Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"رباعيات الخيام" تتراوح بين أصيلها وما دخل عليها عبر العصور

يوسف بكار يعيد مقاربة الشخص وشعره والتناقضات التي اكتنفت مساره

تمثال لعمر الخيام في أستراخان الروسية (غيتي)

من الآثار الأدبية والفنية ما يخرج عن نطاق المحلية، ومنها ما يواصل نماءه وحياته حتى بعد ممات الأديب أو صاحب الأثر الأدبي، ويحوز هالة الديمومة عبر الزمن، في سجلّ التراث الإنساني العظيم. من هذه الآثار "رباعيات الخيّام" التي ما برحت إلى يومنا، في عشرينيات القرن الواحد والعشرين، مثار جدل ومتابعة وتمحيص ودرس واستخلاص عبر وترجمات إلى لغات العالم ومنها العربية. وباتت ترجمات "رباعيات الخيام" العربية لا تحصى بعدما شغلت أدباء وشعراء ومترجمين منذ عصر النهضة حتى اليوم.

في ترجمة "رباعيات الخيّام"، من الفارسية إلى العربية، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2020)، استأنف الناقد الأردني يوسف بكّار شغفاً استغرق منه أكثر من 37 عاماً، في الخيّام، تأريخاً، وتحقيقاً لكتّاب عرب وأجانب، وتوضيحاً للأفهام حول الخيّام، حتى وصلت أعماله في الخيّام وحده - ما قبل عمله الأخير - إلى 13 عملاً. طبعاً تضاف إلى سجله النقدي الأدبي الحافل الذي يمتد إلى ما يفوق 70 كتاباً.

ولكن قبل تقديم الكتاب الجديد للمؤلف يوسف بكّار، ولكتاب آخر هو ترجمة للخيّام كان أعدّها الشاعر المصري الشهير أحمد زكي أبو شادي وهي من تحقيقه، أراني أبدأ بالتعريف بالشاعر، وبعد ذلك ألتفت إلى ترجمات الخيّام إلى اللغات الأجنبية واللغة العربية. إنه غيّاث الدين أبو الفتوح عمر بن إبراهيم الخيّام، وهو عالم فلك ورياضيات أثرت عنه نظريات رياضية في علم الجبر، وفيلسوف، إلى كونه شاعراً أثار، كما أشرت، غباراً كثيراً وطرح تساؤلات أكثر بكثير من إبلاغه أفكاراً ومشاعر إنسان يترجّح بين الكفر والإيمان، وبين تيسير الأمور وتعظيمها، وبين الاحتفال بالدنيا والزهد بها، وبين النزعة اللاأدرية واليقين بالماوراء الماثلة علاماته في الطبيعة لمن يمعن النظر عبرها إليه.

خلاف حول "الرباعيات"

الثابت في ما يستخلصه الناظر في آثار الخيّام، بل في أثره الشعري الوحيد الذي نسب إليه بعد موته، وأعني "الرباعيات"، هو الخلاف في نسبة الرباعيات (وهو نوع شعري رائج في الشعر الفارسي، يقوم على نظم أربعة أبيات متساوية الطول ومتكافئة في قافيتها، على أن تدور حول فكرة واحدة)، إلى الشاعر الخيّام، والخلاف كذلك في شأن الأفكار والمحاور التي تتناولها هذه القصائد وفي عدد الرباعيات الأصيلة التي توالت ترجماتها إلى لغات العالم الحيّ إلى يومنا هذا.

ولعل الكتاب الأخير للناقد يوسف بكّار يندرج في تراث الرباعيات الكلاسيكي، بمعنى اعتباره إرثاً أدبياً عالمياً، وإن يكن أصله فارسياً من القرن الحادي عشر الميلادي. وإن قصد بكّار فيه ترجيح الرأي القائل بتقوى الخيّام، بالتالي بطلان الادعاء بنزعته العدمية أو بميله اللاهي، بناء على تقصّي سيرته الحقيقية من مصادرها الفارسية القريبة زمناً، فإن شيوع ترجمات الرباعيات، في مختلف لغات العالم الحديث والمعاصر، وترجمة الكاتب الإنجليزي إدوارد فيتزجيرالد لرباعياته (1859) التي بلغ فيها التصرّف بالنص الأصلي مداه حتى التأويل، هو مثال ساطع على أن "أصل صوت المؤلف (عمر الخيّام) يكاد يضيع" عبر الزمن، على حدّ قول رولان بارت، وأن عمل الخيّام الأدبي بات اليوم مادة تناصّ متاحة لكل من يهوى تطعيمه بشيء من الروحانية والقدرية والالتفات إلى مناعم الحياة القصيرة.

وللتدليل على اتساع الاهتمام ب"رباعيات الخيّام" لدى العرب، ومثقفيهم العارفين باللغة الفارسية والأجنبية المنقولة إليها الرباعيات، نذكر أهمّ هؤلاء المترجمين، وجلّهم في القرن العشرين، من النخب المثقفة والأدباء في كل من العراق ولبنان ومصر والأردن والسعودية والإمارات، أمثال: محمد الفراتي وأحمد صافي النجفي ومصطفى جواد وجميل صدقي الزهاوي وعبد الحق فاضل ومحمد الهاشمي، وعيسى المعلوف ووديع البستاني وأمين نخلة ومصطفى التلّ وعيسى الناعوري ونويل عبد الأحد ومحمد الظاهر وتيسير سبول ومحمود شلبابة وإبراهيم العريض ومحمد حسن عواد وأحمد زكي أبوشادي وإبراهيم المازني وعبد اللطيف النشار وعلي محمود طه وعبد الرحمن شكري وآخرون.

ومع ذلك، ثمة من الباحثين الشغوفين بالحقيقة ومصادرها، ومنهم الناقد يوسف بكّار العارف باللغة الفارسية والمترجم عنها إلى العربية، من يطمح إلى تنخيل الرباعيات، وتمييز الأصيل فيها من الدخيل والمبتدع، طمعاً في استعادة صوت الأديب "عمر الخيام" ونبرته الأولى التي كادت الأصداء المزيّفة أن تطويها إلى الأبد: "أصومُ عنِ الفحشاءِ جهْراً وخِفيةً/ عفافاً وإفطاري بتقديسِ خالقي" - "وقد علِمَ اللهُ اعتقادي وأنني/ أعوذُ بهِ من شَرِّ ما أنا فيهِ" - "إذا رضيَتْ نفسي بميْسورِ بُلْغَةٍ/ تحصّلَها بالكدِّ كفّي وساعدي" ...

خلاصات وإشكاليات

إذاً، يستهلّ الناقد رباعياته المترجمة عن الفارسية والمنتقاة، بعد ثلاثة عشر كتاباً عن الخيّام وعالمه وترجمات الرباعيات، وأهمها (الترجمات العربية لرباعيات الخيّام، عمر الخيّام في آثار الدارسين العرب وجماعة الديوان، عمر الخيام والترجمة الأدبية وإشكاليات ومزالق وغيرها)، بدراسة يخرج فيها بخلاصات، أهمها: أنّ أهمّ إشكالية في دراسة رباعيات عمر الخيّام هي الشك في أصالتها، وأن الباحث والمترجم يوسف بكّار أمكنه، إلى حدّ كبير، معالجة الإشكالية هذه بالعودة إلى المؤلف/ الشخص، وتقصّي سيرته، طبعاً بالاستناد إلى أهم المراجع والدراسات، وأبرزها دراسة علي دشتي، التي بيّنت له حقيقة شخصية الخيّام. فمن أسبغ عليه لقب الإمام والدستور وحجّة الحق وفيلسوف العالم وسيّد حكماء الشرق والغرب، في زمنه، لا يصحّ أن ينسب إليه شعر في الخمرة واللهو والالتفات إلى اللذّات والتهالك على الدنيا. وإنما كان أقرب إلى الصوفية التي تجمع ما بين الشريعة والفلسفة، منه إلى الشخص اللاهي وغير المبالي.

ولو كنّا ندرك سطوة التديّن الأعمى الذي كان يشيع بين الناس، إبان القرن العاشر والحادي عشر، في بلاد فارس، ومقدار التهديد بالقتل الذي كان نصيب الفلاسفة والمتصوّفين الصرحاء، لتبيّن لنا الداعي إلى قدر من التضمين في شعر الخيّام، ربما لتضليل العامة مخافة تصنيفه ضمن تينك الفئتين. وللدلالة المبيّنة على هذا الواقع الذي وعاه الخيّام وتجنّبه ما استطاع، يثبت البكّار أبياتاً للشاعر: "متى ما تخالطُ عالمَ الإنسِ لم يزلْ/  بسمعِكَ وقرٌ منْ مقالِ سفيهِ/ إذا ما الفتى لمْ يرُمْ شخصَكَ عامداً/ بكفّيْهِ عنْ ضَغْنٍ رماكَ بفيهِ/ وقد علّمَ اللهُ اعتقادي وأنّني/ أعوذُ بهِ من شَرِّ ما أنا  فيهِ".

وثمة أبيات أخرى في الجحود والحسد من العامّة: "سبقتُ العالَمَ إلى المعالي/ بصائبِ فكرةِ وعلوّ همّهْ/ فلاحَ بحكمتي نورُ الهدى في/ ليالٍ للضلالة مُدلَهِمّهْ/ يريدُ الجاحدونَ ليطفئوها/ ويأبى اللهُ إلاّ أن يُتِمّهْ".

وبالعودة إلى ترجمة رباعيات الخيّام التي أعدّها المؤلف يوسف بكّار، والتي جعلها 76 رباعية (منها 20 مدقق فيها على أنها "كأنها خيامية"، و56 مستمدّة من علي دشتي وآخرين ممن أثبتوا أصلها الفارسي الشبيهة بالخيامية)، فقد صاغها نثراً بالعربية لكي تأتي موافقة بمضمونها للأبيات الفارسية بالنص الخيامي، والذي أثبت مرفقاً بالنص العربي المترجم عنه، على شاكلة الترجمات الثنائية اللغة في النصوص الحديثة. ومنها: "لقد انبثقَ بحرُ الوجودِ من عالمِ الغيب/ ولمْ نرَ مَنْ تصدّى لكشفِ كُنْهِ جوهرِه/ كلٌّ يدلي بدلوهِ فيهِ على هواه. وليسَ ثمة منْ يمتلكُ الحقيقة".

المزيد من ثقافة