Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أصدقاء الماضي يلتقون ليكتشفوا خيباتهم في "شلة ليبون"

رواية هشام الخشن تقارب "البيست سيلرز" وتتوغل في معالم المجتمع المصري المتنوع

القاهرة مدينة الظل والضوء (غيتي)

يُفرد المصري هشام الخشن على طاولة منافسات "البيست سيلرز" أوراق لعبته السردية الجديدة "شلة ليبون"، وهي الرواية التي تأتي سابعةً في محطات أعماله، وقد أصدرتها "الدار المصرية اللبنانية" بالقاهرة مؤخراً في عدة طبعات متتالية خلال أيام قليلة، وفق بروتوكول "قائمة الأكثر مبيعاً" التي أعلنتها الدار.

تغزل "شلة ليبون" على امتداد صفحاتها التي تناهز المئتين والخمسين، على منوال القراء المتشعبين من سائر الأعمار ومختلف المستويات الثقافية في المقام الأول، معتبرة أن اجتذابهم بالضرورة حد الاستلاب هو التوجه الغائي المنشود في العمل البسيط الشيق؛ الذي لا يخلو من عمق وحبكة وتأمل وفلسفة وهندسة (المؤلف مهندس مدني)، مع الحرص على انتهاج التقنيات الروائية الحديثة في التعاطي مع الشخوص والأحداث والزمن والمكان، وعدم إهدار الفنيات والجماليات المجردة، بغير تعالٍ ولا ادّعاء.

بهذه التوليفة المتوازنة من الحسابات الفنية والتسويقية المشغولة بعناية، تمضي الرواية؛ شأنها شأن مثيلاتها من الأعمال الرائجة، متحسسة مسلكها الشائك في المشهد السردي المعاصر، بحذر مفرط مزدوج.

أبعاد أخرى إضافية لا تغفلها "شلة ليبون" كذلك، خارج الفضاء الروائي بمعطياته ومقتضياته وتشكلاته وتحولاته العصرية، وخارج موازين النقد ومعايير الذائقة وأرقام توزيع الطبعة الورقية، منها على سبيل المثال، الرغبة في التجسد التصويري الحركي، سينمائياً وتلفزيونياً ومسرحياً، وهو الأمر الذي يتجلى بوضوح في فكرة الرواية وصياغتها وتكنيكها من جهة، وفي إشارات المؤلف وناشره "المبكرة جداً" إلى إمكانية تكييف العمل في ثوب درامي ليعرض كحلقات مسلسلة، فضائياً ورقمياً.

مركزية المكان

تنطلق رواية "شلة ليبون" من مفارقة "الثابت والمتحول"، لإعادة قراءة ما يضطرب ويضطرم بداخل البشر، وما يجري حولهم، من خلال فضح المتناقضات الذاتية والخارجية، والصراعات الثنائية والمتعددة، في مجتمع منقسم ومحكوم دائماً بالطبقية.

يتبلور الثابت في معطيين أساسيين؛ الأول: المكان المركزي، الذي لا يزول ولا تتغير ملامحه ومفرداته (الجدران، والأسقف، والأثاث، والديكورات، والتحف)، وتمثله الشقة الأنيقة في عمارة "ليبون" المطلة على النيل الخالد، في حي الزمالك العريق بالقاهرة.

ويُحيل المُعطى الثاني الثابت إلى الشخصيات المحورية، وهم سبعة أصدقاء من الذكور والإناث جمعتهم المدرسة منذ الصغر، وامتدت علاقتهم على مدار الزمن الروائي (في الفترة بين عامي 1978 و2010). وقد تعاهدوا في ما بينهم، مهما فرقتهم الظروف والأيام، على لقاء دوري يعقدونه كل عام (ليلة رأس السنة) في شقة "ليبون" التي تخص واحداً منهم، وصارت على مر السنوات كأنها تخصهم جميعاً من فرط حرصهم على هذا اللقاء، بكل ما فيه من طقوس وممارسات سحرية، وتحلل من القيود، وبحث عن الحرية: "ربما هذا ما جعل هذا البيت المكان المفضل والمختار لتجمعاتهم بعيداً عن قيود وتقاليد البيوت الأخرى".

ويأتي على رأس الانفلاتات السنوية المقدسة لديهم في هذه الليلة الفريدة؛ اشتراكهم معاً في لعبة الورق أي البوكر المجانية، على سبيل التسلية والمرح، وخوض التحدي المجاني والنظيف، والاستفادة من دروس اللعبة التي يعيها جيداً المحترفون، إذ تترجم أساليب اللعب وأسراره خرائط اللاعبين النفسية وأمزجتهم وسلوكياتهم وقناعاتهم واهتماماتهم وانحيازاتهم ومواقفهم المتباينة من الحياة: "تماماً مثلما هي الحياة، نحسب في أدوار اللعبة ثمن مغامراتنا وردود فعل من نواجهه، وفي كثير من الأحيان يظل من الأفضل أن نكتفي بدور أصحاب رد الفعل، حتى لا نرهب الآخرين بقدرتنا على المبادرة".

على الجانب الآخر، فإن المتحول في النص الروائي يتبدى أيضاً في مُعطيين؛ الأول: الزمان المتسلسل منذ بدايات شباب الأصدقاء السبعة حتى بلوغهم مشارف الخمسين. وقد تحرك الزمان طبيعياً بين 1978 و1983، ثم قفز فجأة إلى 2010، حيث اللقاء الأخير بينهم في ليلة رأس السنة كالمعتاد، واستعادة كل واحد منهم بأسلوب الفلاش بلاك في أثناء اللعب الساخن سجل ماضيه المنطوي وتفاصيل رحلته الحياتية، بكل ما فيها من مغامرات وخطوات ناجحة ومتذبذبة ومتعثرة.

من ثنايا هذه الحكايات التي يسردها ويسترجعها كل راوٍ من "شلة ليبون" بضمير الأنا، يتولد بهدوء المتحول الثاني؛ وهو حصاد ما يطرأ على الشخصيات جميعاً، وعلى الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المحيط، من تغيرات وانزياحات وتفجرات عبر أكثر من ثلاثين عاماً، تشابكت فيها علاقاتهم إلى أبعد حد، وتعقدت مصائرهم وتفاوتت بحجم خبراتهم في استيعاب قواعد اللعبة: "القاعدة الأهم أن تعرف متى تستمر، ومتى تتحدى، ومتى تنسحب".

لا تكتفي الرواية بنسج تلك المظلة العريضة الفضفاضة القائلة بين الحين والآخر بالطريقة الهوليوودية ما معناه أن "الحياة لعبة"، لكنها تسعى بتقصيها خصائص اللعبة وخطط اللاعبين المهرة بكل ما فيها من فراسة ودهاء ومراوغة وخداع وغش وقدرة على فك شفرات الآخرين، إلى تحليل ملابسات الصراع البشري، وتعرية السبل المشروعة وغير المشروعة التي يتخذها المرء للتفوق على خصومه، وأحياناً رفاقه، ومهاجمتهم نفسياً لإسقاطهم ذهنياً ومعنوياً قبل إتمام الانتصار المادي عليهم في منظومة الحروب في هذا العالم القاسي.

هكذا، توسع الرواية فكرتها الطفولية، فتصير مبادئ اللعبة وأبجديات المكسب والخسارة هي لغة المتناحرين في جولات الصدامات اليومية من أجل حظوظ المال والعمل والمناصب والعشق والزواج وتأمين مستقبل الأبناء، إلى آخر هذه المنافسات التي لا تنتهي دوراتها، ولا تهدأ حدتها.

لقد أورث الأب "يسري" ابنه "أمين" شقة ليبون، كما أورثه وشلة أصدقائه (كريم وعزيز وإبراهيم وهدى وعايدة وناديا) ذلك التعلق العقلي والعاطفي باللعبة. وفي المرة الوحيدة التي اتفق فيها السبعة على تخصيص جائزة للفائز الأول (هي رئاسة مجلس أمناء صندوق الخدمات المجتمعية الذي أنشأه أمين بمبلغ ضخم)، توالت خساراتهم واحداً تلو الآخر، ولم يربحوا غير الندم على الأخطاء في آخر سهرة يلتقون فيها.

مجتمع الأرستقراطيين

تُعد "شلة ليبون" واحدة من الروايات القليلة التي تتناول باستفاضة مجتمع الأرستقراطيين في القاهرة، فالأصدقاء ينتمون إلى عائلات ثرية مرموقة، ما عدا إبراهيم الذي التحق بمدرسة الزمالك بسبب عمل والده فيها وتوصيات من الإدارة التعليمية، وقد ظلت عقدة النقص تطارده طوال حياته مؤججة إحساسه بالدونية الطبقية، إلى درجة أنه استأجر سراً إحدى غرف الخادمات فوق سطح عمارة ليبون، ليدون في بطاقة هويته أن تلك العمارة بالزمالك هي عنوان سكنه.

تبرز الرواية كثيراً من اللقطات التي تدور في الحي الراقي، وربما لا يعرف عنها الملايين من أبناء الشعب المصري شيئاً، كنزوات الشباب من أصحاب السيارات "الفارهة" في شارع العشاق، وسهرات الفتيات والفتيان معاً في أمكنة مغلقة من دون رقيب، وقصص الحب المتبادلة بينهم، وبذخ الإنفاق الجنوني على الحفلات والملابس والزينة: "تدلى من أذن عايدة حلق من الماس يشبه على صغره الحلق الذي تضعه أمها في أذنيها ويتجاوز ثمنه عقاراً صغيراً في منطقة سكنية راقية".

مع مرور السنوات، وصولاً إلى عام 2010، تزيح الرواية النقاب عن حقيقة مؤداها أن الإخفاق لا يفرق بين غني وفقير في المجتمع المشحون بالفساد والاصطناع والزيف والبراغماتية والحماقات المتأصلة المتجذرة. فمن فئة الفقراء يتمكن إبراهيم الموهوب من أن يكون صحافياً وأديباً، لكنه يرتضي الذل والمهانة بإرادته، فيختار لنفسه دوراً وضيعاً بأن يكتب لرئيس التحرير مقالاته وأعماله القصصية والروائية: "يطلق على أمثالي الكاتب الشبح، لأننا غير موجودين مهما حاولنا الظهور، وغير مسموعين مهما صرخنا".

على الجانب الآخر، فمن فئة الأغنياء في "شلة ليبون"، تتوازى السقطات الإنسانية والمهازل الأخلاقية، فالجميلة عايدة على سبيل المثال، رغم ثرائها، يبيعها أبواها لعجوز أكثر ثراء، لتعمل خادمة لدى أم أبنائه وتنضم إلى قائمة "حريمه" كزوجة رابعة، والممثلة هدى ترتدي الحجاب لفترة، ليس عن قناعة به، لكن لأن المنتج يحضر لفيلم إسلامي، وأمين لا يستشعر أنه حقق ذاته مهما تضاعفت قيمة ثروته، وعزيز البطل الرياضي ينتهي مكسوراً معتزلاً الملاكمة قبل تحقيق حلمه بالمشاركة في الأولمبياد بسبب غروره وتهوره، وكريم المؤمن بالتحرر والارتحال والانفتاح الثقافي على الآخر الغربي يصطدم بالانحلال الذي يقترب من ابنته، فيقرر إنهاء تجربته وتغيير قناعاته وآرائه.

على الرغم من اتكاء رواية "شلة ليبون" على السرد أكثر من الحوار، فإن تعدد الرواة (الراوي العليم المجهول، الأب يسري، الأصدقاء السبعة) كان له دور لافت في كسر الملل وضبط الإيقاع دون ترهل البناء، خصوصاً مع القطع التشويقي عند نقطة مثيرة كل بضع صفحات، والانتقال السريع من راوٍ لآخر، من دون الاستغراق في التفاصيل الزائدة. وقد أسهم الحكي التقريري الجريء عن الذات وعن الآخرين، في ارتياد الطبقات العميقة للشخصيات، وقنص الفضائحي والمسكوت عنه لدى شريحة مجتمعية لا يتطرق إليها الأدب كثيراً، ما دفع حكايا "أولاد الذوات" المجهولة، على مجانيتها واعتياديتها، إلى أن تملأ فراغاً ما في حاضر الروايات الواسعة الانتشار.

المزيد من ثقافة