Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هاروكي موراكامي بين قدرية التراجديا الإغريقية ومصادفات شكسبير

 الروائي الياباني يتخطى الفانتازيا والغرائبية لينسج عالماً  جديدا بين الواقع والوهم

الروائي الياباني هاروكي موراكامي (غيتي)

لا يمكن أحداً أياً يكن، أن يلخص أو يحكي رواية من روايات موراكامي، وذلك لا يعود فقط إلى الفنتازيا التي يسوسها الروائي، بل ربما ليس لهذه الفنتازيا أي علاقة بذلك، وإنما لأن روايات موراكامي المحكمة على المستويين البناء الحكائي والمتن الحكائي، لا تحكي حكاية صافية، وإن بدا ذلك أحياناً عكس ذلك. ثمة في روايات موراكامي ما يظل ناقصاً، وهذا النقصان هو ما يخص هذا العالم. وحتى في القراءة وفي التفسير وفي التأويل يظل هذا النقصان حاضراً. وحين تسأل نفسك عن طبيعة هذا النقصان أو ماهيته أو شكله، فإنك لن تستطيع الوصول إلى محصلة يمكن اعتبارها نهائية أو صحيحة، لأن سواك سوف يخرج بمحصلة مغايرة.

وعلى الرغم من هذا كله، فإن هنالك ما يشبه التناقض ظاهرياً في ما سبق، حين نقر بالانسيابية في الحكي والسلاسة في القص وتتابع الأحداث. لا أحد من القراء يقول لنفسه مثلاً إن هذا الأمر في الحادثة الفلانية لا يمكن حدوثه أو غير معقول أو ليس منطقياً، مهما كانت الحادثة غريبة أو مفاجئة!

هنالك اندماج مطلق بين الواقع والوهم، أو ما نعتبره وهماً، فليس لدينا واقعياً أو علمياً للدقة، ما يمنع جرساً قديماً من الرنين وهو تحت الأرض. ليس لدينا براهين علمية صارمة تنفي هذا الاحتمال تماماً، وهو ما يحدث في  رواية "مقتل الكوماندتور". لم يؤكد لنا العلم أن هذا مستحيل، فقد قرأت قبل فترة وجيزة مقالاً، أو موجزاً علمياً يؤكد أن ذاكرة الإنسان تظل حية بعد موته الإكلينيكي لدقائق! لا أحد يعرف كيف توصل العلماء إلى هذه الحقيقة، كيف لمسوا أو تيقنوا من أن ذاكرة الميت تظل تعمل لدقائق بعد الموت! لكنها تبدو حقيقة علمية كما قرأت.

يقول موراكامي على لسان إحدى شخصياته، إننا كبشر نستخدم من قشرة الدماغ مقدار 10 في المئة فقط، وإننا لو استخدمنا البقية الباقية كلها لمحت الفنتازيا والأوهام والأحلام والهلوسات وما شابه ذلك. وعلى ما يبدو فإن موراكامي يتكئ على الـ 90 في المئة في عالمه الروائي، وهو ما تبدى لنا في "كافكا على الشاطئ" وفي ثلاثيته "1984"  الساحرة.

 

من المؤكد أن القارئ يتساءل وهو يقرأ رواية كهذه أو بعد انتهائه منها، عن أفكار ومفاهيم وإجابات وتفسيرات لما جاء في الرواية. أي أن القارئ سوف يتعامل مع الرواية كحكاية لها مغزى يشبه الحكمة القاطعة. ألا يختصر الكثيرون رواية غسان كنفاني"عائد إلى حيفا" بالجملة الأخيرة التي يقولها الابن لأبيه "الإنسان قضية"؟ هنالك كثير من الروايات التي يمكن المرء تلخيصها أو اختصارها أو الخروج منها بانطباع عام ومعروف جداً، كأن نكتب رواية تخبرنا في النهاية أن الصهيونية حركة عدائية مثلاً. لا تُكتب الروايات لأجل هذا أبداً، لكنها تُكتب لتنبهنا إلى أننا كما قال المتنبي "على قلق كأن الريح تحتي"! وهنا ستنهال عليك المطارق، من أنا؟ وإلى أين أمضي؟ ومن هم الآخرون؟ وماذا يفعلون في حياتي؟ وماذا يريدون؟ بل وماذا أريد أنا تحديداً؟ ما هو شكل الحياة التي أرغب فيها؟ هل أفعل هذا أو ذاك؟ ولماذا؟ مثل هذه الروايات هي التي تشغلنا وتمتعنا في الوقت نفسه. موراكامي لا يكتفي بالفانتازيا والغرائبية، وإنما ينسج عالماً ممتعاً يرينا أن ثمة مقدرة ما على تغيير العالم بين يوم وليلة، ليس بالضرورة أن تنشب الحروب لنغير العالم، يكفي أن نقرأ رواية أو بعض الروايات لنبدأ التفكير بطريقة مغايرة لماضي حياتنا. لنبدأ مساراً مختلفاً عن المسارات المتشابهة التي لطالما اتبعناها من قبل، بحكم التقليد أو الجينات أو التأثير أو الركون إلى السلامة.

أبطال موجودون بيننا

من هم أبطال موراكامي؟ أناس عاديون موجودون بيننا نراهم ويروننا، ونقيم مع كثير منهم علاقات يومية، ونستشيرهم ويستشيروننا ونمضي معهم ليلة رأس السنة ولا نفكر في ما يخفون عنا، لأن لكل منا هامشاً خاصاً لا يعرفه سواه. علينا أن ندرك ذلك حين نقرأ هذا المبدع الكبير. وفي هذا الهامش الخاص جداً بنا يتحرك موراكامي. قد يصف لنا سهرة عيد الميلاد، لكنّ لديه هدفاً مختلفاً عن الوصف المجرد. قد يحكي الأحداث كما يحكيها شخص آخر، ولكننا نشعر معه دائماً بهذا النقصان، نشعر أن ثمة ما لم يقله لنا، أن ما وراء الوصف لغزاً غامضاً أو سراً عميقاً علينا أن نفكر فيه. إنه يستخدم الكلمات ذاتها، الأبجدية نفسها التي نستخدمها جميعاً، لكن لديه طريقة مغايرة في الحكي تشعرنا بوجود هذا النقصان وأهميته.

بطل رواية "مقتل الكومونداتور" هذه رسام شاب درس الفنون وتخرج ولم يجد وظيفة، فاختار رسم البورتريه مقابل ثمن يؤمن به قوت يومه. يتزوج ثم ينفصل عن زوجته بعد ست سنوات من دون أن ينجب. يخبرنا أن له شقيقة أصغر منه بثلاث سنوات ماتت إثر عيب خلقي في القلب. يوفر له صديق منزلاً قديماً كان لأبيه الرسام المعروف في اليابان. وخلال إقامته في المنزل تدور أحداث الرواية التي يستخدم فيها الفلاش باك ليخبرنا بشيء من ماضيه، ويتحرك أفقياً في بقية الرواية، حيث تصادفه بعض الحوادث غير العادية، التي لا يجد لها تفسيراً واقعياً أو علمياً كحكاية رنين الجرس.

من الطبيعيي أن يقوده التفكير في ما يحدث له بشكل عام، إلى التفكير في ما هو أبعد من الحادثة. ففي حال عادية كان يمكن المرء أن يلقي بالعبء كله على الغيب أو ما نسميه الميتافيزيقيا، وهي طريقة سهلة ويسيرة للتخلص من عقبة أو مشكلة ما. لنتخيل شخصاً يرى بين ليلة وأخرى في الحلم شخصية لم يرها من قبل، لكنه يراها في اليوم التالي وهو يتناول الغداء في مطعم شعبي مثلا! إنه أمر يحدث  لكثيرين ممن يرون أناساً غرباء في أحلامهم، ثم يقابلونهم في اليوم التالي مباشرة على الرصيف أو في السوبر ماركت. نحن في العادة ننسى، نخبر أصدقاءنا وقد يعيد بعضنا قراءة فرويد أو يونغ، ثم تمضي الحياة كما كانت عليه وننسى الحلم والواقع الذي تلاه. الفرق هو أن أبطال موراكامي لا ينسون، بل يواصلون التفكير في الأمر، ما يقودهم إلى معارف جديدة، أو استنتاجات غريبة لم تكن في الحسبان، ولا حتى بالنسبة إلينا نحن كقراء.

هنالك أمر آخر على درجة عالية من الأهمية، وهو المصادفات في عالم موراكامي. فنحن نعرف أن التراجيديا اليوناية قائمة على المصادفات، ولكن الفارق هو أن تلك المصادفات الإغريقية موظفة لخدمة الأقدار التي اتخذتها آلهة الأوليمب. بمعنى ما فإن المصادفات الإغريقية هي القدر الإغريقي نفسه. بينما عند شكسبير تبدو المصادفات هي الطريق إلى القدر غير المعروف لا كالتراجيديا الإغريقية، حيث المصائر معروفة مسبقاً، وعليه فإن المصادفات فيها لا تشكل مفاجآت كبيرة كما هي الحال عند شكسبير.

يمكن القول إن موراكامي يجمع بين الاثنتين، التراجيديا الإغريقية، والتراجيديا الشكسبيرية، خصوصاً بعد قراءة أكثر من عمل روائي له. فالمصادفات كما عودنا موراكامي ليست عابرة، كما أنها ليست أقداراً مبرمة كما عودنا الإغريق. أي أننا بتنا نعرف أن المصادفات هنا ليست سطحية أو هامشية، ولكننا لا نعرف إلى أين تقودنا. إنها قطعاً تأخذنا إلى مكان ما غير معروف وغير مألوف، وليس بالضرورة أن يكون المصير تراجيدياً مثل شكسبير. لكن الروائي لا يكتفي بها. فحين ينزل في البيت الذي كان مهجوراً لرسام ياباني شهير، يبدأ تدريجياً في تعريفنا بشخصية غريبة. يبدأ بمنزل أبيض فخم قائم على التلة المقابلة لمنزله على الجانب الآخر للوادي، ثم يبدأ في رسم ظل أو هيكل للشخصية التي تعيش في ذلك المنزل، ثم يعرفنا به حين يلتقيان، وتبدأ بينهما شبكة من العلاقات غير المفهومة تماماً، وإن بدا بعضها عادياً.

وكما كانت هذه إحدى مصادفات "مقتل الكوماندتور" فإن رنين الجرس ليلاً بخفوت يشكل مصادفة مهمة أخرى. وهي التي تقودنا إلى حكايات الرهبان البوذيين الذين يبحثون عن النيرفانا، ولو اتخذ الشكل الخارجي شكل انتحار غريب. لقد توصل إلى شيء من النقصان، وهو أنهم بهذه الطريقة يخرجون من دائرة الحياة والموت. فالميت يعود ليحيا في شكل آخر ليموت بطريقة مختلفة ثم يعود وهكذا. هؤلاء الرهبان يختارون هذه الطريقة بجرس في اليد تحت الأرض، ويظلون يدقون الجرس إلى أن يتحولوا إلى ما يشبه المومياءات، فلا يموتون كما يموت البشر، بالتالي لا يعودون إلى حياة ثانية. ولكن هذا ليس كافياً بالطبع، حتى لو كان كذلك عند الرهبنة البوذية.

ملامح داخلية

وإذا كانت الشخوص عادية وحكاياتها عادية ظاهرياً، فإنها لدى الرسام ليست كذلك. فهو حين يرسم بورتريهاً خاصاً "لأشخاص له علاقة غامضة بهم" لا يكتفي بالملامح الخارجية ليخرج البورتريه كصورة مرسومة بالحبر أو الألوان. وعلى سبيل المثال فإنه حين رسم جاره الغامض في البيت الأبيض الفخم، كانت كتلة الألوان كثيفة إلى الحد الذي يجعل الملامح تطل من العمق. الملامح نفسها لكن هنالك شيئاً مختلفاً يختبئ في أعماق الرسام. لم يظهره بالطبع، وهو ما أسميناه بالنقصان الخاص بموراكامي.

شيئاً فشيئاً يبدو موراكامي في سرده كمن يقشر صخرة لاستخراج تمثاله الخاص. لا يستعجل الأمر بتاتاً، ولهذا تبدو روايته طويلة بالطبع. فبعد لأي نكتشف أن الجار الغامض، يؤكد للرسام أن فتاة في الثالثة عشرة من عمرها ربما تكون ابنته، وهي تتردد على مدرسة الفنون التي يعطي فيها الرسام دروساً للصغار والكبار. ثم يتلو على الرسام قصة الفتاة وعلاقته بأمها قبل ثلاثة أشهر من زواجها، وولادتها بعد زواج أمها بسبعة أشهر! قد تبدو قصة عادية وهي كذلك، ولا يبدو أن ثمة علاقة للرسام بالأمر، إلا حين يطلب الرجل الغامض من الرسام أن يرسم بورتريهاً لمن يفترض أنها ابنته. وبعد ثلاث مسودات للوجه يكتشف الرسام أن في الأمر لغزاً جديداً، ومع التفكير العميق يكتشف أن الفتاة تشبه شقيقته التي ماتت، وهي في الثانية عشرة، وهذه الفتاة الآن في الثالثة عشرة! ماذا يعنيه ذلك؟ هذا ما لا نعرفه حتى الآن، ولا نعرف كيف يمكن أن تكون هنالك علاقة جينية مثلاً بين الفتاتين. وهذه إحدى ميزات موراكامي الأخرى وأعني عدم التوقع مطلقاً!

وعلى الرغم من كل ما قلناه حتى الآن، إلا أننا لم نأت على ذكر الكوماندتور الذي أخذت الرواية اسمه عنواناً لها. وهو أمر فانتازي على إطلاقه. فثمة لوحة للرسام القديم صاحب المنزل، يعثر عليها الرسام الشاب ويتأملها. إنها لوحة أوبرا دون جيوفاني لموتسارت. الفنتازيا تكمن في إقامة علاقة مباشرة بين الكوماندتور والرسام الشاب، وهي بالطبع علاقة خاصة جداً، لا يعلم بها أحد ولا يمكن لأحد أن يكتشفها. هل هذا ممكن؟ أعني أن تخرج شخصية من لوحة لتتحول إلى كائن أثيري/ واقعي؟ ربما نعم وربما لا. هذا يعتمد على الـ90 في المئة من قشرة الدماغ التي أكدها الرسام من قبل. ولكن السؤال الأهم هو، لماذا تنشأ هذه العلاقة؟ ومن يحتاجها أكثر؟ الرسام أم الكوماندتور؟ ما سنعلمه من الكوماندتور هو ما سوف يخبرنا ربما بالإجابة. كما أن تساؤلاتنا هنا لا ينبغي لها أن تكون واقعية أبداً أو تماماً، ولكنها مجرد إشارة إلى قارئ قد يفكر بالأمر من هذه الزاوية.

المزيد من ثقافة