تعود الأموال القذرة العابرة للقارات والأنظمة المصرفية إلى الواجهة من جديد، بعد تسريبات وحدة التحريات المالية الأميركية المعروفة باسم "FINCEN"، وهو مكتب تابع لوزارة الخزانة الأميركية يقوم بجمع المعلومات وتحليلها لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والتهرب من العقوبات الاقتصادية والجرائم المالية الأخرى.
وتكشف الوثائق المسربة مضمون معاملات مشبوهة قيمتها 2 تريليون دولار، تم تحويلها عبر 2657 عملية مصرفية، اعتبرت 2121 منها تقارير لأنشطة مشبوهة بين الأعوام 2010 و2017.
حجم كبير لتسريبات هي الأولى من نوعها، خصوصاً أنها طالت 90 مؤسسة مصرفية، ولكنها لا تمثل أكثر من 0.02 في المئة فقط، من إجمالي 12 مليون وثيقة قدمتها المؤسسات المالية لشبكة التحقيق في الجرائم المالية الأميركية.
اعتبرت "FINCEN" أن نشر وثائق سرية قيد التحقيق قد يؤثر في الأمن القومي للولايات المتحدة، وعلى سير التحقيقات المستمرة، ويهدد سلامة المؤسسات والأفراد الذين يقدمون التقارير.
وفيما تبين الوثائق المسربة بالأرقام والتواريخ والمواقع كيف تحركت الأموال، ما أحرج الهيئات الرقابية، اعتبرت المصارف عموماً والعربية منها خصوصاً، أنها ممتثلة للقوانين الدولية، ولا تشكل هذه التسريبات أي تهديد مباشر لعملها، بالرغم من أن نشر وثائق قيد التحقيق قد ينال من سمعتها عن غير وجه حق.
المصارف لا تدان عبر عميل مشبوه
ويلفت الأمين العام لاتحاد المصارف العربية، وسام فتوح، في حديث مع "اندبندنت عربية"، إلى أن هناك دولاً استحدثت وحدة للتحريات المالية (Financial investigation unit" (FIU"، ففي مصر مثلاً تسمى وحدة مكافحة غسل الأموال، وفي بيروت وحدة التحقيق الخاصة، وفي الكويت وحدة التحريات المالية.
وحدات عادة ما تكون تابعة للمصرف المركزي، وقد تتبع في بعض الدول الأخرى وزارة الداخلية كما في السعودية، أو وزارة المالية، وتتابع هذه الوحدات أي تقرير مشبوه يرفع من المصارف العاملة في الدولة.
في الولايات المتحدة تسمى هذه الوحدة "FINCEN"، وتكتسب أهميتها من واقع أن أكثر من 63 في المئة من التجارة العالمية تمر عبر الولايات المتحدة، أي عبر المصارف الأميركية المراسلة للبنوك المحلية في مختلف الدول، ما يتيح لـ "FINCEN" أن تجمع معلومات متقاطعة من دول ومصارف مختلفة.
أما عربياً، فيؤكد فتوح أن الشاغل الأكبر للمصارف العربية، هو إدارة الالتزام "Compliance"، نظراً لما تعرضت له المنطقة العربية منذ اندلاع ثورات الربيع العربي ونشوء منظمات إرهابية، فالمصارف العربية تطبق إجراءات أكثر تشدداً للتحقق من العميل كما العمليات المصرفية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويكشف فتوح أن المصارف العربية خصصت استثمارات كبيرة لتطبيق الالتزام الكامل بالمعايير الدولية، خصوصاً لجهة مكافحة تبيض الأموال وتمويل الإرهاب، كون أي خطأ أو تنفيذ لعملية يثبت أنها قذرة، قد يعرض المصرف للعقوبات أو الغرامات، وصولاً إلى خروجه من النظام المصرفي العالمي وإنهاء أعماله.
من هنا، يرى فتوح أن إدانة عميل أو عملية إن تمت، فهي لا تعرض المصرف تلقائياً للشبهات أو العقوبات. ويتوجه فتوح إلى الإعلام الذي قد يصدر أحكاماً حتى قبل صدور نتائج التحقيقات ويحذر من التشهير، فنشر أسماء مصارف واتهامها بتسهيل تحويلات أموال قد تكون قذرة، يسيء إلى سمعة المصرف ويعرضه للمخاطر.
أكثر من ذلك، يعتقد فتوح أن المصارف الأميركية المراسلة، على الارجح، تبلغ "FINCEN"، نظراً لقدراتها التي تفوق قدرة المصرف على تتبع عملية مشبوهة أو عميل تُطرح حوله علامات استفهام، كونها مرتبطة بالدول، فيما المصارف المحلية تعمل في نطاق دولتها فقط. ما يعني أن المصارف العربية لم تتحسس أية شبهة قبل القيام بالتحويلات.
ويشدد فتوح على أنه طالما لم يتخذ أي إجراء عقابي بحق المصارف أو العميل، فذلك يعني أن التحقيق ما زال مستمراً، وأن فرضية البراءة ما زالت قائمة، ولا يعتبر التبليغ دليلاً على ارتكاب مخالفة أو جريمة.
ويكشف فتوح أن 1 في المئة فقط من إجمالي التبليغات التي تصل إلى "FINCEN" يصدر بحقها عقوبات.
مصارف لبنان غير معنية بالتسريبات
تكشف جمعية المصارف في لبنان لـ "اندبندت عربية"، أن الأموال التي تحدثت عنها التسريبات، والتي مرت في النظام المصرفي اللبناني، لا تتعدى 132 عملية خلال أكثر من 15 عاماً، بقيمة 12 مليون دولار وصلت إلى لبنان، و87 مليون دولار خرجت من لبنان، فالمبالغ الواردة تعتبر ضئيلة جداً، أما المبلغ الذي خرج من لبنان فهو بمعظمه ناتج من تحويل قام به غازبروم بنك انفست (Gazprom Bank Invest)، وقد يكون ناتجاً من عملية بيع لأعمال المصرف في لبنان، ولذلك تعتبر جمعية مصارف أنها غير معنية بهذه التسريبات.
وتؤكد الجمعية أن المصارف اللبنانية ممتثلة بالكامل للأنظمة الدولية، وتقوم بشكل دوري بالتنسيق والتعاون مع هيئة التحقيق الخاصة التي تنسق مع المجموعات الدولية، مثل منظمة "Egmont" التي تضم وحدات الأخبار المالية من حول العالم.
العقوبات المالية قائمة منذ سنوات
عمدت السلطات الرقابية الأميركية خلال السنوات العشر الماضية إلى فرض كثير من العقوبات والغرامات على مؤسسات مالية ومصارف بإجراءات قد تكون مرتبطة بتحقيقات قامت بها "FINCEN"، فالعقوبات إذا ما ثبت تورط مصرف في عملية تسهيل لغسل أموال تكون نوعين، إما بتسوية نقدية تدفعها المصارف لوزارة الخزانة الأميركية، أو يضاف المصرف إلى لائحة العقوبات الأميركية، فيُصفّى ويخرج من النظام المالي العالمي.
أهم ما كشفته تسريبات "FINCEN"
أظهرت التسريبات أن هناك عشرات المصارف العالمية التي يشتبه في تورطها بأنشطة مالية غير قانونية، فمثلاً بنك "إتش إس بي سي" البريطاني سمح للمحتالين بنقل ملايين الدولارات من الأموال المشبوهة في أنحاء العالم، بالرغم من علمه من المحققين الأميركيين بوجود عملية احتيال، أما بنك "جي بي مورجان" الأميركي فسمح لشركة بنقل أكثر من مليار دولار عبر حساب في لندن من دون معرفة صاحبه، ثم اكتشف المصرف لاحقاً أن الشركة ربما تكون مملوكة لعصابة مدرجة في قائمة أكثر عشرة كيانات مطلوبة من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي، وكذلك أحد المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استخدم بنك "باركليز" في لندن لتجنب العقوبات الرامية لمنعه من التعاملات والخدمات المالية في الغرب، مع استخدام بعض الأموال في شراء أعمال فنية، أما "دويتشه بنك" فأجرى تحويلات لأشخاص يقومون بغسل الأموال القذرة للجريمة المنظمة والإرهابيين وتجار المخدرات.
أعادت تسريبات وثائق "FINCEN" الضوء إلى العمليات المصرفية العالمية وقدرتها على الحد من غسل الأموال القذرة، فيما الحرب على الإرهاب والتطرف والأنظمة القمعية في أوجها.
وأحرجت التسريبات وحدات المراقبة، فسارعت "FINCEN" إلى الإعلان عن مقترحات لإصلاح برنامج مكافحة غسل الأموال. وكشفت الحكومة البريطانية أنها تعمل على إصلاحات في نظام تسجيل الشركات، من شأنه أن يتطلب مزيداً من الضوابط على مديري الشركات لتضييق الخناق على الاحتيال المالي.