضد هاجييفا واضحة نسبياً لأنها لم تستطع التوصل إلى أدلة كثيرة تشير إلى أن ثروة زوجها مشروعة، ولم تكن لديها مصادر مهمة خاصة بها. وسمحت الوثائق المتعلقة بالقضية للنشطاء برؤية كيفية عمل الأمور في عالم التمويل الباهظ. فحتى عندما أُدِين زوج هاجييفا في أذربيجان بتهمة ارتكاب جرائم مالية في أكتوبر (تشرين الأول) 2016، واصلت شركته لإدارة الثروات مساعدته في إدارة أمواله، وعرضت بيتاً بنته شركته للبيع، وظهر إدراج البيت [للبيع] على موقع إلكتروني بعد 10 أيام من إدانة الرجل.

في المقابل، جاءت النتيجة مختلفة إلى حد ما في القضية الثانية بشأن الثروة غير المبررة، في مايو (أيار) 2019 التي كانت بشأن ثلاثة عقارات لندنية بقيمة 80 مليون دولار. فقد أعربت "الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة" عن اعتقادها بأن العقارات اشتُرِيت بأموال حصل عليها راخات علييف، وهو صهر آخر لنزارباييف، وقد وُجِد ميتاً في سجن بالنمسا عام 2015 خلال انتظاره محاكمته لقتل مصرفيَّين في كازاخستان. وكانت العقارات في الواقع مملوكة للزوجة السابقة لعلييف، داريغا نزارباييفا، وابنهما نور علي علييف. وردت المحكمة العليا قرار القضاء بشأن الثروة غير المبررة بعدما أظهر محامو الأخيرين ما يكفي من الوثائق التي تشير إلى أن الثروة كانت مشروعة ولا علاقة لها بجرائم علييف.

في المقابل، حكم القاضي بأن مشروعية الثروة كرستها تحقيقات وأحكام قضائية وأعمال إنفاذ [للقانون] جرت في كازاخستان. وفي تطوّر متصل بذلك، شكّلت كازاخستان أيضاً البلد نفسه الذي أفادت وزارة الخارجية الأميركية في 2019 بأن "السلطة التنفيذية فيه قيّدت بشكل حاد من استقلال القضاء" وأن "الإفلات من العقاب كان قائماً بالنسبة إلى أولئك الذين يشغلون مناصب في السلطة، وكذلك بالنسبة إلى أولئك المرتبطين بالحكومة أو مسؤولي إنفاذ القانون". بعبارة أخرى، ما من محكمة في كازاخستان ستحكم ضد عائلة الرئيس، وكذلك فما من محكمة في روسيا ستحكم ضد نسيب لبوتين.

وقد عبّر ناشطون في مواجهة الفساد عن خيبة أملهم من الحكم. وذكر بيتر زلماييف من "مبادرة أوراسيا للديمقراطية"، أنه "من المخيب للأمل أن القاضي لم يأخذ في الاعتبار الاحتكار الكامل للثروة في كازاخستان الذي تحتفظ به أسرة نزارباييف ورفاقه، وهو احتكار سمح لداريغا ونور علي بجني هذه الثروة في شكل غير منصف في المقام الأول". ويشكل فشل قانون "الثروة غير المبررة" في هذه الحالة سابقة قاتمة، لأنه يشي بأن ذلك القانون الموجه إلى المسؤولين الأجانب النافذين، لن يكون فاعلاً إلا إذا توقف هؤلاء الأفراد عن التمتع بحماية الجهاز الحكومي الخاص بهم.

ما مصير أعمال إنفاذ القانون في المملكة المتحدة بعد ذلك؟ من الواضح أن المصارف تشكّل خط الدفاع الأول عندما يتعلق الأمر بوقف تدفق الأموال الفاسدة إلى الخارج. وليس من المستغرب أن تظهر كازاخستان في شكل بارز في ملفات جهاز مكافحة الجرائم المالية. فقد زعمت مصارف أنها حولت ما مجموعه 89 مليون دولار أميركي لعائلة فيكتور خرابونوف، رئيس البلدية السابق لأكبر مدينة في كازاخستان، آلماتي، مع استمرار تحويل الأموال حتى بعدما أصدر الإنتربول إشعاراً أحمر لاعتقاله. والأسوأ من ذلك، يُزعَم إنه بين عامي 2008 و2016 حُوِّل مبلغ لا يصدق قدره 666 مليون دولار أميركي إلى حسابات مرتبطة بمختار أبليازوف، وهو مصرفي كازاخستاني متهم بالاحتيال الواسع النطاق. وفي 2009، جمد قاض بريطاني الأصول التي يتملكها أبليازوف، وبين نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 ومارس (آذار) 2013، أصدرت المحاكم البريطانية أحكاماً بتغريمه أكثر من أربعة مليارات دولار أميركي، ومع ذلك استمرت الأموال في التدفق. ويزعم خرابونوف وأبليازوف أن الاتهامات تملك دوافع سياسية بعدما دب الخلاف بين الرجلين وقيادة كازاخستان.

واستطراداً، ستفيد المصارف بأنها فعلت ما يُفترض بها أن تفعله، بمعنى الإبلاغ عن المعاملات (من خلال ما يُسمَّى "تقارير عن أنشطة مشبوهة") إلى جهاز مكافحة الجرائم المالية، الذي يملك القدرة على التحقيق في الأموال وتجميدها. في المقابل، ثمة أدلة متزايدة تشير إلى أن الإشراف يفشل في وقف غالبية عمليات غسل الأموال. وفي المملكة المتحدة، تُرسَل التقارير عن أنشطة مشبوهة إلى "وحدة الاستخبارات المالية" في "الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة". وكذلك تكون القطاعات المنظمة قانونياً كالمصارف ملزمة قانوناً بالإبلاغ عن المعاملات، إذا حدث شك أو معرفة بغسل الأموال.

وعلى الرغم من أن هذا يبدو جيداً من الناحية النظرية، إذ يؤدي إلى الإبلاغ "الدفاعي"، فتحاول المصارف تجنب المسؤولية القانونية من خلال إصدار "تقارير عن أنشطة مشبوهة". وفي 2019، تلقت "الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة" 478 ألف تقرير عن أنشطة مشبوهة، وقد أرسلت المصارف أكثر من 80 في المئة منها. ولا تملك "الوكالة" ببساطة القدرة على التحقيق في مئات آلاف التقارير، ما يعني أن حالات جدية من غسل الأموال يمكن أن تمر من دون إجراءات بشأنها. وبطبيعة الحال، قد ترفض المصارف ببساطة التصريح بالمعاملات، لكن فضيحة "جهاز مكافحة الجرائم المالية" تشير إلى أن المصارف سعيدة بالسماح بتمرير الأموال وكسب رسوم وافرة، في حين تستخدم "التقارير عن أنشطة مشبوهة" لـ"تلقيح" نفسها ضد المسؤولية القانونية. ويسمح نظام كهذا للكليبتوقراطيين بالازدهار، إذ يعومون على واقع أن برامجهم الرمادية تتجنّب التدقيق.

 

وفي هذه الأثناء، تبقى "التقارير عن أنشطة مشبوهة" الصادرة عن قطاعات أخرى منخفضة. ففي المملكة المتحدة أصدر وكلاء عقاريون 635 تقريراً ومزوّدون لخدمات مؤسسية 23 تقريراً. وفي إقرار بأن النظام ليس فاعلاً، تشمل خطة مكافحة الجريمة المالية التي وضعتها الحكومة البريطانية لما بين عامي 2019 و2022، التزاماً بإصلاح نظام "التقارير عن أنشطة مشبوهة" باعتباره من مخرجاتها الرئيسية.

ولا يزال من قبيل الجريمة الجنائية أن يعمل المرء في قطاع منظم قانونياً ولا يرسل "تقارير عن أنشطة مشبوهة" حين يشتبه أو يعلم بوجود غسل أموال. من جهة أخرى، إن الملاحقات القضائية قليلة. فقد جرى الإبلاغ عن ثلاث ملاحقات في القطاعات المنظمة قانونياً كلها، المصارف، ووسطاء الأسهم، وشركات التأمين، والمحاسبين، والمستشارين الضريبيين، ووكلاء العقارات، ومزوّدي الخدمات المؤسسية، والمزادات، والكازينوهات، والممارسين القانونيين، منذ بدء العمل بالقانون في 2002. ويعود جزء من ذلك إلى عدم إنفاذ القانون، لكنه يشير أيضاً إلى مشكلة في القانون نفسه. فمن الصعب إثبات ما يشكل "شبهة" في غسل الأموال، لا سيما مع عدم تحديد ذلك المصطلح في القانون.

وفي السنوات الأخيرة، قدم تجميد الأموال المسروقة من صندوق "وان أم دي بي" 1MDB في ماليزيا، مثلاً إلى المجتمع المدني على كيفية عمل وكالات إنفاذ القانون الغربية معاً للمساعدة في استرداد الأموال الحكومية المسروقة، إذ عمل أكثر من 10 بلدان معاً لإعادة الأموال ومحاسبة الجناة. ودعت أخيراً مجموعة من منظمات المجتمع المدني في أوراسيا، بعدما أخذت في الاعتبار على الأرجح هذه القضية في اعتبارها، الحكومات الغربية إلى بذل مزيد من الجهد للتحقيق في الأموال المسروقة من البلدان الأم لهذه المنظمات.

في المقابل، يمكن القول إنه إذا لم تأخذ المصارف واجباتها إزاء مكافحة غسل الأموال على محمل الجد، فلن يكون ممكناً أبداً تحويل المال خارج هذه البلدان في المقام الأول. فكيف يمكن تغيير الوضع؟ بإصلاح نظام التقارير عن الأنشطة المشبوهة، وفرض غرامات وعقوبات أشد على المصارف التي تخرق القواعد، ومزيد من التدقيق في "المنكشفين سياسياً"، وملاحقة المسؤولين في المصارف الذين لا يقومون بكشف المعاملات المشبوهة. هل سيحصل ذلك؟ لا قرار بعد، لكن مع تلبّد غيوم العاصفة الاقتصادية، يبدو الأمر مشكوكاً فيه كثيراً.

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات