Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صباح الأحمد "السهل الممتنع"

عالج أصعب الملفات بجلد الفرسان وفلسفة الحكماء

ودّعت دولة الكويت زعيمها صباح الأحمد الصباح، بعد 14 عاماً قضاها أميراً للبلاد، لكن سليل الأسرة الحاكمة في الإمارة الخليجية العريقة، كان منذ 60 سنة عنواناً كويتياً بارزاً، يتردد صداه مع اسم بلاده أينما ورد في المحافل الداخلية والأممية، حتى حاز لقب "شيخ الدبلوماسيين العرب". وتابع الكويتيون مراسم جنازة الفقيد التي اقتصرت فقط على عدد محدود من أسرته، بعد أن قدم جثمانه اليوم (الأربعاء) من الولايات المتحدة الأميركية، حيث وافته المنية وهو يتلقى العلاج في أحد مستشفياتها.

وكان الديوان الأميري في الكويت أوضح أمس أن "حضور مراسم دفن الجثمان الطاهر لفقيد الوطن طيب الله ثراه سيقتصر على أقرباء سموه"، مؤكدا أن "الديوان الأميري يقدّر مشاعر المواطنين الكرام والمقيمين الفيّاضة في التعبير عن خالص تعازيهم بوفاته"، وذلك حسب وكالة الأنباء الكويتية "كونا".

ومع أن الفقيد كان الـ 15 الذي يتصدر "قصر السيف"، إلا أنه أوتي بسطة في السماحة لدرجة يمكن وصفه معها بـ "السهل الممتنع"، فعالج أصعب الملفات بجلد الفرسان وكياسة الحكماء حتى في آخر لحظاته، وهو يقضي أيامه الأخيرة في واشنطن يتلقى العلاج، بينما تنشغل كواليس السياسة حوله بملف الخلاف الخليجي، فاستحق تكريم الرئيس الأميركي بوسام الاستحقاق بمرتبة "قائد"، في خطوة نادرة من نوعها.

وكانت شخصية الصباح الوديعة تخفي وراءها رجلاً جسوراً لا يهاب الصعاب، إذ تولى أعقد المهمات في بلاده منذ أن كان وزيراً للإعلام ثم حاملاً لحقيبة الخارجية ورئيساً للحكومة، قبل أن يصبح أميراً للبلاد. فعرفت صحافة الكويت منذ وقت باكر هامشاً نادراً من الحرية والسقف العالي في تناول القضايا الشائكة التي كانت دائماً ما تبعث على الشحناء في بلدان أخرى، بينما بفضل سعة أفق الراحل والأسس التي أقامها لصناعة الإعلام، تمضي بسلاسة في الكويت، بالرغم من تفاعلها مع قضايا العرب الكبرى مثل حروبهم مع إسرائيل ومزايداتهم حول قضية فلسطين، وغيرها من الملفات السياسية والاجتماعية الشديدة الحساسية في بلد محافظ مثل جيرانه، لولا أنه اختط لنفسه طريقاً مغايراً كانت "الحرية أهم سماته".

دبلوماسي لا مثيل له

يقول الكويتيون إن زعيمهم الراحل قام بتأسيس نفسه للحقل الدبلوماسي، الذي نشط فيه منذ 40 عاماً، حتى منحه أصدقاؤه العرب ألقاباً كثيرة مثل "عميد الدبلوماسية الكويتية والعربية"، و"شيخ الدبلوماسيين العرب"، نظير قضائه واحدة من أطول المدد في حمل حقيبة الدبلوماسية في بلاده.

ونشط في ملفات عدة مثل الحرب الأهلية اللبنانية والوحدة اليمنية وحروب الخليج الثلاث، التي كانت الكويت ضحية الثانية منها في 1990، وحتى بعد أن أصبح أميراً ظل يمارس الدور نفسه، وظهر في آخر تلك المهمات في البيت الأبيض وسيطاً رضيته الأطراف الخليجية كافة، للإبقاء على الحد الأدنى من التواصل، إن تعذر إنهاء الخلاف، مستثمراً في سبيل كل ذلك علاقاته الودية مع الأطراف كلها.

وكان البيت الأبيض قال في مناسبة منح صباح الوسام الرفيع، إن الراحل "كزعيم في الشرق الأوسط لعقود، كان صديقاً وشريكاً، وقدم دعماً لا غنى عنه للولايات المتحدة خلال عملياتها العسكرية في المنطقة"، لافتاً إلى أن "الأمير كان دبلوماسياً لا مثيل له، إذ شغل منصب وزير خارجية بلاده مدة 40 عاماً، ونجحت وساطته الدؤوبة في حل نزاعات الشرق الأوسط، وتجاوز الانقسامات في ظل أصعب الظروف".

لم يكن ذلك رأي أميركا وحدها، إذ فور صدور نبأ نعي الأمير الخلوق، تسابق الوجهاء والدول إلى الإدلاء بمشاعرهم الشخصية نحو رجل وصفه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بـ "الرمز الاستثنائي للسلام والحكمة" في أحلك الظروف، بما جعله يحتل مساحة كبيرة في القلوب، بحسب قول مجلس التعاون الخليجي في مناسبة تأبينه.

ولدى تعداد مناقبه لم ينس مواطنوه والراصدون لسجله السياسي، كيف وسع بسماحته حتى الأعداء، فكان ينظر إلى العراق بالرغم من غزوه الكويت بلداً عربياً شقيقاً، يحظى مواطنوه المقيمون في الكويت بالتكريم، مثلما كان بعد إسقاط صدام حسين بين أوائل العرب حضوراً قمة بغداد التي عقدتها جامعة الدول العربية للمرة الأولى بعد الغزو، بالرغم من الظروف الأمنية والسجل الثقيل للانتهاكات، وفقاً للمحلل السياسي الكويتي فهد الشليمي، الذي اعتبر نهج الصباح قائماً على سلامة الصدر وإطفاء الحرائق، من دون أن يؤثر ذلك في صلابة مواقفه في اللحظات التي تستدعي ذلك، مثلما فعل في مواجهة موجة الربيع العربي، التي استهدفت بلاده، قبل أن تقرأ ألاعيبها وتتعامل معها بما يتناسب مع شخصيتها الاجتماعية والسياسية.

الوفاء والصفح

وفي سياق الوفاء لمن كانوا مع بلاده ساعات الضراء، لم ينس الرمز الكويتي موقف السعودية في حرب تحرير الكويت، حتى في الجانب الثقافي والإعلامي الذي كرم هذا العام أحد رموزه، وهو الدبلوماسي السعودي المخضرم الراحل غازي القصيبي، بتخليد اسمه على إحدى المؤسسات التعليمية في الكويت.

وكان القصيبي بين الأصوات التي دعت الكويت والخليج إلى عدم نسيان احتلال الكويت أبداً، ليس ثأراً من الجناة، لكن للعبرة والتذكر، قائلاً "لئن كانت العاصفة قد هدأت بعودة الكويت التي تمت وبسقوط محتلها الذي سيتم قريباً، بعونه تعالى، فلا ينبغي لنا أن ننسى ما كان خلال العاصفة، من وقف معنا، ومن وقف ضدنا، أبداً، أبداً". إلا أن عدم نسيان الراحل الصباح، كان على طريقته التي أعرب عنها يوم نشط في ملف الخلاف الخليجي، حين دعا جيرانه إلى "العفو والتجاوز عن قطر"، فالكويت كانت أكثر من عانى تحريضها، لكنها صفحت عن الأخطاء.

الثورة الإيجابية

على المستوى المحلي، قاد أمير الكويت منذ توليه مقاليد الحكم فيها عام 2006 ثورة إصلاحية، حققت في بضع سنين ما ظل الكويتيون ينتظرونه عقوداً، مثل منح المرأة حق الترشح والتصويت للبرلمان (مجلس الأمة)، والسماح لها بالعمل في المؤسسات العسكرية، وتعيينها في منصب القضاء.

ووصف رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم، في إحدى المناسبات الدولية، نهج الصباح الإصلاحي ذاك بالذي "جرت بلورته إلى رؤية تنموية كاملة واضحة للكويت 2035، يجري العمل على تنفيذها في إطار خطط خمسية متتابعة تبلغ تكاليف تنفيذ هذه المشاريع المدرجة في أولاها فقط قرابة 116 مليار دولار، تتوزع على كل القطاعات الاقتصادية عموماً، وعلى مشاريع الكهرباء والماء وقضايا الصحة والتعليم على وجه الخصوص. كما تشكل برامج الخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص والمشاريع الصغيرة والمتوسطة آليات رئيسة لتحقيقها".

المزيد من العالم العربي