Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أوبك" حين يكون "الولد سر أبيه"

هكذا أشعلت الحمية الوطنية غضب دول نامية فانقلب سحر النفط على "الساحرات"

شاب عربي يتحقق من قراءات الأجهزة في أرامكو (غيتي)

عندما أطلق رجل النفط القوي الأمير عبد العزيز بن سلمان عبارته الشهيرة "تعالَ إليَّ" في إحدى حروب الأسعار التي دائماً ما تدور رحاها، تردد صداها في أروقة الأسواق العالمية، وهو يشير بإصبعه إلى المضاربين، ويتوجه إلى المتسللين خلف تفاهمات "أوبك+" بأنهم سيندمون، و"يتألمون كما لو أنهم في الجحيم".

لم يكن وزير الطاقة السعودي يومئذ يخرج عن سياق ما اعتادت بلاده أن تفعل، كلما نفد صبرها نحو رفاق الذهب الأسود، واقتربت المخاطر من سلعتها الاستراتيجية، بفعل أعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط أو خارجها، لكن ماذا نعرف عن الغضبة السعودية التي أوجدت "أوبك" نفسها، وهي التي قلبت سحر الصناعة على ساحرات النفط اللاتي كُن مضرب الأمثال في الهيمنة والطغيان على خيرات الدول النامية؟

توثق المصادر التاريخية أن الحكاية بدأت عندما لم يجد أهل الأرض طريقاً مناسباً للتفاهم مع المستثمرين في الزيت العربي، فانتفض العرب إلى جانب إيران وفنزويلا بقيادة الرياض التي كانت قد بعثت للدراسة في أميركا فيمن بعثت شاباً يُدعى عبد الله الطريقي، سريعاً ما بزغ نجمه وقاد ثورة المطالبة بتوزيع أكثر عدلاً لأرباح النفط العربي بين ملاك السلعة والمستثمرين من الشركات النفطية الكبرى (الشقيقات السبع)، إذ كانت تلك الشركات "تمتلك كل الامتيازات في كل من إيران والعراق والسعودية، وباقي مناطق شبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط، وتسطير على جميع المراحل البترولية من البئر حتى وصول البترول إلى المستهلك"، إضافة إلى ذلك فهي وفقاً لموسوعة "مقاتل من الصحراء"، تتحكم في تسخير البترول في خدمة العالم الصناعي الذي تنتمي إليه، بينما اقتصر دور الدول المنتجة للبترول حتى مطلع الستينيات من القرن الـ20 على تسلم حصتها المحدودة من أرباح عملية إنتاج البترول الخام، كما تتولى تلك الشركات الكبرى مسؤولية تحديد الحصص، وتقدير عائدات البلد المنتج.

النفط بعد الاستقلال

لكن هذا الواقع الذي بدا للعرب ودول أخرى أنه غير عادل في ذلك الوقت، كان بالنسبة إلى تلك الشركات عملاً قانونياً، إذ تم "بموجب اتفاقيات الامتياز التي أبرمت بينها وبين الدول الناشئة، قبل الحرب العالمية الثانية"، التي أفرزت واقع الدولة الوطنية الحديثة واستقلال دول كانت في ذلك الحين مستعمرة، لهذا توثق الموسوعة، أن معظم الدول المنتجة للبترول عندما نالت استقلالها أخذت تراجع الاتفاقات التي ترى أنها أتاحت للشركات الكبرى الحصول على القدر الأكبر من الأرباح "وترك الفُتات لحكومات الدول المنتجة"، وفقاً للتقدير السائد آنذاك، ما شجع الدول المتضررة على الدخول في تفاصيل الصناعة والتعمق في فهم أسرارها، تمهيداً لتوطينها ولو جزئياً.

في هذا السياق، جاء الدور السعودي، إذ تناول المؤتمر البترولي الأول الذي نظمته اللجنة البترولية التي تتبع جامعة الدول العربية في أبريل (نيسان) 1959 أول بادرة لإنشاء منظمة "أوبك"، فجرت خلف كواليسه محادثات بين ممثلي فنزويلا والسعودية والعراق وإيران والكويت، وتناولت تأسيس منظمة تهتم بـ"تحسين الشروط التعاقدية والأسعار، ومعالجة أوضاع صناعة البترول، وزيادة قدرة مصافي البترول في الدول المنتجة، وتأسيس شركات بترول وطنية"، وغيرها. وهكذا تطور التنسيق شيئاً فشيئاً بين الدول المؤسسة للمنظمة، حتى أعلن ميلادها في بغداد في الفترة بين 10-14 من سبتمبر (أيلول) 1960، حسب ما توثق "أوبك" نفسها على منصتها الرسمية، موثقة الاجتماع التاريخي بتخليد وفوده في قاعة الشعب العراقية.

ويقول الباحث السعودي محمد السيف إن السعودية شاركت بوفد في مؤتمر القاهرة، ترأسه عبد الله الطريقي، المدير العام لشؤون الزيت والمعادن بوزارة المالية والاقتصاد الوطني في ذلك الحين (قبل إنشاء وزارة البترول)، وشكل "نقطة انعطاف في مسيرة الطريقي العملية في صناعة النفط من خلال تصريحاته التي أطلقها فور وصوله إلى القاهرة، ومن ثم ورقة العمل التي تقدم بها إلى المؤتمر ومداخلاته وحواراته الصحافية التي أعقبت المؤتمر، كل هذه جعلت منه النجم الأول في المؤتمر، وبالتالي كان حضوره الصحافي المتميز في الصحافة العربية والغربية، كما أن هذا المؤتمر شهد ولادة فكرة توحيد الدول المنتجة للنفط تحت مظلة واحدة، وهو ما كان يحلم به الطريقي ويدعو إليه من ذي قبل".

شاب يهز عرش أكابر الصناعة

يشير السيف الذي ألّف كتاباً خصصه لبحث سيرة الطريقي الذاتية، إلى أن الرجل "بدأ يرسم لبلاده الخطوط العريضة لمستقبلها الذي يجب أن تناله من وراء زيت البترول الذي تحويه أراضيها"، لدرجة أثارت ملاحظة الصحافة الأميركية التي أقرت بأن استثمار واشنطن في الإقليم يواجه تحدياً جديداً، يأتي من السعودية في شخص شابها الطموح الطريقي الذي تعرف على دهاليز الصناعة عن قرب في الولايات المتحدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتقول مجلة "فورتشن"، في ما يوثق عنها السيف "في ما يختص باستثمار بترول الشرق الأوسط، نواجه هناك سياسة الطريقي في السعودية وهي سياسة رجل طموح هو الشيخ عبد الله الطريقي، مدير مكتب الزيت. وإن هذا الرجل الذي تلقى علومه في الغرب يؤمن بأن الزيت هو أداة للقوة بالإضافة إلى أنه مصدر للدخل في الدولة، وأن على شركات البترول التي تبحث عن امتيازات جديدة لاستخراج الزيت من الأراضي السعودية ألا تحاول إضاعة وقتها ما لم تكن على استعداد تام لقبول الشروط السعودية لاستخراج وتسويق الزيت طبقاً للمصالح الداخلية والخارجية".

وأفضل من يتحدث عن قصة إنشاء المنظمة، هو الطريقي نفسه، الذي يذكر أن فنزويلا هي أول من اتخذ خطوات عملية نحو توحيد وتنسيق مواقف الدول المنتجة، إذ "أرسلت عام 1949 وفداً بترولياً زار كلاً من إيران والعراق الكويت وتبادل الرأي مع الرسميين الذين زار بلادهم وأطلعهم على شروط الامتيازات التي تصر فنزويلا على العمل بها لبلادها".

ويرى الطريقي وفقاً لسيرته الذاتية أن منظمة الدول المصدرة للبترول من أهم المنظمات الدولية، نظراً للدور الحساس الذي تلعبه لتنظيم العلاقات بين أعضائها وتنظيم علاقات هؤلاء مجتمعين وشركات البترول العاملة في بلادهم.

وبين في مقالة له كتبها بعد إعفائه أن "خلق هذه المنظمة وإظهارها إلى حيز الوجود كان حلماً يداعب مخيلة الوطنيين في البلاد المنتجة والمصدرة للبترول في نصف الكرة الشرقي (إيران، والسعودية، والكويت، والعراق)، وفي نصفها الغربي (فنزويلا)، وكان الجميع يفكرون ويعتقدون أنه لا بد من إيجاد منبر دولي يجمعهم ويحمي مصالحهم حيال الدول المستهلكة للبترول. فهم ومن دون استثناء دول نامية".

لأن "الولد سر أبيه" كما تقول العرب، عملت السعودية التي وقفت خلف إنشاء المنظمة على أن تعكس وليدتها الجديدة حزم الرياض، وثقلها السياسي، وكذلك صورتها كمصدر آمن للطاقة يمكن الاعتماد عليه في كل اللحظات الحرجة، خصوصاً الحلفاء الغربيين الذين كانوا في ذلك الوقت وحتى عهد قريب، يمثل نفط الشرق الأوسط قطب الرحى في تلبية احتياجهم من السائل الثمين.

"أصبحنا مُسيطرين"

يسجل وزير النفط السعودي الأسبق المهندس علي النعيمي أثر تأسيس المنظمة على بلاده وبقية الشركاء، فبفضلها "أصبحوا يحكمون سيطرتهم على موارد النفط في بلادهم، ما دفع أرامكو إلى الحرص على متانة علاقاتها مع الحكومة السعودية حفاظاً على امتياز التنقيب عن النفط، فأدى هذا إلى تدريب أكبر عدد من السعوديين على المستويات كافة. وقد كان الوزير الجديد أحمد يماني واجهة لصناعة النفط السعودي، وأكثر المندوبين لدى "أوبك" حركة، فقد كان يدافع بقوة عن المملكة سواء على الساحة العالمية أو مع الملاك، ومع ذلك كان متزناً تجاه توطين صناعة النفط، لإدراكه قيمة رأس المال الأجنبي والخبرات الأجنبية لتحقيق الاستفادة القصوى من الموارد الوطنية.

لكن التكلفة التي تدفعها الرياض في سبيل إبقاء "أوبك" قوية، كانت هي الأخرى باهظة، فيروي النعيمي أيضاً في مذكراته من "البادية إلى عالم النفط"، أن المنظمة المرموقة لا تعكس تصرفاتها بعض الأحيان توقعات بلاده، التي كثيراً ما تجد نفسها بين ناري الدفاع عن حقوقها كدولة، وبين إظهار المجموعة بأسرها كياناً جديراً بالاحترام"، ويقول إنه في عام 1995 عندما حضر اجتماع لـ"أوبك" في التوقيت المحدد لم يجد أحداً، إلا أن مشاكل "أوبك" تتجاوز مسألة احترام المواعيد "فقد كنا نمضي الأسابيع في اجتماعات "أوبك" في جنيف من دون فعل شيء يذكر سوى التسوق وممارسة بعض الرياضات الشتوية، أما أن يلتزم الجميع بحصص تصدير لنفط المتفق عليها، فلا. كان الجميع يغشون. صممت على تغيير واقع "أوبك" بصفتي ممثل أكبر منتج للنفط في المنظمة، والدولة صاحبة أحد أكبر احتياطات نفطية مؤكدة، فأردت أن تعيد المنظمة توجيه بوصلتها نحو النفط لا السياسة. ولكن هذا المنطق لم يجد أذناً واعية لا أمس ولا اليوم".

ضاقوا بالسياسة فماذا عن الغش؟

يذكر أن عبد الله البدري الذي سيصبح أميناً عاماً لـ"أوبك"، كان أكثر تأييداً لجهوده إذ قال إنه "حاول تحويل نقاشات "أوبك" من السياسة إلى الاقتصاد، واهتم دوماً بما فيه مصلحة المجموعة"، وكما قال الصحافي العراقي وليد خدوري "قبل النعيمي كانت "أوبك" في صراع داخلي دائم"، ويضيف نات كيرن، رئيس الشركة الاستشارية "فورن ريبورتس" بواشنطن "جعل النعيمي من "أوبك" منظمة أكثر عملية. فقد كان الوزير يحب أحياناً إعطاء دروس سعودية لبقية أعضاء "أوبك"، لكن لا أعتقد ان النعيمي يرغب في إعطاء دروس تكلف المعلم غالياً ولا يستفيد منها الطلاب على أي حال".

إلا أن المشاكل ظلت عصية على الحل "فمع الأسف، كان الغش شائعاً، لكن بعضها أسوأ على كل حال"، حسب النعيمي، ففي عام 1997 أصبحت فنزويلا تجاهر بإخلائها بالحصص المحددة في ذلك الوقت، فقد كانت صنابيرها مفتوحة بلا حسيب ولا رقيب.

أضاف "شعرنا نحن بقية أعضاء أوبك بأننا لم نعد مُلزمين بحدود، فواجهت وزير الطاقة الفنزويلي إروين آربیتا في أحد الاجتماعات، وقلت له (اسمع! ها نحن في أوبك نتجاوز السقف الذي اتفقنا عليه بسبب رعونة تصرفاتكم. فإن كنتم ترغبون في الاستمرار على هذا النحو، أقترح أن نسمح بهذه الزيادة لبقية الأعضاء، شعرنا نحن بقية الأعضاء بأننا لم نعد ملزمين بحدود الإنتاج الأكثر تشدداً). فبدأ إنتاج أوبك يزداد في أواخر عام 1997 ومطلع عام 1998، وسرعان ما سيؤدي إلى عواقب عالمية وخيمة".

وعلى هذا المنوال سرت "أوبك"، وما أشبه الليلة بالبارحة، ولذلك كان القول السائد في فيينا حسب محللين، إن "السعودية هي أوبك، وأوبك هي السعودية"، لكن ذلك لا يعني أن الرياض تملك عصاً سحرية، فحينما يتهرب البعض من مسؤولياته، تكون ورقة "الكي" حاضرة، بين آخر الأدوية التي جرَّبها عرب الجزيرة العربية منذ حين. وما معركة "أوبك+" عنّا ببعيدة، فضلاً عن ضغوط إدارة بايدن التي أعقبتها في مستهل الحرب الأوكرانية.

اقرأ المزيد

المزيد من البترول والغاز