Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نصبٌ تاريخيّ يكشف أسرار المعركة مع كليوباترا و التي أدت إلى ولادة الإمبراطورية الرومانية

حصري للعالم: دراسة بحثيّة معمّقة لنصب النّصر الذي شيّده الإمبراطور الرّوماني الأول في مدينة نيكوبوليس القديمة تكشف النقاب عن المميّزات التي منحته الأفضلية للتغلب على خصومه وغيّرت مجرى التاريخ.

يلتقط السياح صوراً في المسرح القديم في مدينة بالميرا التاريخية ، 18 أبريل 2008. (رويترز)

يُسلّط المؤرّخون وعلماء الآثار ضوءاً جديداً واستثنائياً على أحد أهم الأحداث في تاريخ البشرية - المعركة المروّعة التي أدت الى ولادة الإمبراطورية الرومانية.

وفي دراسةٍ مفصّلة لنصبِ نصرٍ مميّز يُطلّ على البحر في شمال غرب اليونان، تنكشف بعض الأسرار الضائعة منذ زمن عن ذاك الاشتباك العسكري الحاسم، قل المعركة البحرية المهيبة التي دارت بين ابن يوليوس قيصر بالتبني ووريثه أكتافيوس (الذي أصبح فيما بعد امبراطور روما الأول) من جهة و كليوباترا ملكة مصر (وعشيقها الرّوماني ماركوس أنطونيوس) من جهةٍ أخرى.

ولا تزال بقايا هذا النّصب التذكاري موجودة إلى اليوم في المنطقة المتاخمة لنيكوبوليس – أكبر المدن القديمة المدمّرة في اليونان.

والمعروف أنّ النصر كان حليف أكتافيوس (الذي مُنح لقب القيصر أغسطس عند تولّيه عرش الامبراطورية الرومانيّة) في تلك المعركة البحرية عام 31 ق.م. – واليوم، وبعد مرور أكثر من ألفي عام، تقوم مجموعة من الباحثين بتحليل مفصّل للنصب المطلّ على ساحة المعركة القريبة من معبد أكتيوم الإغريقي القديم، في مسعى لفهم الكيفية التي تحقّق بها النصر الذي غيّر وجه العالم.

لطالما اعتُقد بأنّ العديد من سفن كليوباترا وماركوس أنطونيوس كانت أكبر من سفن أكتاوفيوس - وبالتالي أقلّ قدرة على المناورة.

لكنّ البيانات الأثرية المهمّة التي خرجت بها عمليات التنقيب في موقع النصب خلال الأعوام الأخيرة، أكّدت للمرّة الأولى أنّ سفن كليوباترا وماركوس أنطونيوس كانت بالفعل أضخم من العادة. وهذا الواقع هو الذي منح أكتافيوس – الذي كان يملك سفناً أصغر وأسرع – الأفضلية التي ساهمت في تغلب قواته على قوات كليوباترا وغيّرت مجرى التاريخ. وانطلاقاً من هذا التأكيد الدامغ، بدأ علماء الآثار بالعمل لفهم مبادئ اوكتافيوس العسكرية و التكتيك الذي استخدمه خلال المعركة.

وقد تم استقاء المعطيات الحيوية هذه من سلسلة منافذ، وعددها 35، موجودة في واجهة النصب التاريخي الرائع الذي يحتفي بنصر اوكتافيوس. و هذا موثق في قصيدةٍ رومانية تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، حيث تقول القصيدة إن الغرض من بناء هذه المنافذ كان لعرض الدعائم او الصوادم البرونزية الضخمة التي انتُزعت من أهم السفن الحربية العائدة لكليوباترا وماركوس أنطونيوس بعد خسارتهما للمعركة. 

فبعد انتهاء المعركة، وضع أكتافيوس يده على 350 سفينة من أسطول أعدائه – واختار 35 صادما من  مقدمات السفن لتكون الغنيمة التي سيعرضها في نصب النصر ويُخلّد بها هزيمة الأعداء.

وبحسب التحليلات التي تمحورت حول المنافذ (مع أنّ التنقيب عن بعضها لم يبدأ إلا في العامين الماضيين)، تبيّن للعلماء أن لهذه الأخيرة مقاسات مختلفة وهي بالتالي معدّة لتضمّ صوادم أو مقدمات للسفن من مختلف الأشكال والأحجام.

إلى ذلك، كشف التصميم التفصيلي لبعض المنافذ عن الأشكال والأبعاد العامودية لجوانب كل صادم ركب على مقدمات السفن – وبفضل هذه التفاصيل، استنتج علماء الآثار أنّ أخشاب الربط الأفقي المقوّسة التي تُحافظ على تماسك السفينة (وتمتصّ الصدمات الحادة التي يُمكن أن تتسبّب بها صوادم مقدمات السفن العدوة) كانت ضخمة على نحوٍ غير عادي. وليس من المستبعد أن يكون طول بعض السفن الحربية التابعة لأسطول كليوباترا وماركوس أنطونيوس قد وصل إلى 40 متراً.

ومن المرتقب أن تُسهم التحليلات المستقبلية لمقاييس المنافذ، في الإفصاح عن تفاصيل إضافية بشأن العوارض الخشبية الأفقية وحجم القوّة المطلوبة لضرب سفينة حربية معادية، الأمر الذي من شأنه أن يمنح الباحثين تصوّراً أوضح عن ضخامة القوة العسكرية وقدرات السفن التي شاركت بالمعركة الحاسمة آنذاك.

لغاية اليوم، لم يجد المؤرخون وعلماء الآثار سبيلاً فعلياً لتقدير "القدرة القتالية" للسفن الحربية المشاركة في المعركة المفصليّة التي تمخّضت عنها الإمبراطورية الرومانية. والمرجّح أن تُعزّز الأبحاث المرتقبة قدرتهم على فهم السبب الذي حدا بأكتافيوس إلى قيادة تلك الحرب البحرية وفق تكتيكات ممنهجة لمنع أنطونيوس وكليوباترا من الاستفادة الفعلية من مقدرة سفنهما الحربية المهولة.

وبالاستناد إلى مقاييس المنافذ نفسها، تبيّن أنّ حجم الصوادم البرونزية المركبة على مقدمة سفن كليوباترا وماركوس أنطونيوس فاق بواقع أربعة أضعاف حجم أكبر الصوادم القديمة المكتشفة على الإطلاق. 

ويبدو أنّ المنفذ الأكبر بينها كان مُعداًّ لاحتضان "صادم" بعرض 1.7 أمتار. والأكثر من ذلك، لفتت مقاييس المنافذ إلى أنّ بعض هذه الصوادم كان بعلو 1.6 متراً وبطول يتجاوز الـ2.5 أمتار.

وصحيح أنّ الغرض الأساسي من هذه الصوادم العملاقة هو خرق دفاعات الموانئ، لكنّ الدور المقصود لها في هذه المعركة بالذات هو ثقب هياكل سفن العدو تحت مستوى المياه والتسبّب بغرقها.

ومن بين الصوادم الـ35 التي عرضها أكتافيوس في نصب النصر بشكلٍ دائم، هناك 20 صادما كبيراً للغاية  و15 منها كانت ضخمة. وقد تم عرض أضخمها عند طرفي المنافذ الغربية والشرقية للنصب.

وصحيح أنّ علماء الآثار أجروا تحقيقات منهجية منتظمة على الموقع التاريخي لأكثر من 16 عاماً، لكنّ عمليات التنقيب الفعلية عن ستة من أصل المنافذ الـ35 تمّت منذ 18 شهراً فقط.

وتم الكشف عن تفاصيلها وتفاصيل هذا التحقيق المهم والمموّل من قبل وزارة الثقافة اليونانية ومؤسسة ستافروس نياركوس، في إطار مؤتمر آثارٍ دوليّ نظّمه مؤخراً معهد أميركا للآثار في سان دييغو، كاليفورنيا.

وفي حديثٍ مع صحيفة "الاندبندنت"، أعلن الدكتور كونستانتينوس زاكوس، وهو كبير علماء الآثار والمُشرف على الأبحاث في نيكوبوليس ومدير آثار متقاعد في وزارة الثقافة اليونانية، أنّ العمل على تحليل البيانات الأثرية المهمة المستنبطة من نصب النصر سيتواصل.

وأضاف الدكتور زاكوس: "يتمتّع هذا المعلم الروماني المميّز بأهمية دوليّة عظيمة على المستويين التاريخي والأثري - ومن المتوقع أن تكشف الأبحاث المستمرّة المزيد من التفاصيل حول المعركة التي تمخّضت عنها الإمبراطورية الرومانية".

وقبل شروع العلماء بالدراسة المعمّقة للمنافذ، جمعوا بعض المعلومات الأساسية عن نصب النّصر من قصيدة رومانية قديمة لشاعر القرن الأول قبل الميلاد، فيليبس التسالونيكي. وفيهاــ جرى وصف المعلم التاريخي من وجهة نظر الصوادم نفسها:

"نحن الصوادم البرونزية، دروع السفن المتعطّشة للسفر، نرقد هنا شهوداً على معركة أكتيوم."

ومن جهّته، صرّح المؤرّخ المسؤول عن الأبحاث حول المنافذ، البروفسور وليم موراي من جامعة ساوث فلوريدا، أنّ التحليل المستمر للبيانات المستنبطة من المنافذ يضطلع بأهمية تاريخية كبرى.

"من المحتمل للدليل الجديد أن يُحدث تغييراً ثورياً في مفهوم الصوادم البحرية القوية لدينا وقدرتها، كما ومن المحتمل أن يُعطينا فكرة أوضح عن القوة الكامنة جراء ارتطامها وما قد ينتج عنها"، على حدّ تعبير البروفسور موراي، أحد المراجع الرئيسية في شؤون السفن اليونانية والرومانية وكاتب أحدث الأعمال المهمة عن الأساطيل البحرية في منطقة المتوسط القديمة: عصر العمالقة: "نهوض الأساطيل الهيلينية العظمى وسقوطها". 

وتجدر الإشارة إلى أنّ معركة أكتيوم البحرية الحاسمة التي يُخلّدها نصب النصر، جُسّدت في ستينيات القرن الماضي في الفيلم الملحمي كليوباترا. وكان الفيلم من بطولة إليزابيث تايلور بدور كليوباترا، وريتشارد برتون بدور ماركوس أنطونيوس، ورودي ماكدويل بدور أوكتافيوس.

ولكنّ النصب ليس الشيء الوحيد الذي بناه أوكتافيوس احتفاءً بانتصاره التاريخي وتخليداً لذكرى ولادة إمبراطورية روما العظمى، إذ شيّد بمحاذاته مدينةً كاملةً (نيكوبوليس أيّ "مدينة النصر" باللغة اليونانية) التي ما لبثت أن نمت وازدهرت حتى ضمّت أكثر من 20 ألف نسمة (معظمهم من اليونانيين الذين تمّ تشجعيهم للإنتقال إليها من عدد كبير من البلدات المحيطة بالمنطقة).

ولا تزال بوابات المدينة القديمة المهيبة وثلاثة أميال من جدرانها (ماثل للعيان) ومسارحها وحماماتها ومدرجها وفللها الرومانية وكنائسها ونظام قنواتها المبهر، موجودة إلى اليوم ويمكن للسيّاح زيارتها. إنّها أكبر مدينة قديمة مهجورة في اليونان – وتقع على بعد أربعة أميال شمالي بلدة بروزة الصغيرة في منطقة إيبيروس اليونانية.

وفي الوقت الحالي، الأعمال تجري على قدمٍ وساق من أجل صيانة المسرح الضخم للمدينة التي هُجرت منذ مدّةٍ بعيدة للحفاظ على إرثه.

وعلى الرّغم من صمود نصب النصر والعديد من مباني المدينة المثيرة للإعجاب في وجه الزمن، فإنّ كافة الصوادم البرونزية المدهشة، وعددها 35، اختفت منذ فترةٍ طويلة (باستثناء بعض الأجزاء التي عثر عليها علماء الآثار). كلّ ما تبقى منها هو المنافذ الفارغة – الشاهد الصامد على مصير أنطونيوس وكليوباترا، وعلى ولادة واحدة من أعظم الإمبراطوريات والأنظمة السياسية التي شهدها العالم على الإطلاق.

ولمَن يسأل عمّا حلّ بالصوادم البرونزية فعلاً، الأرجح أنه تمّ تذويبها من قبل السكان المحليين أو الميليشيات أو البرابرة الذين اجتاحوا المنطقة في مرحلةٍ ما من القرنين الرابع أو الخامس قبل الميلاد، وهي الفترة التي شهدت على تراجع قوة الإمبراطورية الرومانية وانهيار أجزاء كبيرة منها. ومن هذا المنطلق، يمكن القول بأنّ هذا المعلم الأثري لا يشهد على ولادة تلك الإمبراطورية العظمى وحسب، بل كان شاهدا على بداية زوالها كذلك.

© The Independent

المزيد من علوم