Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لو لم يتم إنشاء "أوبك" لوجد مثيلها على كل حال

المصالح الاقتصادية والسياسية أسهمت في إيجاد المنظمة بمرحلة زمنية شهدت متغيرات كبيرة ولا يزال العالم بحاجة إليها

المصالح المشتركة بين منتجي النفط اقتضت تأسيس منظمة أوبك لضبط الأسعار في الأسواق   (رويترز)

جاء الوزير والفيلسوف الفنزويلي خوان بيريز ألفونسو بفكرة "أوبك" من خلال مراقبته لطريقة ترشيد مفوضية سكة حديد تكساس للإنتاج في الولاية الأميركية، والفكرة هي تطبيق الترشيد عالمياً، بدلاً من أن يكون محلياً من خلال إنشاء "بنتاغون نفطي"، يضم أكبر خمسة منتجين في العالم وقتها خارج الاتحاد السوفياتي. 

سمع ألفونسو بعبد الله الطريقي عبر مساعديه الذين درسوا مع الطريقي بجامعة تكساس في أوستن، ولكن لم يلتقيه إلا في أواخر الخمسينيات. وهناك خلاف عن كيف تم اللقاء. أعجب الرجلان بأفكار بعضهما واتفقا على ضرورة توافق العرض مع الطلب في كل الأوقات عن طريق التحكم بالإنتاج على مستوى عالمي، وأن يتم ذلك من خلال حكومات الدول المنتجة لأن الشركات ستظل تنتج بأكثر من الطلب، وستبقي أسعار النفط منخفضة. 

والسؤال هو، ماذا سيكون وضع أسواق النفط من دون "أوبك"؟ وهل "أوبك" سبب التقلبات الكبيرة في أسعار النفط كما يدّعي البعض؟

الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب نظرة تاريخية سريعة على أسعار النفط. لو نظرنا إلى الصناعة منذ ولادتها تجارياً عام 1859 وحتى الآن، نجد أن الأسعار كانت مستقرة في حالة وجود مدير للسوق، ومتذبذبة بشكل كبير عندما تركت سوق النفط من دون أي إدارة. لهذا أدرك قادة الصناعة سواء من القطاع الخاص أو العام أنه لا بد من إدارة السوق وعدم تركها على هواها لتحقيق ثلاثة أهداف تتمثل في التخفيف من الهدر أو إلغائه وزيادة الكفاءة في الإنتاج وتخفيف ذبذبة الأسعار. 

استقرت الأسعار عندما سيطرت ستاندارد أويل على الصناعة، ثم زاد تذبذب الأسعار بشكل كبير عندما قسّمت الحكومة الفيدرالية شركة ستاندارد إلى أكثر من 35 شركة بعد اتهامها بالاحتكار، إلا أن السياسيين أدركوا خطأهم، إذ زاد الهدر وانخفضت الكفاءة وتذبذبت الأسعار بشكل كبير، فأحالت الولايات المنتجة للنفط الأمر إلى هيئات متخصصة لترشيد الاستهلاك مثل مفوضية سكة حديد تكساس. ثم اتفقت شركات النفط العالمية في ما بينها على تكوين "كارتل" عالمي للسيطرة على صناعة النفط العالمية، وهكذا تمت السيطرة على صناعة النفط في العالم قانوناً داخل الولايات المتحدة عن طريق المفوضيات الحكومية، وعن طريق شركات النفط العالمية خارج الولايات المتحدة، التي تطوّرت مع الزمن لتعرف باسم "الأخوات السبع". 

شكّلت "الأخوات السبع" قوة قد لا يكون لها مثيل في التاريخ التجاري، فسيطرت على صناعة النفط العالمية، وأسهمت في الحروب بشكل مباشر وغير مباشر، كما شكّلت "لوبي" قوياً في كل مراكز صنع القرار ابتداء من "الأستانة"، مروراً بلندن، وانتهاء بواشنطن. واستطاعت التحكّم بالإنتاج والصادرات والأسعار. ويعود سر نجاحها في هذا التحكّم إلى أنها سيطرت على الصناعة رأسياً وأفقياً. سيطرت هذه الشركات على صناعة النفط من مراحل الاكتشاف حتى توزيع منتجاته، مروراً بعمليات النقل والشحن والتكرير والتوزيع.  كما استطاعت تخفيض تكاليفها عن طريق تبادل الخبرات والتكنولوجيا من جهة، واستخدام كل المعدات الفائضة عن الشركات التي لديها فائض. وتوسعت سوق هذه الشركات عالمياً بسبب انتشار السيارات والكهرباء والتكنولوجيا من جهة، وإبقاء الأسعار منخفضة من جهة أخرى. 

تأزّمت العلاقة بين شركات النفط والدول المنتجة في الخمسينيات بشكل كبير، خصوصاً مع تأميم محمد مصدق للنفط في إيران عام 1951، وحركات التحرر العربية، واستمرار الشركات في زيادة الإنتاج فوق كميات الطلب على النفط. ثم جاء تأميم قناة السويس الذي لعب دوراً كبيراً في أحداث أسواق النفط وقتها، وأعطى دعماً لفكرة أن الدول النفطية تستطيع أن تقف في وجه شركات النفط العالمية، وأحياناً حكوماتها. وسيطرت فكرة ضرورة تخفيض الإنتاج لمواءمة الطلب على النفط. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تأسست "أوبك" كردّ فعل على الفائض في المعروض الذي أوجدته الشركات، ثم تخفيض الشركات أسعار النفط كي تتواءم مع وضع السوق. فكرة ألفونسو والطريقي تمثلت في أن الإنتاج يجب أن يساوي الطلب في كل الأوقات، بالتالي يجب تخفيض الإنتاج الذي سيرفع بدوره أسعار النفط، فتزيد إيرادات الحكومات من جهة، كما يتم الحفاظ على المورد الناضب من جهة أخرى حتى تنوّع الدول المنتجة مصادر دخلها. 

تأسست "أوبك" وما زالت الشركات هي المسيطرة رأسياً وأفقياً، بالتالي فإن فكرة تخفيض الإنتاج لم تتحقق إلا من خلال المقاطعات النفطية أعوام 1956 و1967 و1973، ولكن "أوبك" كمنظمة لم تقم بالمقاطعة، وإنما أعضاء فيها. ومع انسحاب شركات النفط العالمية من الدول المنتجة إما بسبب التأميم أو بيع حصصها، تلاشت قوة الشركات، وتركت السوق لـ"أوبك". الغريب في الأمر أن قوة الشركات ومفوضية سكة حديد تكساس تلاشت في الوقت ذاته، الأمر الذي يدل على أنهما كمّلتا بعضهما، وكان لأي منهما أن تنجح في إدارة السوق من دون الأخرى. 

ولكن لم يكن لدى "أوبك" أي نظام للحصص الإنتاجية، وليست لديها القدرة على إدارة السوق. وكان البديل هو تدخل الحكومة الأميركية "الرأسمالية" عن طريق تبني "سياسات "شيوعية" بحتة: تحديد أسعار النفط والغاز والمنتجات النفطية في أكبر مستهلك للنفط وواحدة من أكبر الدول المنتجة في العالم. هذا التدخل لم يشوّه طبيعة أسواق النفط فقط، بل أسهم أيضاً في زيادة تقلّبها لأسباب لا مجال لذكرها الآن. ومع تحرير الرئيس ريغان هذه الأسعار في أول الثمانينيات، ألقيت الكرة بملعب "أوبك" في وقت عصيب، بعد قيام الثورة الإيرانية وبداية الحرب العراقية الإيرانية وتدفق خمسة ملايين برميل من النفط للمرة الأولى من ألاسكا وبحر الشمال! تقلبت الأسعار بشكل كبير، وتم لوم "أوبك" على ذلك، مع أن لا علاقة لها بالموضوع.

ولم يتم تبني الحصص الإنتاجية حتى عام 1982، وحتى وقتها لم تقم بالتخفيض إلا بعض الدول. ومع هذا، استمرت أسعار النفط بالانخفاض حتى انهارت الأسواق منتصف الثمانينيات. هذه الزيادة في ذبذبة الأسعار هي التي أوحت للبعض بأنه يجب التخلص من "أوبك" لأنها السبب في ذلك، ولكنهم كانوا مخطئين في رؤيتهم لسببين: الأول أنهم يقارنون فترة سيطرة "الأخوات السبع" ومفوضية سكة حديد تكساس في الفترة التي تليها، ويفترضون أنها فترة "أوبك"، والواقع أن بينهما فترة تدخّل الحكومة الأميركية في تسعير النفط والمنتجات لمدة قاربت 10 سنوات، وهذا التسعير أدى إلى مشكلات كثيرة في السوق.

والسبب الثاني أن "الأخوات السبع" كانت تسيطر على الأسواق رأسياً وأفقياً، في الوقت الذي سيطرت مفوضية تكساس ومثيلاتها على إنتاج الولايات المتحدة، فاستطاعت التحكم بالأسعار وتحقيق استقرار نسبي فيها. وبالانتقال من مرحلة "الأخوات السبع" إلى "أوبك"، مروراً بمرحلة سيطرة الحكومة الأميركية، انتقلنا من السيطرة الرأسية والأفقية على الأسواق إلى السيطرة على إنتاج النفط الخام فقط، وهو جزء بسيط من الصناعة، لهذا فإنه من المنطقي أن تزيد ذبذبة الأسعار. إلا أن "أوبك"، عن طريق بعض أعضائها، استطاعت منع الذبذبات الضخمة في السوق، بالتالي فإن مقارنتهم غير صحيحية. بعبارة أخرى، المقارنة لا تتم بمقارنة "أوبك" بالفترة التي قبلها، وإنما بوضع السوق في حالة لو لم تكن "أوبك" موجودة إطلاقاً أو عدم قيام بعض أعضائها مثل السعودية بتغيير الإنتاج. 

وغاب عن هؤلاء أمر أساسي وهو أن مهمة سكة حديد تكساس ومثيلاتها كانت منع المنتجين الأميركيين المستقلين من منافسة الشركات في الأسواق العالمية، الأمر الذي أسهم في إحكام سيطرة الشركات على السوق. كلنا يعرف الآن أن مشكلة الفائض في الأسواق سببها النفط الصخري الذي حلّ محل الواردات في البداية، ثم صدّر ابتداء من نهاية 2015. بعبارة أخرى، لو استمرت مفوضية سكة حديد تكساس بالقيام بدورها الذي قامت به أثناء سيطرة "الأخوات السبع"، لكان وضع "أوبك" أقوى بكثير اليوم مما هو عليه الآن.

وبفرض أن "أوبك" لم تؤسس إطلاقاً، فإن حركات التحرر والتأميم والمشاركة كانت ستحصل على كل الأحوال، بالتالي فإن نوعاً من التعاون بين بعض الحكومات سيولد في كل الحالات، بخاصة ضمن دول الخليج. ودليل على ذلك الكثير من مظاهر التعاون الدولي والمنظمات الدولية التي وجدت لأن المنطق يحتّم وجودها. ولعل أقوى دليل على ذلك هو تعاون المنتجين من خارج "أوبك" مع المنظمة وتشكيل "أوبك+". حدث هذا في وقت انتهى الاستعمار وعصر الامتيازات، وتحقق التحالف اختيارياً بين هذه الدول. باختصار، حتى لو لم تؤسس "أوبك"، فإن الأمر سينتهي بتعاون الدول المنتجة بطريقة أو بأخرى. 

حتى إذا أخذنا بالرأي القائل إن "أوبك" لم تملك يوماً أي قوة سوقية، وإن القوة في السوق هي للسعودية وبعض المتعاونين معها، فإن هذا يؤكد فكرة وجود قوة ما في السوق حتى لو لم توجد "أوبك". ووفقاً لهذا الرأي، فإن وضع السوق لن يتغير سواء كانت "أوبك" موجودة أو غير موجودة. 

قد تختلف الآراء حول دور "أوبك"، ولكن ما يمكن الاتفاق عليه هو أن هناك جزءًا منها بقيادة السعودية كان سيتصرف تماماً كما تصرف تاريخياً سواء وجدت "أوبك" أو لا. كما يمكن الاتفاق أن مصالح المنتجين تقتضي اتفاقهم بطريقة أو بأخرى كما رأينا في "أوبك+". ويمكن الاتفاق على أنه في أي منظمة من هذا النوع، سيوجد أعضاء يحاولون أن يستغلوا الوضع ويزيدوا الإنتاج للاستفادة من ارتفاع الأسعار الناتج من تخفيض الآخرين للإنتاج. 

خلاصة الأمر أن مصالح اقتصادية وسياسية أسهمت في إيجاد "أوبك" في فترة زمنية شهدت تحولات سياسية كبيرة. ولكن حتى مع استقلال الدول واستقرارها في ما بعد، وانتهاء هذه المصالح السياسية والاقتصادية، رأينا أنها تحالفت مع بعضها على كل الحالات، لأن مصالحها اقتضت ذلك. بالتالي لو لم يتم إنشاء "أوبك"، لوجد مثيلها على كل حال. حتى ترمب، عدو النفط، وعدو "أوبك"، أدرك ذلك في مارس (آذار) 2020.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء