Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مع رحيل جولييت غريكو الأغنية الفرنسية تنكس رايتها

سارتر كتب لها قصيدة ومايلز دايفيس وقع في حبها وقال ماكرون أن "وجهها وصوتها سيرافقان حياتنا طويلاً"

جولييت غريكو رمز الأغنية الفرنسية (موقع المغنية)

جولييت غريكو، سيدة الأغنية الفرنسية وعميدتها، غابت ليل الثلثاء عن عمر 93، بعد مسيرة فنية حافلة وحياة عاشتها على أوسع نقاط. عاشت بحرية، الحرية التي تتغنى بها نصوصها التي لا يزال بعضنا يدندنها. من الصعب الانطلاق في الحديث عنها من نقطة محددة، فسيرتها متشعبة، فيها الخاص والعام، الفنّي والشخصي، التاريخ الكبير والصغير، وغالب الظن أن غريكو كانت ثمرة لهذا كله، نتاج زمنها، لا بل الأزمنة التي عاشت وغنّت فيها. "شغف، معارك، ضحك كثير"، هكذا حاولت تلخيص مسيرتها. من حقنا أن نراها أكثر من ذلك بكثير من جانبنا. 

الفرنسيون وغير الفرنسيين الذين جايلوها عشقوها، صوتاً وحضوراً وشخصية وأناقة، حد أن جريدة "ليبراسيون" خصصت لها غلافها صباح الخميس مع عنوان "جولييت، كنّا نحبّكِ…"، في اشارة ربما إلى أغنية "لا جافانيز" لسيرج غينسبور التي أدتها وفيها تقول "أحببنا بعضنا "بعضاً". أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فغرّد قائلاً إن وجهها وصوتها "سيرافقان حياتنا طويلاً". 

غنّت غريكو لكثير من شعراء يعتبرون من رموز الأغنية النصية في فرنسا، نوع غنائي قوامه قصيدة طويلة، اشتهر به جاك بريل وجورج براسنس وليو فيريه وشارل أزنافور وغيرهم. كبار الشعراء كتبوا لها: سيرج غينسبور وجاك بريفير وبوريس فيان، وكانت ملهمة البعض منهم. عاشت غريكو لأجل الفنّ. هذا ما أعلنته غير مرة. كانت تقول إن الغناء هو السبب الذي يبقيها على قيد الحياة. ولدت في مونبولييه، أمّها وأختها وهي كنّ من المقاومات، واعتقلن على يد الغستابو الألمانية في العام 1943، وتم اقتيادهنّ إلى المعسكرات، قبل أن يُطلق صراح الشابة جولييت بسبب صغر سنها. فجأةً، وجدت نفسها في باريس من دون أي مال في جيبها وبلا سقف يؤويها، فطلبت المساعدة من السيدة التي كانت معلّمة اللغة الفرنسية قبل الحرب. 

بدأ صيتها يطير بعد الحرب، حينما تحررت باريس من الألمان، يوم كانت في الثامنة عشرة. الكلّ يجمع على أن كلّ شيء بدأ في حي سان جيرمان ديه بريه، لمّا احتكت بالحياة الثقافية والفنية الطاغية على الضفة اليسرى لمدينة الأنوار، فباتت تجسّد واحدة من أرواحها الحية. بسرعة، وجدت نفسها في أجواء الفنّانين والصعاليك، وكأنها انتمت إلى هذا المجتمع طوال حياتها: درست التمثيل، وصعدت على خشبة المسرح، وأذاعت برنامجاً في الراديو يُعنى بشؤون الشعر. هناك في سان جيرمان، من داخل قبو تحول إلى كاباريه، أغوت كثيرين من أصحاب الكلمة والفكر. موسيقى، رقص ونقاشات فلسفية طويلة… هكذا كانت الأجواء وقتها في القبو، فبات مقصداً لهواة النوع والفضوليين في مدينة محررة حديثاً تعيش غلياناً يزحف إليها الفكر الوجودي. أغوتهم بجمالها، وطباعها، وروحها، مثلما أغوت الملايين من الناس العاديين من بعدهم.

الإنطلاقة الحقيقية

عندما أصبحت معروفة في الأوساط، من دون أن يكون لها أي عمل فني تفخر به، ساعدها سارتر في انطلاقتها الحقيقية محاولاً أعطاء شرعية لهذه الشهرة التي وقعت عليها من السماء. قادها إلى الغناء، أهداها نصّاً صغيراً من تأليفه، وكلّف التلحين لجوزف كوزما. فكانت أغنية "حيّ بلان مونتو" التي صدرت في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1950. أغنية كلّ ما فيها فرنسيٌ قحّ، من الكلمات إلى الموسقى فالأداء، علماً أن سارتر كان كتبها لمسرحيته "وي كلو"، ولكن لم يستخدمها. الأغنية تغمز من قناة الثورة الفرنسية والآلات التي يستعملها الجلاد على المقصلة، وتدين الإعدام. أغنية ثانية، كلمات ريمون كونو بعنوان "لو تخيلتَ نفسك"، ساهمت أيضاً في شهرة غريكو.

في الفندق الذي أقامت فيه والذي توسّط لها سارتر كي تحصل فيه على غرفة، تعرفت ذات يوم على عازف الجاز الأميركي الأسود مايلز دايفيس، فكانت بينهما قصّة حبّ عاصفة. قبل ذلك، عاشت غريكو علاقات كثيرة، لم يصمد أي منها وقتاً طويلاً: من الكاتب ألبير كامو إلى المنتج دارل زانوك مروراً بالمغني ساشا ديستل. لاحقاً، تزوجت الممثّل فيليب لومير (ثلاث سنوات) والممثّل ميشال بيكولي (تزوجا 11 سنة). لكن، قصّتها مع دايفيس كانت مختلفة، إلا أنها لم تنته بزواج. هو لم يرغب في أن تكون "زوجة أميركي أسود"، خصوصاً أن الزواج بين الأعراق كان لا يزال في حينها ممنوعاً في الكثير من الولايات الأميركية. أما هي فلم تود مغادرة فرنسا. 

في الخمسينيات، شُرِّعت أمامها أبواب كثيرة لتثبت موهبتها والكاريزما التي كانت عليه، كأنما الحظ ابتسم لها: جولات دولية بدءاً من البرازيل وصولاً إلى نيويورك (حيث يُقال إنها خطفت قلوب الأميركيين)، جائزة عن أغنية "أكره الآحاد"، فأول حفل لها على خشبة الـ"أوليمبيا" الأسطورية (1954)، حد أن بوريس فيان أصبح مدير أعمالها وكتب لها أغنية "موسيقى ميكانيكية" (لحن أندره بوب)، تلتها أغاني مثل "شكوى التلفون" و"من بانتان إلى بكين" التي ساهمت في صعود نجوميتها لدى الجمهور العريض. 

 

في حياة غريكو، محطّات سينمائية أيضاً. المنتج الأميركي الأسطورة دارل زانوك، من أقطاب استوديوهات "فوكس"، هو الذي أدخلها إلى هوليوود، علماً أنها كانت مثّلت أدواراً كثيرة قبل التعرف إليه في أفلام لرونوار وملفيل ودوفيفييه وكايات، كما أنها أطلّت في فيلم "صباح الخير أيها الحزن"، أفلمة أوتو بريمينغر لرواية فرنسواز ساغان الشهيرة. وزانوك التي كانت تعرفت عليه عبر الممثّل مل فيرير ووقعت في حبّه، أسند إليها أدواراً في أفلام مثل "جذور الجنّة" (1958) لجون هيوستن (أفلمة لرواية رومان غاري)، حيث لعبت دور مينّا، نادلة تقع في غرام رجل فرنسي يحاول إنقاذ آخر الفيلة في أفريقيا الإستوائية قبل انقراضها التام. في فيلمها التالي، "فجوة في المرآة" لريتشارد فلايشر، شاركت التمثيل أورسون وَلز، لاعبةً دور سيدة متزوجة تخطط لقتل زوجها المحامي بمساعدة عشيقها. فيلم آخر قدّمته غريكو مع فلايشر، في عنوان "المقامرة الكبرى" (1961)، ختم تعاونها مع زانوك وأنهى علاقتهما.  

سنوات التكريس

الستينيات وبداية السبعينيات كانت سنوات تكريسها، بحيث أنه توسّعت رقعة جولاتها الغنائية. غنّت في إيطاليا وألمانيا وكندا واليابان (الدولة الأخيرة زارتها نحو 30 مرة). أدّت أغنيات لجاك بريل وليو فيريه وغي بيار، وقدّمت حفلاً موسيقياً مشتركاً مع الكبير جورج براسنس. لم تتوانَ عن التبرع بحفلات للطلاب والعمّال في ضواحي باريس. حاجتها الدائمة لتنوع نشاطها الفنّي، تماماً مثل مايكل لونسدال الذي رحل قبل أيام، حملتها إلى تجربة التلفزيون، فأُسنِدت بطولة "بيلفيغور أو أشباح اللوفر" (1965)، مسلسل صنع شهرتها لدى مشاهدي الشاشة الصغيرة. في هذه السنوات، أدّت أيضاً أشهر أغانيها: "جولي موم" (ألّفها وغنّاها ليو فيريه) و"انزعوا عنّي ملابسي" و"يجب الذهاب أبعد" أو "أنتظركم"، قبل أن تحاول كتابة بعض الأغاني بنفسها، مثل "زهور البرتقال"، تجربة لم تذهب فيها بعيداً، إذ انتهت بعد خمس أغاني فقط. 

طوال هذه السنوات، وضعت غريكو يدها في كلّ شيء: أغنيات من تأليفها، أغنيات من كتابة شعراء آخرين، أو استعادة لأغنيات آخرين. في الثمانينيات، أصدرت ألبوماً بعنوان "غريكو 83"، جمعت فيه نصوصاً لشعراء من خلفيات مختلفة كتبوا خصيصاً لصوتها. أغنية "أيام زمان" أشهرها، وكانت تلقيها في معظم المناسبات التي تحضرها. في السنوات اللاحقة، أصبح مسرح الـ"أوليمبيا" محطة رئيسية في مسيرتها. دائماً كانت تتجدد، تزيل قشور الزمن عن جلدها، وتعطي الفرص للشباب. عبرت أجيالاً عدة. أجيال عدة كتبت لها الأغنيات، أجيال عدة استمعت لها.  

صدح صوتها العذب والحنون طوال 66 سنة، أي بين 1950 و2016 (تاريخ اعتزالها في جولة وداعية عنوانها "شكراً")، على أعرق مسارح العالم وأوبراته. لم تترك عاصمة في دولة أوروبية، من إسبانيا إلى سويسرا، أو في الأميركتين الشمالية والجنوبية. منذ بداياتها، كانت، مع إديت بياف، من الفنّانين الفرنسيين القلائل الذين ملأوا الصالات بجمهور غير فرنكوفوني بالضرورة. حتى إن شخصيتها المشاكسة جعلتها تلقي أغنيات معادية للعسكر في إحدى حفلاتها في التشيلي أمام جمهور من… قدامى المحاربين!

في السنوات الأخيرة من حياتها، عاشت مأساة فقدان ابنتها الوحيدة التي خطفها السرطان عن عمر 62 سنة، ثم سكتة دماغية ألمت بها. كانت غريكو فنّانة طليعية سبقت زمانها فكراً وسلوكاً، وظلت متمسّكة بمبادئها حتى النهاية. جسّدت صورة المرأة الحديثة العصرية في المخيال الفرنسي، دور لم تفتعله البتّة. يكفي التمعّن قليلاً في كلمات "انزع عنّي ملابسي". أحبّت كثيراً، ولكن في النهاية استقرت مع جيرار جوانيست، عازف القيثارة الذي رافقها في حفلاتها. علاقتهما دامت ثلاثين سنة، حتى وفاته قبل عامين. أسابيع قبل رحيلها، كانت تقول لمجلّة "تيليراما" إنها مقاومة بطبيعتها، و"شخص يمتاز بكاريكتير سيّء"، وهذا في نظرها من حسناتها. 

المزيد من ثقافة