Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المقاومة الفرنسية من خلال سيمون ماشار ورؤاها ونهايتها البائسة

لو كان بريخت حياً لضحك ساخراً من احتفال اليمين المتطرف بجان دارك

ببرتولت بريخت (غيتي)

كان نوعاً من الإحساس بأن ثمة إلحاحاً يملي عليه ضرورة أن يكتب في تلك السنوات الصعبة، مسرحيات تحرض الشعوب المحتلة، من قبل النازيين، على المقاومة الحقيقية، ما دفع ببرتولت بريخت، ولو بشكل مؤقت كما سيقول دائماً، إلى التخلي عن المبادئ الصارمة التي كان صاغها للكتابة المسرحية، ولا سيما منها مبدأ "البطولة" الجماعية بدلاً من البطولة الفردية، كي يكتب مسرحيات "بطولية" مباشرة تضع الانتقاد والأسئلة الوجودية جانباً. وهكذا رأيناه يعود بعد نحو عقد من كتابته مسرحية "مستوحاة" من نضالات "القديسة" الفرنسية جان دارك، ليكتب مسرحية أخرى مستوحاة من الشخصية نفسها، ومرة أخرى بشكل موارب هنا. فهو إذاً كان في "جان قديسة المسالخ" نقل بطلة القرون الوسطى الفرنسية إلى شيكاغو بدايات القرن العشرين ليشركها في نضالات عمال المسالخ ويضحّي بها في النهاية على مذبح أوهامها أكثر مما على مذبح تصدي "الأعداء الطبقيين" لها، ها هو هذه المرة، في "رؤى سيمون ماشار" التي كتبها بين 1941-1943 لكنها لن تقدم إلا بعد عام من موته، أي عام 1957 في فرانكفورت، يعود إلى جان دارك لكن من خلال تلك الصبية الفرنسية المقاومة للمحتلين النازيين لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية. أي أنه بالتالي أرجع "البطلة" الفرنسية إلى ديارها بعدما تغربت ردحاً في شيكاغو الأميركية. وأعادها بطلة وطنية بعدما كان جعل منها بطلة طبقية، علماً أنه سيعود إليها مرة جديدة في العام 1952 في مسرحية تحاكم جان دارك الأصلية في روان، وكأنه أحس أن مسرحيتي المقاومتين الاجتماعية والسياسية لم تكفياه. وعلى هذا النحو سيكون في "الريبرتوار" البريختي ثلاثة أعمال تتحدث، بشكل أو آخر، عن جان دارك ما لم تحظ به أية شخصية تاريخية أخرى في المسار الإبداعي لبريخت باستثناء لوكولوس الذي ستكون له هو الآخر ثلاث مسرحيات. لكن الفارق كبير بين الحالين، وربما أيضاً باستثناء هتلر الذي كثيراً ما سيحضر في مسرحه أيضاً مع فوارق كبيرة.

بريخت واليمين الفرنسي المتطرف

الحقيقة ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح: ترى إذا كان بريخت قد أولع إلى هذا الحد بشخصية جان دارك، ما الذي كان من شأنه أن يفكر فيه لو كان حياً بيننا، ولاحظ في الأول من مايو (أيار)- عيد العمال بالتحديد - من كل عام، كيف أن اليمين الفرنسي المتطرف يختار ذلك اليوم تحديداً للاحتفال بذكرى جان دارك معتبراً إياها بطلة قومية تمكن من انتزاعها من دائرة النضال الوطني الشعبي ليضمها إلى ريبرتواره الشعبوي؟ من المؤكد أن بريخت كان من شأنه أن يصاب بالحيرة والذهول أمام وضع كهذا!. بل ربما كان استلقى على قفاه من الضحك: فهو لم يتوقف، وفيما لا يقل عن ثلاث مسرحيات له، عن التعامل مع جان دارك بوصفها بطلة للمقاومة الفرنسية، مباشرة أو بالترميز، ضد الاحتلال الألماني ليصل الأمر إلى هذه النهاية المزرية المثيرة لاشمئزازه بالتأكيد. ولعله سيسأل نفسه وهو في غاية الدهشة، كيف حدث أن اليمين المتطرف الفرنسي الذي ناصر النازيين تماماً، يحتفل اليوم بتلك البطلة التي كانت دوماً رمزاً للتصدي لأي احتلال؟ مهما يكن، كان من شأن بريخت أن يضحك ويتحدث عن سخرية التاريخ ثم ينسى الأمر تماماً. فهو كان دائماً أكثر انشغالاً من أن يتوقف عند مثل تلك الترّهات. فجان دارك، سواء كانت "قديسة للمسالخ" أو عائدة للظهور تحت اسم سيمون ماشار وقناعه، أو "ضحية للمحاكمة والحرق" – تباعاً في مسرحياته الثلاث التي نشير إليها – ستظل رمزاً للمقاومة بالنسبة إليه كما إلى التاريخ الفعلي.

 

​​​​​​​البطلة تحرق محطة الوقود

وستظل كذلك بخاصة في المسرحية الثانية التي تتوسط هذه "الثلاثية" وفيها نقل الكاتب الأحداث إلى الزمن المعاصر: العام 1940 إبان احتلال القوات النازية الألمانية فرنسا ورضوخ قطاعات عريضة من الشعب الفرنسي، بما في ذلك معظم الزعامات السياسية ما عدا الجنرال ديغول والشيوعيين وحفنة ممن يسيرون في فلكهم، في فضيحة سوف تعتبر بالنسبة إلى الشرفاء الفرنسيين مصدر عار ووصمة أخلاقية بقدر ما هي فضيحة سياسية أو عسكرية.

الحقيقة أن مسرحية "رؤى سيمون ماشار" تعتبر دائماً الأشهر بين المسرحيات الثلاث. فهنا ليست البطولة لجان دارك حتى وإن أتت تحت قناع قديسة المسالخ، بل لفتاة من زمننا ساءها وصول النازيين وآلمتها الهزيمة المهينة التي أحاقت بالجيش الوطني الفرنسي الذي كان أخوها جندياً فيه، كما ساءها بخاصة استسلام رجال الأعمال والدين والسياسيين أمام المحتلين في منطقتها. فقررت أن تقاوم ولو وحدها، انطلاقاً من رؤى غريبة تتمازج فيها جان دارك مع ملاك هابط من السماء، لتلقينها دروس المقاومة. ومن بينها درس يخصّها هي. درس في غاية البساطة: بما أنها تعمل في محطة لبيع الوقود ومن المستحيل أن تقبل مع اقتراب القوات النازية بحصولهم على الوقود منها، لن يكون عليها أكثر من أن تدمر المحطة كفعل مقاومة فرديّ وبطولة عاديّ. أن تحرق المحطة كي لا يتمكن الأعداء من الحصول على الوقود، في وقت يركع المطران والعمدة وقادة الشرطة وبقية أعيان المنطقة مرحبين بالعدو.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

انقلاب بريختي؟

مسألة في غاية البساطة تجدها سيمون في رؤاها. ومن اللافت أن تلك الرؤى تظهر في مشاهد غاية في الطرافة و...العمق معاً. ومن هنا نراها تعطي المسرحية عنوانها، ناهيك عن كونها تضفي عليها بعداً ميتافيزيقياً سوف يكون مأخذاً على بريخت من قبل الذين صعب عليهم أن يفهموا هذا "الانقلاب الفكري الذي طاوله" بحسب تعبير واحد منهم، لكنه في الوقت نفسه سوف يحمل إليه مهتمين جدداً بفنه ما كانوا يعبؤون به من قبل. ونحن على أية حال نعيش على الخشبة رؤى سيمون معها في نوع من استرجاع تاريخي تبدأ معه في تصوّر مجموعات من الناس المنتمين تاريخياً إلى زمن جان دارك؛ فيما هي ترى نفسها في أحلامها تقاوم وتناضل ثم تُحرق كما حال سابقتها من دون أن يوقفها شيء عن المضيّ في مصيرها الفاجع، مع أن هذا المصير في نهاية المسرحية لن يكون حرقاً ولا قتلاً بل ما إن يُقبض عليها حتى تُرسل إلى مأوى للمتخلفين عقلياً بتهمة إحراق محطة الوقود من دون سبب واضح! هذا هو بكل بساطة الموضوع الذي أراد بريخت أن يعالجه في هذه المسرحية التي اشتغل على كتابتها مع مواطنه الكاتب ليون فوختفنغلر صاحب القصة القصيرة الأصلية التي منها اقتبست المسرحية.

لعل من اللافت هنا أن بريخت لشعوره بإلحاحية موضوع المقاومة وتسارع الظروف السياسية التي واكبت كتابته لها، آثر أن يبتعد كما لمّحنا أعلاه في هذه المسرحية التي كتبها في منفاه الأميركي في لوس أنجيليس، عن أسلوبه الملحمي الذي كان من عادته أن يعطي البطولة إلى المجتمع لا إلى الأفراد، ناهيك بأنه ترك مكاناً واسعاً في "فكرانية" المسرحية لبعد ميتافيزيقي لم يكن معهوداً في مسرحه (ظهور الملاك وبطلة المقاومة الفرنسية القديمة، لتحريض سيمون ماشار على خوض الفعل المقاوم)، بحيث أن "رؤى سيمون ماشار" أتت مختلفة إلى حد كبير عن معظم النصوص البريختية الأخرى. كما من اللافت هنا أن الكاتب لم يجد أية ضرورة لتفسير هذا الأمر أو تبريره – وسوف يتبيّن أنه إنما كان مؤقتاً في ممارسته الكتابية -، معتبراً إياه "غوصاً في مسرح شعبي بطولي لا بأس من خوض تجربته". ولم يكن بعيداً عن الصواب هنا حيث أن "رؤى سيمون ماشار" تبقى بالتأكيد واحدة من أكثر مسرحيات الكاتب شعبية إذ قرئت مطبوعة أول الأمر، ثم راحت تقدم على الخشبة لكن بعد رحيل صاحبها، ليكون تقديمها فاتحة سلسلة اقتباسات إلى العديد من اللغات يُلجأ إليها كلما احتاج الأمر إلى تقديم عمل بطولي مقاوم تطبعه بساطة مدهشة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة