Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قانون جديد للإثراء غير المشروع في لبنان: مكانك راوح

قرار محاكمة الرؤساء والوزراء والنواب لا يزال في يد المجلس النيابي

بعد انتفاضة 17 أكتوبر 2019 في لبنان انطلقت دعوات لاستعادة الأموال المنهوبة من السياسيين (رويترز)

لم يحسم قانون الإثراء غير المشروع بصيغته الجديدة كما أقرّ في مجلس النواب اللبناني، الجدل المستمر منذ زمن، في شأن مفهوم الإخلال بالواجبات الوظيفية عند أي مسؤول، سواء كان رئيساً للوزراء أو وزيراً أو نائباً. فالقانون لم يقدّم توصيفاً واضحاً للواجبات الوظيفية، فبقي الالتباس قائماً والاستنسابية مشرعة.

قانون الإثراء غير المشروع الذي أرسلته حكومة سعد الحريري عام 2009، كاقتراح قانون، إلى مجلس النواب، وانكبت على دراسته لجنة فرعية برئاسة النائب غسان مخيبر لأكثر من خمسة أعوام في 41 جلسة، أُحيل مجدداً عام 2016 على لجنتَي الإدارة والعدل والمال والموازنة. و"نام" في أدراج مجلس النواب حتى العام 2019. ولم تباشر لجنة المال بدراسته إلا بعد ضغط عدد من النواب إثر انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019.

المشروع نفسه انتقل إلى لجنة فرعية جديدة ضمّت ممثلين عن الكتل النيابية، شكلت بعد عرضه في اجتماع اللجان المشتركة، فأقرته اللجنة وأحالته مجدداً على اللجان المشتركة، فلقي اعتراضاً نيابياً، في صفوف كتلة المستقبل تحديداً، لا سيما في شأن المادة 11 منه، التي تحدد جرائم الإثراء غير المشروع على أساس أنها جرائم عادية تخضع للقضاء العادي ولا تدخل ضمن مفهوم الإخلال بالواجبات الوظيفية. واعتبر المعترضون أنه لا يجوز تفسير الدستور بقانون.

تسوية تبقي القديم على قدمه

على وقع التباينات والاعتراضات نفسها التي رافقته في اجتماع اللجان المشتركة نوقش قانون الإثراء غير المشروع في الهيئة العامة لمجلس النواب. فبين اعتراض الفريق السني الممثل بتيار المستقبل على شمول القانون رئيس مجلس الوزراء من دون رئيس الجمهورية من جهة، وإصرار الفريق المسيحي الممثل بالتيار الوطني الحر من جهة أخرى على حصر الاستثناء برئيس الجمهورية الذي ينص الدستور على محاكمته أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء وليس أمام القضاء العادي ورفض شمول القانون الوزراء من دون رئيس مجلس الوزراء، أخرج رئيس مجلس النواب نبيه بري أرنباً رضي به الطرفان. فاقترح بري حذف عبارة الإخلال بالواجبات الوظيفية من نص القانون واعتبارها جرائم عادية تخضع مرتكبها للمساءلة أمام القضاء العادي، واتُفق على توصية تم تدوينها في محضر الجلسة، يتعهد فيها المجلس النيابي بالسير بتعديل دستوري لناحية إسقاط الحصانات عن الجميع بمن فيهم رئيس الجمهورية. فكان الإنجاز الذي سارع إلى تبنيه التيار الوطني الحر، خطوة غير مكتملة وغير مؤكدة، لا بل بمثابة "سمك في البحر"، على حد قول أحد المشرعين لـ "اندبندنت عربية".

عراضات شعبية لا قيمة لها

بحسب المعترضين، أبقت التسوية الجديدة في شأن قانون الإثراء غير المشروع القديم على قدمه، وما سرّب من مداولات أكد أن القانون في صيغته الحالية وفي حال أُقرّ ولم يُطعن به، سيبقى عرضة لاجتهادات القضاة. بمعنى آخر، سيبقى مشرعاً أمام التدخلات السياسية، فتكون الاستنسابية والتسويات السياسية هي المعيار في اختيار من يُحوّل إلى القضاء العادي ومن يُعتبر جرمه من اختصاص المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء.

من المتحفّظين على الصيغة الجديدة نواب القوات اللبنانية الذين قاطعوا الجلسة. فتكتل الجمهورية القوية يشدد على استثناء رئيس الجمهورية من القانون الجديد، لكن ليس من المحاكمة والمحاسبة التي يجب أن تبقى أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء، على عكس رئيس الوزراء والوزراء والنواب. على اعتبار أن رئيس الجمهورية وحده يقسم اليمين بالمحافظة على الدستور.

عضو تكتل الجمهورية القوية النائب جورج عقيص، وقد شارك في اللجنة الفرعية التي ناقشت قانون الإثراء غير المشروع قبل رفعه إلى اللجان المشتركة، يصف القانون الجديد بالتسوية الجدية كما كل التسويات السابقة. القانون بصيغته الجديدة لم يؤدِ إلى المطلوب منه، ولم يلغِ بحسب عقيص الازدواجية القائمة في صلاحية ملاحقة الوزير والنائب، بين القضاء العادي والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. فالصيغة الجديدة، بحسب عقيص، تضمنت أحكاماً جديدة وقابلة للتطبيق، لكن على مستوى المديرين العامين وما دون فحسب، أي بقي الرؤساء والوزراء والنواب خارج المساءلة أمام القضاء العادي. لا سيما أن المادة 70 التي تنص على محاكمة الرؤساء والوزراء والنواب أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء، عند إخلالهم بواجباتهم الوظيفية، بقيت كما هي. ما يعني أن أي رئيس أو وزير أو نائب سيحتاج إلى رفع الحصانة عنه لمحاكمته أمام القضاء العدلي، وإلى موافقة ثلثي المجلس النيابي على اعتباره مرتكباً لملاحقته أمام المجلس الأعلى للرؤساء. ما يعني أن الباب بقي مشرعاً أمام التدخلات السياسية والتهرب من المحاسبة.

ويعتقد عقيص أن تجنب وضع توصيف محدد للواجبات الوظيفية، سيُبقي الاجتهاد قائماً، علماً أن الحل الوحيد لعدم تهرب أي مسؤول من المحاسبة أمام القضاء العادي بتهمة فساد واختلاس أموال عامة، هو إما تعديل المادة 70 أو العودة إلى مناقشة اقتراح القانون الذي قدمه مع زميله في الكتلة رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان حول أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء.

هل يشمل الإثراء غير المشروع فضائح التحويلات؟

هل تقصّد النواب بإقرارهم صيغة قانونية ملتبسة للإثراء غير المشروع، تجنيب المحاكمة والمحاسبة لمن قد يتهم منهم بسرقة الأموال العامة وغيرها من الارتكابات التي تعد مخالفة ضمن هذا القانون؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سؤال كثر ترداده أخيراً مع بروز فضائح بالجملة لوزراء ونواب استخدموا مراكزهم ومناصبهم ونفوذهم لتحويل مبالغ مالية إلى الخارج، في وقت كانت التحويلات محظورة على أي مودع عادي.

بعد انتفاضة 17 أكتوبر 2019، انطلقت نهضة داخلية وخارجية نادت باستعادة الأموال المنهوبة من السياسيين. عملت جمعية المرصد اللبناني للفساد مع مجموعة من اللبنانيين المقيمين والمغتربين على تجميع ما أمكن من المعلومات عن أموال سياسيين هُرّبت إلى دول أوروبية، منها سويسرا وألمانيا وبلجيكا ولوكسمبورغ، بعد انطلاق الثورة.

وإثر الضجة التي أثارها المدعي العام التمييزي القاضي غسان عوديات، الذي كشف عن تحويلات سياسيين تمت بين أواخر عام 2019 ومطلع 2020، قدرت بـ160 مليون دولار، وما كشفه لاحقاً حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أمام لجنة المال والموازنة النيابية مقدراً حجم التحويلات بملياري دولار كلها لشخصيات سياسية، تقدم عضو تكتل لبنان القوي النائب زياد أسود بإخبار لدى النيابة العامة للتحقيق بهذه التحويلات، إلا أن جمعية المصارف رفضت التجاوب مع طلب المدعي العام التمييزي، على اعتبار أن ذلك يتعارض مع قانون السرية المصرفية، وأن القضية تحتاج إلى لجنة تحقيق خاصة، لا سيما أن التحقيق يتطلب أمراً قضائياً يستند إلى دعوى تقول إن الأموال غير شرعية وهي نتيجة تبييض أو اختلاس. الأمر الذي لم يحصل. ومع اصطدام المساعي الداخلية بحائط المصارف وجمعية المصارف، نشطت في المقابل المراسلات الخارجية إلى المصارف، وتمكنت من الحصول على معلومات تتعلق بتحويلات بلغت قيمتها حوالى 400 مليون دولار من أكثر من مصرف لبناني إلى الخارج.

تحويلات وزراء ومسؤولين وموظفين وإعلاميين بالملايين

صحيح أن قيام أي مسؤول أو مواطن عادي بتحويل أمواله إلى الخارج لا يعد جرماً بحد ذاته، إنما حتى لو كان المال شرعياً فإن التحويلات التي تمت وفي الظروف الخاصة تعد كذلك، كونها استثناءات واستنسابية، وفق ما يقول النائب السابق لحاكم مصرف لبنان محمد بعاصيري. فكيف إذا كانت أموالاً مشكوكاً في طبيعتها ويصح في حامليها القول من أين لكم هذا؟

يكشف شارل سابا عضو اللجنة التأسيسية في جمعية المرصد اللبناني للفساد لـ "اندبندنت عربية" عن لائحة اطلع عليها بنفسه، تضم اسماء ممن حظوا بإذونات خاصة من مصارف لبنانية لتحويل أموالهم إلى دول أوروبية، في وقت كانت المصارف تمنع ذلك على أي مواطن عادي آخر. اللائحة، وفق سابا، تضم وزراء ونواباً حاليين وسابقين، إضافة إلى متعهدين من الصف الأول من المحسوبين على مرجعيات سياسية، وإعلاميين وأعضاء مجالس إدارة في عدد من المصارف. سابا تحدث تحديداً عن وزيري الطاقة السابقين ندى البستاني وسيزار أبي خليل، والاثنين استغلا منصبهما بحسب رأيه للتمكن من إجراء التحويلات. البستاني كانت لا تزال وزيرة للطاقة عندما حولت على دفعتين ومن مصرفين مختلفين إلى مصرف في سويسرا 6 ملايين دولار، بفارق خمسة أيام فقط بين التحويلة والأخرى. أما أبي خليل فاستخدم موقعه كنائب كما يقول عضو المرصد اللبناني للفساد ليقوم بتحويل مبلغ قدره 52 مليون دولار على 4 دفعات في الشهر الأخير من عام 2019 وفي أوائل العام 2020.

ويتحدث سابا عن جرم إضافي ارتكبه المسؤولون في لبنان الذين تمكنوا من تحويل أموالهم إلى الخارج، وهو استخدامهم من الاحتياطي المخصّص في المصارف المراسلة وحدهم، فحصلوا على حصتهم وحصة غيرهم من الكوتا المخصصة للمصرف والتي كان يمكن أن يستفيد منها أكثر من مودع. ويعترف سابا بأن كل هذه المعلومات التي تمكنت الجمعية من الحصول عليها بالواسطة تبقى غير رسمية وهي في إطار التسريبات، ولكنها مدعمة ببعض الحالات لصور التحويلات وأرقام الحسابات وغيرها من الوثائق التي تثبت صحتها. هذه الفضائح سارعت بستاني وأبي خليل إلى نفيها ولجآ إلى القضاء بعدما رفعا دعوى على سابا وكل من أثار القضية.

لا أمل في المحاسبة في لبنان

يؤكد العضو المؤسس في جمعية المرصد اللبناني للفساد أن لا أمل في إمكانية متابعة هذا الملف في لبنان، نظراً للتدخلات السياسية لدى القضاء، حتى إقرار قانون الإثراء غير المشروع الذي استُبشر به خيراً، يبدو وفق ما سمعه من توضيحات في شأن نصه الجديد، أنه أبقى على الاستنسابية في محاكمة الرؤساء والوزراء والنواب. ولأن سابا ورفاقه لا يثقون بالعدالة الاستنسابية، باشروا بمراسلة الدول المانحة المشاركة في مؤتمر سيدر، وأرسلوا لها الوثائق التي حصلوا عليها والتي وفق رأيه تؤكد أن المسؤولين الذين ذهبوا للاستدانة منهم قد بدّدوا الأموال وسرقوها. ويكشف سابا لـ "اندبندنت عربية" عن دعاوى سترفع في الدول التي حُولت إليها الأموال لملاحقة أصحابها في الخارج.

اقرأ المزيد

المزيد من العالم العربي