Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشاعرة جيلا مساعد من اضطهاد نظام الملالي إلى لجنة تحكيم نوبل الآداب

غادرت إيران إلى السويد عام 1986 وتبنت لغتها كي تنتصر على الظلم وتحقق حريتها

الشاعرة الإيرانية السويدية جيلا مساعد عضو لجنة نوبل الادب (دار هشتاغ)

في العام 2018 بينما كانت الأكاديمية السويدية منهمكة في قضية التحرش الجنسي التي هزت أروقتها وكواليسها وأسفرت عن حجب الجائزة للمرة الأولى في تاريخها، تمّ تعيين شاعرة إيرانية سويدية تدعى جيلا مساعد عضواً في لجنة تحكيم نوبل الأدب خلفاً للكاتبة السويدية كريستين إكمان في المقعد الأكاديمي الرقم 15. كان هذا الاختيار ليشكل حدثاً في إيران وفي الساحة الأدبية الإيرانية، لو لم تكن الشاعرة معارضة ومنشقة بل ومهاجرة، لجأت إلى السويد مع ولديها بعد ست سنوات على اندلاع إطاحة الخميني بالشاه ونظامه، ما قلب ظواهر المجتمع ومرتكزاته، ومعطيات الدولة السابقة. لكنّ هذا المنصب الرفيع رسخ اسمها في السويد وفتح الأعين على تجربتها الشعرية المختلفة الآتية من بلاد جلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي وسائر الشعراء الفرس الكبار، مشبعة بروح الصوفية والفلسفة الروحانية والعرفانية. وانطلاقاً من موقعها هذا، الأكاديمي والإبداعي، بصفتها شاعرة الضفتين المتباعدتين جغرافياً وثقافياً، ضفة بلاد فارس وضفة شمال أوروبا، استقبلها الغرب وترجم بعضاً من دواوينها. والمستغرب هنا أن المترجمين العرب المهتمين بالشعر الإيراني الحديث، المقيم والمنشق، لم يُقبلوا على ترجمة قصائدها على غرار الشعراء الآخرين. وقد يحتاج الأمر إلى ناقد عربي يجيد الفارسية كي يبحث عن موقعها في الشعر الإيراني الجديد.

بين لغتين

كتبت جيلا قصائد بالفارسية، لغتها الأم وأصدرت قبيل هجرتها القسرية إلى السويد عام 1986 بعد سبع سنوات من الثورة الإسلامية، ديواناً بالفارسية عنوانه "الغزلان السريعة للذاكرة"، بحسب سيرتها المترجمة عن السويدية. أما أول ديوان لها بالسويدية في وطنها بالتبني فصدر عام 1997 بعنوان "القمر والبقرة الأبدية" (دار أورفرونت). وبين عام الهجرة وعام إصدار أول ديوان بالسويدية إحدى عشرة سنة، تمكنت خلالها جيلا من إتقان اللغة السويدية وإجادتها والكتابة أو الإبداع فيها، بوصفها لغة انتماء وتعبير، على رغم صعوبة هذه اللغة الشمالية. وحقق الديوان الأول هذا نجاحاً في الوسط الشعري ونال ترحاباً لدى الشعراء والنقاد، ورسخ حضورها هي "الغريبة" في لغة أضحت لغة أماً ثانية بعد اللغة الأم الأولى. وفي خطابها الذي ألقته في مناسبة دخولها الأكاديمية السويدية ركزت جيلا على اللغة التي تعدّ وطن الشاعرة وأرضها البديلين، بعد فقدانها وطنها وأرضها الأولين أو الأصليين، ومما قالت: "اللغة السويدية أصبحت بمثابة الضوء الذي ينير طريقي، كي أتمكن من الكتابة والسرد بحرية مطلقة من دون أن أعاقب. قدرة اللغة تتخطى كل التخوم والأفخاخ. الانتصار على الظلم والرقابة وحدها اللغة تستطيع أن تحققه. وهذا لم يكن سهلاً في البداية. كل لغة تمنحني حرية التعبير ضد اللاعدالة هي لغة قلبي".

ومن كلامها هذا يمكن استخلاص أن اللغة الجديدة حققت ما تصبو إليه الشاعرة من تحرر من القيود المفروضة عليها، امرأةً وإنسانة وشاعرة. وأتاحت لها فرصة التخلص من الرقابة القاسية، الأيديولوجية والدينية والاجتماعية، التي ما زالت تمارس في إيران الخمينية. كانت الشاعرة تحتاج إلى تأكيد ذاتها بصفتها كائناً إنسانياً حراً.  

لا سيرة طويلة أو معمقة للشاعرة في الفرنسية أو الإنجليزية. ما يشيع عنها أنها ولدت في طهران عام 1948، ونشأت منذ طفولتها في أجواء الشعر والأدب، فوالدها كان قاضياً وشاعراً ينتمي إلى التيار العرفاني أو الغنوصي. نُشرت لها قصائد عندما كانت في السابعة عشرة في مجلة "كوش" المعروفة، سافرت إلى في الولايات المتحدة للدراسة ثم عادت وعملت محررة في راديو وتلفزيون طهران. ونشرت ديواناً بالفارسية قبيل هجرتها إلى السويد عنوانه "الغزلان السريعة للذاكرة". لا تفي هذه الخطوط من سيرتها، المتوافرة في الفرنسية والإنجليزية، بشخص هذه الشاعرة ومسارها والتجربتين اللتين وسمتا حياتها وإبداعها، الإيرانية والسويدية. أصدرت الشاعرة دواوين عدة بالسويدية ومنها: "كل ليلة أقبل قدمي الأرض" (2009)، "صوتٌ وحدي أعرفه" (2012)، "أمنح الأيّل حياة" (2015)، "القلب يبقى في المهد" (2018، ترجمته الشاعرة الكندية فرانسوا سول إلى الفرنسية وصدر عن دار هاشتاغ  كندا 2019)، "البلاد الثامنة" الذي صدر هذا العام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"القلب يبقى في المهد"

لعل قراءة ديوانها "القلب يبقى في المهد" وبعض القصائد التي ترجمتها لها الشاعرة الكندية فرانسواز سول إلى الفرنسية، تقدم فكرة شاملة عن تجربتها الشعرية الفريدة التي تجمع بين انتماءين أو هويتين وجوديتين، وفضاءين زمنيين ومكانيين. فالشاعرة التي هجرت بلادها الأم ولغتها الأم حملتهما معها إلى لغتها الثانية التي لم تكن لغة الآخر، بعدما أصبحت هي نفسها تنتمي إلى هذا الآخر، السويدي أو الغربي. وهذا التراوح بين اللغتين والانتماءين أسهم في إغناء تجربتها الشعرية والوجودية. لكنها لم تتخط الألم الذي سببه اقتلاعها أو هجرها أرض الطفولة، أرض الماضي الذي كان جميلاً، أرض الأم، أرض الذكريات الحميمة والساحرة. حتى الطبيعة حملتها معها بألوانها وظلالها وشمسها ورياحها، وجعلتها أشبه بـ"طبيعة داخلية" تلجأ إليها في أوج معاناة البعاد والانفصال. فالوطن الثاني الذي فتح أمامها أبوابه ومنحها لغته يظل يحمل ملامح المنفى ولو جسّد معاني الحرية والتحرر والعدالة وكرامة العيش.

تقول في إحدى قصائدها: "إنني راقصة الكلمات السعيدة/ أغني في أذن الكلمات السرية/ ولكن حين غروب النهار/ ألقي برأسي/ على كتفي الرومي وأبكي طويلاً/ إنني امرأة تكتب". وليس جلال الدين الرومي وحده الذي يحضر في شعرها، بل شعراء الصوفية وشعراء العرفان والوجد، مثل حافظ وسعد الشيرازي ووفريد الدين العطار وجامي وسواهم، بنزعاتهم الروحية والماورائية والعرفانية. وتأثرها بالصوفية ساعدها على تخطي المكان في مفهومه الجغرافي والزمن في بعده الواقعي، فإذا بهما (المكان والزمن) يغدوان داخليين أو رمزيين ويضفيان على شعرها ملامح ميتافيزيقية وروحية. تقول في قصيدة: "إنس أين ولدت/ أنا نسيت أيضاً/ إنس من أين آتي/ إننا سنتشابه تماماً/ عندما نتحول إلى غبار". وتقول أيضاً: "طويت أحلامي ووضعتها تحت المخدة/ في أي يوم نحن؟ أحياناً أنسى أن أتنفس". وتقول في قصيدة أخرى: "إنني الوحيدة/ التي تملك صوتاً هنا/ أتخلى عن الصمت/ أخلق ألفباء جديدة/ تلائم فمي/ إنني الميتة الوحيدة/ التي تلفظ أصواتاً/ أتسلق/ الدرب صوب الصلصال/ أقف مثل نبتة/ مستقيمة في الهواء... أحذّر الآخرين/ من قصر الحياة على الأرض".

ذاكرتان: شخصية وجماعية

تبرز في شعر جيلا مساعد ذاكرتان، واحدة شخصية وأخرى جماعية وهما ملتحمتان وغير منفصلتين، وعبرهما تتصادى الذكريات وأطياف الماضي وملامح الطبيعة، وتنسجان معاً أفياء الذات الشخصية بحنينها المستعر وظلال الذات الجماعية بآمالها وأحلامها. تتذكر الشاعرة صورة أمها في لحظة احتضارها في أحد مستشفيات طهران بينما هي في بيتها السويدي وتكتب: "في المساء يرن الهاتف/ الأم في أحد مستشفيات طهران/ طوال الليل أذرع بيتي الصغير بخطواتي/ مثل نمر ينزف". تحضر الأم وسائر النسوة اللواتي ملأن طفولتها وانتهين في حال من الصمت وأضحين مجرد أطياف. فالأم تجسد أجمل صور الذكريات: "ننام جميعاً في الحديقة/ تحت العرائش وأغصان الأرز/ عطر أزهار الليل/ يحل على مخداتنا داخل الناموسيات/ تحت ضوء القمر/ تهمس أمي من سريرها: ستصبحين مكفوفة/ إذا كتبت في الظلام/ لكنني لم أجد الضوء مرة/ ساحراً جداً إلا خلال هذه الليالي".

لكن العالم الراهن بحروبه ومآسيه ومظالمه، لا يغيب عن شعرها. فهي تمنح بؤساء العالم والمظلومين والمهجرين والمضطهدين حيزاً في قصائدها وتجد فيهم ضحايا الظلم واللاعدالة اللذين يهيمنان على العالم. وعطفاً على هذه النزعة الإنسانية أو الإنسانوية في شعرها، فهي لا تكف عن امتداح الحياة والطبيعة والمُثل التي يحتاج إليها العالم كي يحقق توازنه وعدالته. وهنا يبرز نفَس غنائي، يضفي على شعرها طلاوة وجمالية ويُمد لغتها التي تجمع بين المتانة والبساطة، بالعذوبة والشفافية. فلغتها كما تقول هي "لغة الرياح والأرض، لغة الجرح والألم".

قصائد مترجمة

هنا قصائد قصيرة لها ترجمتها من السويدية إلى الفرنسية الشاعرة الكندية فرانسواز سول:

1-

في هذه الحديقة

لا زهرة تولد

الشجرة لا ظل لها

والأخطر أننا نخشى الأحمر.

لماذا الموتى هم وحيدون كثيراً؟

في الليل تستحيل الأصوات صرخات

المطر يمحو كل الأسماء.

في الليل المطلق

الذي هو المرتبة السابعة للخوف

لا يبصر بعضنا بعضاً.

أحني المرآة صوب الضباب

في انتظار الضوء.

2-

هيأت حقيبتي

السفر يبدأ في عمق

الوديان الهامدة

أربط قدمي المنهكتين

بكعوب الخيل.

لم تصلني اليوم أيضاً رسالة

أمرأة الجار ولدت طفلاً

له سبعة أفواه ليرضع.

أخي كان يريد السفر إلى كوكب آخر

لم يعد يحتمل رائحة الدم.

العذاب له رائحة قوية في هذا المنزل.

وضبت حقائبي اليوم

لا يهم إن سقط المطر

أو هبت الريح

سأرحل إلى كوكب أخي

الخيول تجيد الطيران

إن شاءت.

3-

القلب ينجرف في الماء.

بعثرت كل الرسائل في الريح.

لطالما كنا مهاجرين.

الأمواج تبتلع التخوم

مثل أسماك سردين صغيرة.

الكلمات القلقة، الكلمات المجففة، الكلمات المحجبة

لا تساعدنا البتة.

إننا ننزلق بصمت بين أصابع المحيط

مثل الأسماك لمّا تجد بيتها.

مر وقت طويل حتى الآن

لقد نُسينا

لقد فُقدنا

ولا أحد يشتاق إلينا.

4-

أمس دمعت عيناي

بينما كنت أسقي زهرة البتونيا الغامقة الزرقة.

كانت الرائحة تحفر في أعصابي

في أوهى عضلاتي

تحفر في ذاتي.

كانت الأرض تحت قدمي

تتأرجح

هل شهدت ثواني مماثلة؟

كم يؤلم هذا

كما لو أن الموت

يتنشق في أعمق فمك

ذاكرة الإنساني والوجودي.

مشيت طويلاً

على طرق مجهولة

ذات يوم وجدت غرفة بلا سقف

جلست طويلاً على كرسي

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة