Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أمين الزاوي يروي الحراك الجزائري في مرآة التاريخ

عمران النسّاخ في رواية "الباش كاتب" يدبج رسائل الرئيس ويشارك في السلطة عبر الكتابة

مشهد من الحراك الذي شهدته الجزائر (رويترز)

شكلت ظاهرة الحراك العربي، مادة للأدب بأنواعه المتعددة، لا سيما الرواية، فصدرت أعمال روائية ترصد هذه الظاهرة، في كافة تداعياتها. ولعل رواية "الباش كاتب" للروائي الجزائري أمين الزاوي (منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، 2020) هي أحد الأعمال الأخيرة التي ترصد ظاهرة الحراك الجزائري. فكيف تفعل ذلك؟ وما النتائج المترتبة على هذا الفعل؟

بالدخول في الرواية من عتبة العنوان، نشير إلى أن "الباش كاتب" وظيفة عرفتها أنظمة الحكم في العهود الماضية، فـ"الباش كاتب" هو كاتب الحاكم، سواء أكان خليفةً أو سلطاناً أو والياً، ما يشكل إشارة روائية إلى قدم آليات الحكم في هذه المنطقة من العالم، وانتمائها إلى الماضي أكثر من انتمائها إلى الحاضر والمستقبل. وبالدخول فيها من العتبات الفرعية، نشير إلى وجود ثلاث وثلاثين عتبة فرعية هي عناوين الوحدات السردية الثلاث والثلاثين التي تشكل الرواية. وهذه العتبات، في غالبيتها، تقتصر على كلمة واحدة لا تخرج عن المعنى المعجمي الذي وضعت له، ولا تقول شيئاً ذا بال يضيء الوحدة المعنية. وهي موزعة على ستة عشر اسماً، خمسة أفعال، أربعة ضمائر منفصلة، وستة حروف.

وبالتوغل في متن الرواية نشير إلى وجود سلكين اثنين ينتظمان الأحداث، يشغلان النص بالتناوب والتعاقب، في الشكل، لكنهما يتزامنان ويتوازيان، في المضمون، ولا يلتقيان بشكل مباشر، ما يضعنا إزاء حكايتين منفصلتين ضمن الرواية الواحدة، ولولا التقاؤهما بشكل غير مباشر لقلنا إننا إزاء روايتين اثنتين في واحدة. ولعل ما يفسر عدم اللقاء، رغم التزامن والتوازي، هو أن السلك الأول المتعلق بالخريف الحاكم ينتمي إلى الماضي بشخوصه وأحداثه، ويعيش خاج العصر. والسلك الثاني المتعلق بالربيع المنتظر ينتمي إلى الحاضر والمستقبل بأحلامه المشروعة وحركته المبررة. وللإجابة عن السؤالين المطروحين أعلاه، لا بد من الإمساك بكل من السلكين المذكورين واقتفاء حركته بين البداية والنهاية.

زوال القديم

يتمحور السلك الأول حول عمار النساخ "الباش كاتب" وعلاقته بولي نعمته قزمان أبو نسوان الرئيس الحاكم. وهو سلك يبدأ بكابوس، وينتهي بآخر، وبين البداية والنهاية كوابيس كثيرة، ما يعني أن الكابوسية هي سمة الحكم الذي تسعى العامة للتحرر منه. ولا يحتاج المرء إلى كثير من الذكاء ليستنتج أن الكاتب يتناول عهد الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بو تفليقة، وثمة الكثير من القرائن اللفظية والمعنوية التي تعزز هذا الاستنتاج. غير أنه يحاول أن يضفي على روايته طابعاً تاريخياً، وأن يغلف نصه بغلاف من السخرية وتضخيم الأحداث. ولعله يمارس بذلك نوعاً من التقية الروائية التي تبيح له أن يقول ما يريد بطريقة مواربة، وتتيح له التحلل من مسؤولية القول، في الوقت نفسه، وهو أمر مشروع ومبرر.

الشخصية المحورية في هذا السلك هي شخصية عمران النساخ الذي يتحدر من أصول ريفية، ويؤهله عشق القواميس وإتقان اللغات وجمال الخط لتبوؤ موقع كاتب الرئيس، فيروح يدبج له الرسائل على أنواعها، ويشاركه في السلطة بواسطة الكتابة، مستخدماً الكلمات المهجورة والمعجمية ليُدهش الرئيس والمستمعين والقراء، وينتشي بردود أفعالهم، فيمارس نوعاً من السلطة اللغوية الرديفة للسلطة السياسية. غير أن إفراطه في قراءة الكتب القديمة وسير الخطاطين في العصور السابقة وما آلت إليه علاقاتهم بأولياء نعمتهم من نهايات فاجعة، تجعله يتوجس من أن يكون مصيره كمصيرهم. لذلك، تبدو علاقته بالحاكم ملتبسة، قائمة على مزيج من الخوف والولاء الأعمى، ويعيش هاجس القتل غيلةً كما حصل لأسلافه: بدر بن عمار، ويحيى بن خلدون، وعبد الحميد الكاتب. من هنا. تنتابه الكوابيس طيلة الرواية حتى إذا ما تقدم الرئيس باستقالته تحت ضغط الشارع يقرر "الباش كاتب" الانتحار، غير أن إيمانه بأن صاحب الرئاسة لا يموت، وبأنه سينهض كالعنقاء، يجعله يتراجع عن قراره.

السلك الثاني في الرواية يتمحور حول شخصية المهدي أخريف الذي يتحدر، بدوره، من أصول ريفية، ويترقى من محصل فواتير إلى مشرف على الأرشيف ومفهرس للكتب الفرنسية في مكتبة الشركة التي يعمل فيها. وهو سلك يبدأ بالوحدة، وينتهي بالاعتقال، وتتخلله محطات من الانخراط في حب الحياة والموسيقى وتظاهرات الجمعة. ورغم أن الرواية تقدم المهدي، في المشهد الروائي الأول، يحتفل بعيد ميلاده منتصف الليل في شقته وحيداً لا يؤنس وحدته سوى مواء قط على سطح المطبخ، فإن المشاهد الأخرى المتعلقة به تقدم شخصية إيجابية، محبة للحياة، عاشقة للموسيقى، خادمة للناس، حادبة على الضعفاء، منخرطة في الشأن العام، وساعية نحو التغيير.

أدوات التغيير

هذه الصفات تجري ترجمتها من خلال الوقائع الروائية، فنراه يؤوي القط الشريد ويهتم به ويقاسمه الشقة، يمد يد المساعدة لجاره عبد الرحمن العسال الذي يعمل في غسل الموتى وتكفينهم، يرتبط بعلاقة صداقة مع الدا المولود بائع الورد الستيني الذي يحب مدينته ولا يغادرها رغم ما يتعرض له من تهديدات ويتشاركان معاً أحلام التغيير. ويتماهى بالمغني الجامايكي بوب مارلي فيحفظ أغنياته عن ظهر قلب ويغنيها في التظاهرات. وبذلك، يحاول تغيير الواقع بالتظاهر والرقص والغناء كما يحاول صديقه الدا المولود مقاومة البشاعة بالورد يوزعه على المتظاهرين الأحياء ويضعه على قبور الأصدقاء الراحلين. غير أن السلطة  التي تضيق ذرعاً بالجمال تقوم، وقد شارفت على السقوط، باعتقال المهدي، فيدفع ثمن نضاله الجميل. ويأتي قيام جاره عبد الرحمن العسال بتلبية نداء القط الوحيد وإطلاق سراحه بالتزامن مع عملية الاعتقال ليفتح كوة أمل في جدار الأزمة. وهكذا، ينتهي السلك الأول بسقوط الرئيس، وينتهي الثاني بتحرير القط، ما يعزز الأمل بمستقبل أفضل.

 وإذا كان السلك الأول ينتمي إلى الماضي بآليات الحكم وأسماء الوظائف وإطلاق الألقاب واستخدام المصطلحات، فإن هذا السلك الثاني ينتمي إلى الحاضر والمستقبل بآليات النضال وتقدمية الشعارات وأحقية المطالب وحداثة الأدوات المستخدمة.

 من خلال هذا السلك والشخصية التي يتمحور حولها، يضيء أمين الزاوي الربيع الجزائري وآليات النضال المستخدمة لبلوغه، والتضحيات المبذولة خلاله، والشرائح الاجتماعية المنخرطة فيه. وفي حين يستخدم الكاتب السخرية في روي أحداث السلك الأول، في إيحاء روائي منه، بحتمية زوال آليات الحكم القديمة وأدواتها، نراه يجانب السخرية في السلك الثاني، في إيحاء منه، بجدية المعارضة وحتمية انتصارها، وهو ما يتحقق في نهاية المطاف. وبذلك، يلعب الأدب الروائي دوراً تقدمياً يبشر بفرح الحياة وتقدمها وانتصارها، على حد تعبير هنري برغسون.

المزيد من ثقافة