Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السودانيون يستنجدون بالوجبات الشعبية لمواجهة الأزمة المعيشية

عادت "القراصة" و"العصيدة" وغيرهما من الأطباق التقليدية إلى لائحة الأطعمة المنزلية

اتجهت كثير من الأسر السودانية إلى البحث عن بدائل غذائية معقولة السعر (اندبندنت عربية - حسن حامد)

ألقت الأزمة الاقتصادية في السودان بظلال قاتمة على الأوضاع المعيشية، وأجبر الضغط المعيشي الناس، بخاصة في المدن، على البحث عن بدائل ملائمة من حيث الثمن والنوع، ولم يكن من خيار سوى العودة إلى الوجبات التقليدية المحلية، إذ دفعت الندرة والغلاء المواطنين إلى البحث في إرثهم الغذائي عن بدائل شعبية مثل "القراصة" و"العصيدة" اللتان تحضران في المنزل، لتقيهم شر الوقوف ساعات طويلة في طوابير الخبز.

ويعزى التغيير الذي حدث في الثقافة الغذائية السودانية خلال الفترات الماضية إلى انتشار المطاعم الحديثة التي تقدم مأكولات معظمها غربي، وكثير من أنواع الوجبات السريعة التي يروج لها بوصفها تمثل نمطاً عصرياً للحياة، فاستشرت سريعاً وكانت خصماً للوجبات المحلية.

صحية ورخيصة

في السياق، دعا الباحث في مجال الأعشاب والأغذية الدكتور عبدالقادر التوم إبراهيم إلى اعتبار هذه الضائقة فرصة واجبة الاغتنام للعودة إلى الثقافة الغذائية المحلية العامرة بوجبات تقليدية صحية مفيدة ومشبعة، وفوق ذلك فهي اقتصادية قليلة الكلفة، مقارنة بما هو سائد الآن، إذ كادت ثقافة الـ "هامبورغر" والـ "هوت دوغ" أن تقضي عليها.

يضيف إبراهيم، "ما لا يعرفه كثيرون أن الوجبات الشعبية السودانية التقليدية تخلو تماماً من أية مواد حافظة، وتعتبر طبيعية 100 في المئة، كما أنها تتضمن بدائل عدة، فالبقوليات السودانية مثل "الكبكية" و"اللوبيا البيضاء" بدائل طبيعية للحوم، نسبة إلى ما تحويه من بروتينات مماثلة، ولاحظنا بالفعل بعد تصاعد أسعار اللحوم لجوء الناس إليها مع الأسماك النيلية، وهي الأفضل من ناحية القيمة الغذائية والسعر من اللحوم الحمراء، بفارق نحو 400 جنيه (حوالى دولار و85 سنتاً بالسعر الموازي) للكيلو الواحد، إلى جانب كثير من الخضراوات المحلية".

ويوضح أن الأزمة الاقتصادية تبدو أكثر تأثيراً في سكان المدن بسبب التغيير الكبير الذي طرأ على نمطهم الغذائي، بينما لا يزال الريفيون يحتفظون بقدر كبير من ثقافتهم الغذائية التقليدية، مبيناً أن نبتة "الموليتة" البرية، التي تنمو في بقاع واسعة في أرض السودان عامة، والوسط بخاصة، تعادل ربطة صغيرة منها القيمة الغذائية لـ 10 تفاحات مستوردة، مشيراً إلى أن "كثيراً من النباتات التي تؤكل ويشرب منقوعها تنتشر في أنحاء السودان، مثل الشعير والحرجل والحلبة، وكلها رخيصة السعر ومفيدة غذائياً وصحياً".

انتعاش المأكولات الشعبية

في الشأن ذاته، قال صاحب مطعم للمأكولات الشعبية، معاوية علي الأمين، إن الإقبال على الوجبات الشعبية شهد انتعاشاً ملحوظاً بسبب الأزمة الاقتصادية وتبعاتها، ما دفعهم إلى التركيز عليها تماشياً مع القوة الشرائية للجمهور.

وأوضح أنه بعد ارتفاع سعر وجبة إفطار الفول المصري التي كانت الأكثر شيوعاً وشعبية، إلى نحو أربعة أضعاف (من 30 إلى 130 جنيهاً، أي بين 11 و54 سنتاً بالسعر الموازي)، ظهرت وجبة بديلة أقل كلفة بنحو 50 في المئة، أطلق عليها البعض تهكماً "زماني الصعب"، وهي عبارة عن بليلة العدس السوداني الأحمر، تضاف إليها شرائح البصل، وبعض زيت السمسم والشمار والفلفل الحار، ويمكن تناولها بالمعلقة أو الخبز، وهي تعويض مناسب بل وأفضل من حيث القيمة الغذائية من الفول المصري الشهير في السودان. كما أن "القراصة بالتقلية" طبيخ يصنع من اللحم المقدد المجفف بأشعة الشمس، مع إضافة "الويكة"، وهي مسحوق البامية المجففة مع صلصة الطماطم، أصبحت الوجبة الأكثر حظاً وتداولاً لشعبيتها ومذاقها اللطيف المحبب لدى معظم السودانيين، كما أن سعرها المعقول يجعلها في متناول الغالبية. 

التدبير الاقتصادي المنزلي

اتجهت كثير من الأسر في المدن إلى البحث عن بدائل متوفرة ومعقولة السعر، بخاصة للرغيف واللحوم. 

وتقول لمياء ميرغني إسماعيل، إن العديد من ربات البيوت لجأن إلى أقراص "التورتيلا" و"القراصة" التي تصنع منزلياً من دقيق القمح إلى جانب الرغيف البلدي كبدائل لخبز الصمون. وفي جانب آخر، كانت "الويكة" والمكرونة والأُرز والعدس والعصيدة حاضرة لمواجهة الارتفاع في أسعار السلع الاستهلاكية.

ووصفت ميرغني المطبخ السوداني بأنه بسيط ويتميز بتنوعه وتعدد أطباقه الصحية والشهية، وأن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها السودان أثرت في كل الطبقات الاجتماعية، وتحديداً الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، ما دفعهما إلى ابتكار نوع من التدبير والاقتصاد المنزليين، ووجدت كثير من ربات البيوت ضالتها في الموروث من المأكولات الشعبية، بالرغم مما ترتبه من التزامات إضافية عليهن.

وتقول صفية نور الدين عطايا، وهي بائعة مأكولات شعبية، خلال الآونة الأخيرة زاد بشكل ملحوظ الإقبال على الوجبات الشعبية التقليدية، بسبب الظروف الاقتصادية الضاغطة، لأنها "فعلاً لذيذة وصحية ورخيصة وفي المتناول، ولكونها طبيعية وخالية من أي محسنات أو مواد كيماوية أو أسمدة، وتحافظ على خصائصها لفترات طويلة".

الاستنجاد بالموروث الشعبي

في السياق نفسه، قال محمود إبراهيم الفكي، صاحب مخبز، إن "الطوابير الطويلة للرجال والنساء أمام الأفران تؤكد فعلاً أن السودانيين هجروا كثيراً من عاداتهم وتقاليدهم الغذائية، إذ لم يكن الرغيف شرطاً للوجبات، وكانت "الكسرة" و"العصيدة "و"المديدة" تصنع كلها منزلياً. وها هي الضائقة المعيشية التي سببها شح مطحون الدقيق في المخابز، تجعل الناس أمام خياري الجوع أو الاستنجاد بتلك الوجبات".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يضيف الفكي، "الأزمة جعلت الناس مجبرين على العودة إلى تلك الموروثات كبديل، وربما لن يعودوا بعدها إلى طوابير الخبز مرة أخرى، لأن هذه الوجبات جيدة، ولا نقول إن كلفة بعضها رخيصة، لكنها متاحة ومعظمها من المنتجات المحلية الطازجة". 

من جانبها، قالت الاختصاصية الاجتماعية الدكتورة عالية عبدالله مدني، "بالرغم من أن الأزمة الاقتصادية أثرت بشكل كبير في كل الأسر، إلا أن تأثيرها على قطاع النساء العاملات كان أكبر، إذ أُجبرن على اللجوء إلى إعداد بدائل المخبوزات في المنزل، كالقراصة والكسرة والعصيدة والفطائر الأخرى، ما يمثل عودة إجبارية ومحمودة إلى الموروث الشعبي التراثي، لكن المشكلة تكمن أيضاً في أن أسعار طحين الدقيق أصبحت مرتفعة جداً مقارنة بالخبر الجاهز، كما أن عدم توفير الوقود وكلفته العالية تضيف تعقيداً جديداً للأزمة، إضافة إلى تضاعف الجهد والوقت المطلوب من المرأة السودانية لإنجاز كل ذلك، وهي تكافح من أجل ضمان حياة أسرية مستقرة وآمنة في ظل ظروف قاسية".  

"الغالي متروك" لمحاربة الغلاء

وفي الوقت الذي رفعت فيه الجمعية السودانية لحماية المستهلك شعار "الغالي متروك"، في محاولة لحث الناس على محاربة جشع التجار، اُتهمت الحكومة بعدم الجدية في معالجة قضايا المستهلك، وحملتها مسؤولية الأزمة، واصفة وجود سعرين للخبز في الأسواق بالفساد، وأعلنت رفضها تسمية الخبز التجاري ورفع الدعم.

وقال الأمين العام للجمعية ياسر ميرغني، إن الخبز التجاري باب جديد للفساد، وكشف عن عدم إجازة مجلس الوزراء قانون تنظيم التجارة، مشيراً إلى أن قراراً صدر من اللجنة الفنية للمواصفات حال من دون تدخل الجمعية في مسألة الخبز، إذ اقترحت دعمه بدل الدقيق وتوزيعه عبر البطاقة القومية.

ويعتبر المطبخ السوداني إلى حد ما شبيه ومزيج بين العديد من المطابخ العربية والأفريقية التقليدية، ما أكسبه الغنى والثراء بالأطباق والمأكولات الشعبية المتعددة، وذلك لتنوع الثقافات المحلية وتداخلها مع الثقافات المجاورة في كل من مصر وإثيوبيا وتشاد ومعظم دول الجوار. 

وتقدم معظم الوجبات السودانية الشعبية مع "الكسرة" أو "القراصة" أو "العصيدة" في الأرياف، ومع الرغيف في المدن، و"الكسرة" رقائق متوسطة تصنع من عجين الذرة الرفيعة المخمرة، و"القراصة" أقراص سميكة من القمح، تشكل معظم طعام أهل الشمال، لكنها صارت تستخدم في سائر السودان.  

أما "العصيدة" فتصنع في مختلف مناطق البلاد، من طحين الذرة الرفيعة أو الدخن أو القمح، وتستخدم بشكل خاص في إفطار رمضان وحفلات الزفاف. كما يشتهر السودانيون بصنع "المديدة"، وهي قوام كثيف لطحين الدخن أو الذرة أو الحلبة وغيرها، وكذلك "البليلة" وهي عبارة عن مسلوق أنواع من الحبوب أو البقوليات من دون طحن.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير