Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحيل الفرنسي البريطاني مايكل لونسدال ممثل الحب الواحد ومئات الأدوار

طوال 70 سنة من الوقوف على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا، لعب لونسدال في نحو 100 مسرحية و70 فيلماً تلفزيونياً و130 فيلماً سينمائياً

الممثل الفرنسي البريطاني مايكل لونسدال فائزاً بجائزة سيزار (موقع الممثل)

للممثل الفرنسي البريطاني مايكل لونسدال الذي رحل أول من أمس عن 89 سنة، طلّة يصعب نسيانها. تكفي رؤيته في حفنة من الأفلام كي يبقى وجهه صامداً في ذاكرة المشاهد أطول وقت ممكن. هل لهذا السبب، وجد نفسه وهو يتجه إلى فنّ التشخيص مغمض العينين في سن المراهقة؟ يصعب الانحياز إلى هذه الفرضية، ذلك أن الموهبة هي التي وفرت له استمرارية وأبقته في المشهد السينمائي لأكثر من 60 عاماً. حتى العام الماضي كان لا يزال ناشطاً، إذ شارك في فيلم قصير بعنوان "ديغاس وأنا" لأرنو ديه باليير.

عرف لونسدال بصفته فرنسياً، ذلك أنه ولد وعاش وعمل في باريس، إلا أنه في الحقيقة من أصول بريطانية. وتمت فرنسة اسمه ليصبح ميشال في بعض الأحيان بدلاً من مايكل. ظل ينتمي إلى الثقافتين، البريطانية والفرنسية، وقد رأيته يقفز بسهولة مدهشة من لغة إلى أخرى في أحد اللقاءات الصحافية التي جمعتني به قبل سنوات في البندقية. هو بريطاني من جانب والده الذي كان عسكرياً في الجيش. لكن بعد فترة من الإقامة في فرنسا، أخذ زوجته وابنه الصغير ورحل بهما إلى لندن. وحطّ القدر بمايكل الصغير في الدار البيضاء، حيث اعتاد أن يشاهد أفلامه الأولى في العروض السينمائية المخصصة للجيش. وخلال إقامته على أرض المغرب لنحو عشر سنوات، بدأ يحتكّ بالفن، فقدّم برنامجاً إذاعياً للأطفال وهو لا يزال في الـ12 من عمره.  

يحكى أنه اكتشف التمثيل عن طريق روجيه بلان يوم عاد إلى فرنسا وكان آنذاك بلغ 16 سنة. بلان كان ممثلاً ومخرجاً معروفاً جسّد أدواراً في أكثر من سبعين فيلماً ومسرح بيكيت وعرّف الجمهور الفرنسي إلى جان جينيه. ولكن لم يكتشف السينما من خلاله بل المسرح، المكان حيث تم تأهيل (ومنه انطلق) معظم الأسماء الكبيرة في السينما. ربما هذا الذي شجّعه على الانضمام إلى صفوف تمثيل الممثلة الفرنسية من أصل روسي تانيا بالاشوفا. في الدورة التي تسجل فيها (مطلع الخمسينيات)، كان يجلس على مقاعد الدراسة أيضاً أشخاص مثل دلفين سايريغ ولوران ترزييف وجان لوي ترانتينيان وستيفان أودران. أيّاً يكن، يمكن الجزم أن حياة لونسدال كانت سلسلة لقاءات أوصلته إلى حيث وصل. 

في الـ22 من عمره، اعتنق لونسدال المذهب الكاثوليكي. عموماً، الديانة غيرت مجرى حياته كما يكرر في كل مناسبة. هناك في وجوده ما قبل الديانة وما بعدها. يعترف في مقابلة مع "لو جورنال دو ديمانش" بأنه كان يعيش عيشاً أنانياً، والإيمان جعله يعلم ما هو الغفران. هذا الإيمان مرتبط عنده بعملية الخلق، في المجالين اللذين اجتهد فيهما، أي التمثيل والفن التشكيلي. وبسبب التزامه الديني، رفض لونسدال المشاركة في "آمين" لكوستا غافراس، الفيلم الذي اتهم البابا بيوس الثاني عشر بغضّ الطرف عن جرّ اليهود إلى المحرقة خلال الحرب العالمية الثانية، وهي تهمة يعتبرها باطلة ولا أساس لها من الصحة. ويروي لونسدال أنه قابل البابا يوحنا بولس الثاني خلال إخراجه إحدى المسرحيات، وقد همس في أذنه كلاماً لم يفهمه، إلا أن نعومة يد الحبر الأعظم عندما سلّم عليه أذهلته.   

إطلالات لافتة

إذا كان روجيه بلان هو الذي عرّفه على التمثيل وأدخله إلى المسرح، فالفضل الأكبر لشهرته في السينما يعود إلى السينمائي الفرنسي الكبير فرنسوا تروفو الذي كان أسند إليه دورين ممتازين في فيلمين شهيرين: "العروس كانت ترتدي الأسود" عام 1968 و"قبلات مسروقة" بعده بأشهر، علماً أنه لم يضطلع في أي منهما بدور البطولة. قبل هذين الفيلمين، كانت له إطلالات صغيرة أو عابرة في عشرات الأفلام، إلا أن شغله مع تروفو كشف النقاب عن قدراته التمثيلية. "العروس كانت ترتدي الأسود" كان أفلمة لرواية بوليسية كتبها وليم أيريش، بطولة جانّ مورو، تدور أحداثها حول خمسة رجال يقتلون العريس وهو يخرج من حفل الزفاف. حكاية انتقام، يطرح فيها الرجال الخمسة رؤيتهم للمرأة المثالية. في فيلمه الثاني مع تروفو، "قبلات مسروقة"، الذي تولّى بطولته جان بيار ليو وكلود جاد، ويعدّ من ضمن سلسلة مغامرات أنطوان دوانيل وقد استوحاه تروفو من رواية لبالزاك، لعب لونسدال دور مدير متجر أحذية مصاب ببارانويا غريبة تجعله يعتقد أن ما من أحد يحبّه فيكلّف رجل أمن من المباحث لكشف هذا السر. ودوانيل الذي يلعب دوره ليو هو رجل المباحث الذي سيقوم بالمهمة قبل أن يقع في غرام زوجة هذا الرجل غير المحبوب.  

في موقع "قبلات مسروقة"، تعرّف لونسدال على الممثلة دلفين سايريغ (رحلت عام 1990 عن 58 سنة)، فسرقت قلبه تماماً، إلا أنها كانت مرتبطة. في كتاب "قاموس حياتي" الصادر عام 2016، روى أخيراً سبب عزوبيته طوال حياته ولمَ لم يقترن بامرأة ولم ينجب. قال: "عشت مأساة عاطفية وانقلبت حياتي رأساً على عقب. المرأة التي وقعت في غرامها لم تكن حرّة، كانت مع الممثل سامي فراي. لم أحاول أي شيء، احتراماً. ولكن، لم أستطع أن أحبّ شخصاً آخر بعدها. كانت هي أو لا أحد غيرها. ولهذا لسبب، ما زلت وحيداً وأنا في الخامسة والثمانين من العمر". بعد فيلم تروفو، عادا والتقيا في مسرحيات وأفلام عدة، أبرزها "أغنية هندية" (1975) لمارغريت دوراس. كان لونسدال يقول عن صوتها إنه شبيه بصوت آلة التشيللو.  

70 عاماً

طوال نحو 70 سنة من الوقوف على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا، لعب لونسدال في نحو 100 مسرحية و70 فيلماً تلفزيونياً و130 فيلماً سينمائياً، متنقلاً بين سينما المؤلف قليلة الانتشار وسينما ذات توجّه جماهيري. إتقانه اللغة الإنجليزية فتح أمامه أبواب العالمية. لا ينسى مثلاً بدور الشرير في "مونرايكر" للويس جيلبرت عام 1979، أحد أفلام سلسلة العميل السري البريطاني جيمس بوند، إذ جسّد دور ملياردير أميركي يصنع مركبة فضائية ويجد نفسه في مواجهة بوند. مسيرته الدولية حملته أيضاً إلى "اسم الوردة" (1986) إلى جانب شون كونري في أفلمة جان جاك آنو لرواية أومبرتو إيكو. فيه اضطلع بدور الراهب الذي يحاول كشف سرّ موت الرهبان في دير في شمال إيطاليا. شارك كذلك في "ميونيخ" لستيفن سبيلبرغ عن مطاردة الموساد الإسرائيلي للفلسطينيين الذين كانوا وراء تنفيذ عملية ميونيخ خلال الألعاب الأولمبية عام 1972.   

واحد من آخر أفلامه يعدّ أيضاً واحداً من أعظم أدواره: دور الأب لوك دوشييه في "رجال وآلهة" (2010) لكزافييه بوفوا. أفلمة بديعة وهادئة ومنصفة لقصّة الرهبان الفرنسيين السبعة الذين قتلتهم الجماعة الإسلامية في الجزائر عام 1996، قبل أن يتبيّن أن الجيش الجزائري هو خلف الجريمة. كل الممثلين الذين شاركوا في ترسيم هذه اللوحة الإنسانية المؤثرة، رفعوا الفيلم بأدائهم، ومن بينهم لونسدال الذي فاز عن دوره فيه بجائزة "سيزار" أفضل دور ثانوي. 

في السينما، لعب في إدارة كبار السينمائيين، من لوي مال وجان بيار موكي إلى جوزف لوزي ودينو ريزي وكلود سوتيه ولويس بونويل، فعبوراً بجان أوستاش ومارغريت دوراس وجيرار أوري وميشال دوفيل ومانويل دو أوليفيرا وكاترين بريا وآلان رينه وحتى أورسون ولز في "المحاكمة" (عن كافكا). كان سيّد الأدوار القصيرة الدامغة التي تمرّ تاركةً بصمتها على الفيلم. في المسرح، يجب ألا ننسى أن تجاربه سواء كممثل أو مخرج، مميّزة ومتنوعة لا مجال لتعدادها هنا، إذ إنه ارتبط بعدد كبير من النصوص الكلاسيكية والمعاصرة، من بيكيت لجورج بيريك فكوكتو. له أيضاً عشرات الكتب، أبرزها "الحبّ سينقذ العالم"، العنوان الأكثر أهلاً لاختزال لونسدال، شخصاً وفنّاناً. 

المزيد من سينما