Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الأصدقاء الطيبون" ما زال الأعظم في تاريخ أفلام العصابات

الذكرى الثلاثين لظهور عمل سكورسيزي الكلاسيكي والصادم والجامح

قبل ثلاثين سنة، تجرأ مارتن سكورسيزي على تقديم صورة المافيا بعين الحياة اليومية لأفرادها، فصنع تحفة سينمائية كلاسيكية (ويكيبيديا.أورغ)

وصل المخرج مارتن سكورسيزي إلى "مهرجان البندقية" للأفلام مع التهاب في حنجرته وألم حاد في معدته. حدث ذلك في 1988، قبل سنتين من تحقيق تحفته السينمائية في أفلام العصابات، "الأصدقاء الطيبون" Goodfellas.

في المقابل، لم يكن أفراد عصابات بروكلين الصاخبون سوى آخر من يشغل تفكيره، حين لامست عجلات طائرته الخاصة أرض مطار "ماركو بولو". وآنذاك، جاء سكورسيزي إلى البندقية بهدف إطلاق فيلمه "الإغواء الأخير للمسيح" The Last Temptation of Christ الذي يُعيد فيه على نحو استفزازي، سرد رواية "العهد الجديد" من الكتاب المقدس. ووسط مخاوف من أن يأتي متشددون مسيحيون بردود أفعال بغيضة، وضعت السلطات خطة قضت بنشر 100 عنصر من الشرطة على خيولهم لتشكيل طوق حول ساحة السينما في البندقية، في أمسية عرض الفيلم.

وكذلك بدت الأجواء مشوبة بالحذر. وقبل ساعات من عرض "الإغواء الأخير للمسيح"، نظم أحد الأساقفة المنبوذين من الكنيسة، مسيرة احتجاجية عبرت ساحة "سان مارك". وحمل أشخاص خلف الأسقف صليباً خشبياً زُين بعبارات تقول "فيلم سكورسيزي تجديفي".

وآنذاك أيضاً، بدت أعصاب المخرج متوترة، أثناء تنقله في أرجاء بهو الفندق القريب من ساحة السينما. وازداد توتره حدة حين خرج من الظلال شاب تقدم نحوه ماداً يده إليه. وانقض عدد من حراس الأمن على الشاب، الذي سارع سكورسيزي وانتبه أنه ممثل صاعد يفكر في منحه دوراً في فيلمه القادم. في ما بعد، وفي حديث مع مجلة "جي 2" G2 2010، سيروي سكورسيزي عن ذلك الشاب وتلك الواقعة، "شاهدت الممثل راي ليوتا في فيلم جوناثان ديمي "شيء وحشي" Something Wild. وقد أعجبني فعلاً. وُجد حولي عدد كبير من الحراس والمرافقين. تقدم راي نحوي في بهو الفندق فاندفع إليه الحراس، وبدرت منه ردة فعل مثيرة للاهتمام، إذ ثبت في مكانه، ما جعلهم يفهمون أنه لا يشكل تهديداً. أعجني تصرفه في تلك اللحظة".

ولاحقاً، صور فيلم سكورسيزي التالي، "الأصدقاء الطيبون"، طبعاً. وقد أثمرت آنذاك وقاحة ليوتا وجرأته، إذ تخطى المخرج تردد منتجي الفيلم واختبر أداء الشاب (13 سنة آنذاك) كي يؤدي دور البطولة. واليوم إذ يُحتفى بتاريخ 19 سبتمبر (أيلول) الذكرى السنوية الثلاثين لفيلم "الأصدقاء الطيبون"، إذ حضر ذلك الممثل إلى البندقية مع فيلمه الجديد المستقل، "دومينيك وأويجين"، فلسوف يعمل من دون شك على استعادة تلك التجربة مع سكورسيزي، ويحتفي بحسن حظه الذي أوصله إلى أن يغدو نجماً بين النجوم.

وكذلك قد لا يحتاج "الأصدقاء الطيبون" إلى تجديد الإشادة به، والتذكير بأنه تحفة سينمائية. إذ لم يسبق لروبرت دي نيرو وجو بيشي أن أديا أدواراً أفضل مما قدماه في هذا الفيلم. وكذلك كانا مُرشدين لليوتا الذي جسد دور هنري هيل، العضو الجديد في العصابة. (وآنذاك، قلق دي نيرو بشأن أن يكون عمره غير مناسب لدوره في ذاك القسم من الفيلم، الذي عُرض من قبل على الممثل جون مالكوفيتش).

وقد جاء العنف في الفيلم صادماً، والشتائم متواصلة، ليُحقق "الأصدقاء الطيبون" رقماً قياسياً جديداً بقنابله الشتائمية التي بلغت 300 كلمة نابية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 

واستطراداً، لن يتجاوز ذلك الرقم إلا سكورسيزي نفسه في فيلم "كازينو" عام 1995، الذي شكل تتمة رمزية لـ"الأصدقاء الطيبون". ومن دون شك، تبقى مشاهدة هذا الفيلم مصدراً لا ينضب للمتعة والإثارة، فيُفهم في ذلك السياق سبب خطفه الأضواء من "العراب" The Godfather، بجزئيه الأول والثاني، ومن فيلم سيرجيو ليوني "حدث ذات مرة في أميركا" Once Upon a Time in America. إذ بقي هذان الفيلمان يمثلان ملحمتين متقشفتين من نمط أفلام العصابات، وقد ظلا عالقين في عظمتيهما المأساوية.

في المقابل، جاء "الأصدقاء الطيبون" هازئاً ومُعربداً ومَرحاً. في الأصل، كانت مجموعة من مشاهده الأجمل هي مشاهد كوميدية. استهزاء موريس "موري" كيسلير من دعايات الشعر المستعار، مثلاً. وسخط رفاق هنري في العصابة من انفصاله عن زوجته. وحالة الهلع من الكوكايين التي تصيب هنري هيل في القسم الثالث الختامي من الفيلم.

لقد أدرك سكورسيزي الطريقة الفضلى في جذب المشاهدين نحو ذاك العالم المظلم والبغيض، عبر المزاح والأفكار البالغة العبث. وجاءت تلك المواقف الطريفة لتؤكد أيضاً إصرار سكورسيزي على عدم صنع مجرد فيلم آخر من أفلام العصابات، السريعة وذات الإيقاع الناشط. فذاك النمط من الأفلام لم يعره المخرج اهتماماً كبيراً على مدار تجربته كلها. صحيح أنه استلهم في فيلمه "شوارع لئيمة" Mean Streets 1973 نشأته الصعبة في "ليتل إيتالي" ("إيطاليا الصغرى") Little Italy بمدينة نيويورك، وسبق له أيضاً قبل ثلاث سنوات، أن تناول الجانب المظلم من الحياة في مدينة نيويورك عبر فيلم "سائق التاكسي" Taxi Driver. في المقابل، دفعه قضاء وقت ما في صغره مع "أشخاص حكماء"، حين بلغ سن الرشد، إلى السعي للابتعاد عن ذلك العالم قدر المستطاع.

ويتمثل أحد الأسباب التي جعلته مهجوساً بذاك الاحتمال، الذي لم يكن بعيداً منه لو سارت الأمور على نحو مختلف بعض الشيء، في أنه كان قاب قوسين أو أدنى من أن ينتهي منتعلاً حذاء هنري هيل اللامع. وكذلك يمثل هنري بعينيه البارقتين، شخصية مصدرها رجل عصابات حقيقي في بروكلين يحمل الاسم نفسه، ارتبط بعائلة لاكتشيز الإجرامية (إحدى "العائلات الخمس" في عالم نيويورك السفلي). وقد شُمِل هيل في برنامج حماية الشهود في 1980، إذ غدا مخبراً يعمل لدى "مكتب التحقيقات الفيدرالي"، الذي فصله بعد سبعة أعوام، حين أُدين بتهريب الكوكايين.

وعلى تلك الشاكلة، سارت الأمور مع الأصدقاء الطيبين، أو سمهم ما شئت. حَكم رجال العصابات "ليتل إيتالي" في نيويورك، أيام نشأة مارتن سكورسيزي فيها. وكان أحد أفضل أصدقاء مارتن ابن زعيم عصابة محلي في المنطقة التي نشأ فيها. وعانى سكورسيزي من الربو فقضى معظم وقته داخل البيت يشاهد التلفاز. ولو أنه خرج إلى الشوارع حينها، كما فعل هنري هيل الشاب في مطلع الفيلم، فمن كان يعلم أين سينتهي به المصير؟

بصرف النظر عن الكوميديا، خاض فيلم "الأصدقاء الطيبون" جميع أصناف المخاطر. ويأتي مثل على ذلك باستخدامه، في صنع دور هنري هيل، تقنية الصوت المُسجل مسبقاً التي ينظر إليها في هوليوود باعتبارها تقنية استعراضية مبتذلة. كما أننا، بعد خمس دقائق من بداية الفيلم، نرى تومي (جو بيشي) وجيمي (روبيرت دينيرو) يُقدِمان على طعن رجل مضرج بالدماء في صندوق سيارة ويطلقان الرصاص عليه. وتأتي لقطات سكورسيزي المقربة التالية لتظهر وجه هنري، المضاء نصفه، متوهجاً بأحمر شيطاني. ثم ترد سطور المونولوغ الأشهر في تاريخ السينما على لسان ليوتا، الذي يقول "بقدر ما يمكنني العودة في ذاكرتي، فقد أردت دائماً أن أكون رجل عصابات".

وفي مزيد من التفاصيل، يرد أن سكورسيزي كتب نص الفيلم بمشاركة نيكولاس بيليغي، الذي روى قصة صعود وهبوط هنري هيل في كتابه الواسع الانتشار في العام 1985، "فتىً حكيم" Wiseguy  (كان فيلم سكورسيزي سيحمل ذلك العنوان لو لم يسبقه إليه مسلسل تلفزيوني في ثمانينيات القرن العشرين). وجاءت التجربة بمثابة عمادة لبيليغي. إذ ذُهل الرجل بالحدة التي يمكن لسكورسيزي فيها أن يكتب مشهداً سينمائياً، وهوسه كمخرج بالحيوية والاندفاع. وقد آمن سكورسيزي قبل كل شيء بأن الفيلم يحتاج إلى صدع في سياقه. ومثلاً، صُممت البداية الملحمية في الأصل كي تكون في وسط الفيلم. إلا أنها جاءت بعد الهجوم الذي وقع في حانة على رجل عصابة فرانك فينسينت، بيلي باكس، الذي أثار مشكلات كثيرة عبر تذكيره تومي بالأيام التي كان فيها ولداً يعمل في تلميع الأحذية. وإذ يذكر بيلي باكس لتومي "اذهب الآن إلى بيتك وأحضر علبة تلميع الأحذية اللعينة"، فينهال عليه تومي وهنري وجيمي بالضرب إلى أن يغيب عن الوعي، ثم يضعون جسده في صندوق السيارة. لكنهم يُفاجأون في ما بعد باكتشافهم أنه ما زال على قيد الحياة ويتنفس وسط دمائه المضرجة. وعند تلك النقطة، أثار انتباه سكورسيزي شيء ما له علاقة بالبنية والأداء. إذ لاحظ في النهاية أن خط التصاعد الدرامي في المشهد جاء زائداً، إذ يحدث كل شيء وفق ما يمكن لكل شخص أن يتوقعه. لذا، عمد إلى تصدير مشهد موت باتس وإبرازه، ووضعه بموازاة الخط الذي يرد فيه مونولوغ "أردت دائماً أن أكون رجل عصابات". وبالنتيجة، قاد ذلك إلى بداية متفجرة، وقدم للمشاهد فكرة عما ينتظره.

في وثائقي من عام 2004، حمل عنوان "الأصدقاء الطيبون، صناعة عمل من الكلاسيكيات"، يذكر بيليغي إن "تقنية الصوت المسجل مسبقاً استخدمت مرات عدة لترقيع صدع في السيناريو، لكنها لم تنجح". وأضاف أن "سكورسيزي أحب فكرة أن يتجول أولئك الشبان في سيارتهم مع وجود جسد محشور في صندوقها (كطريقة للانطلاق في الحكاية)". وذُهل بيليغي أيضاً بطريقة استخدام سكورسيزي الارتجال. وفي هذا الإطار، أحد الشروط التي أقرها جو بيشي أساساً كشرط للمشاركة في "الأصدقاء الطيبون"، تمثل في أن يتمكن ضمن سياق الفيلم من إيراد بعض الحكايا التي جمعها أثناء مراهقته، عن شبان العصابات في "نيوجيرسي".

 

واستطراداً، يعتبر مشهد "كم أنا طريف؟" المثل الأكثر شهرة في الإشارة إلى ذلك، إذ يعمد فيه تومي إلى إثارة هنري إثر امتداح الأخير بعبث، قدرة زميله في سرد النكات. وعن ذلك المشهد، ذكر ليوتا بعد سنوات خلال عرض جماهيري للفيلم في منطقة برونكس، ببروكلين، إن "جو كان يعمل في أحد مطاعم برونكس أو بروكلين، وهناك قال لأحد الشبان الحكماء "أنت طريف". وبطريقة ما، عمل الشاب على مبادلته الإطراء". والحقيقة، فإن تلك الحوارات المتبادلة جرى تدوينها سراً من قبل سكورسيزي وبيشي وليوتا.

وعلى نحو مماثل، حرص المخرج على ألا يُطلع أحداً من الممثلين المساعدين على تلك الحوارات. وحين دارت الكاميرات وصورت، عمد سكورسيزي إلى التقاط مشاهد متوسطة ثابتة من دون كادرات مقربة، وذلك كي يلتقط دهشة أولئك الممثلين وذهولهم على نحو مباشر. وقد أدهشت تلك المقاربة بيليغي، الذي صدم أكثر في ما بعد حين حظي بالتقدير لكتابته محاورات لم يكن له فيها أي دور أو إسهام.

ولاحقاً أيضاً، تلقى بيليغي درساً آخر من قدرة سكورسيزي اللافتة في استخراج الأفضل من ممثليه، حين شهد كيفية استفادة المخرج من الغضب الذي كان يعتري ليوتا جراء معاناة والدته من المرض. وفي ما بعد، توفيت والدة ليوتا خلال التصوير تحت وطأة السرطان، عن عمر ناهز 63 سنة. وحمل ليوتا معه تأثره ومشاعره يومياً.

وقد استعرت تلك المشاعر في سياق الفيلم. وتبدت حين شهر هنري مسدسه بوجه جار عشيقته كارين (لورين براكو)، بعد أن قلل ذاك الجار احترامه لها. روى مارك إيفانز جاكوب، الذي أدى دور الولد المرتجف والجار الآخر لكارين، عن ذلك المشهد لمجلة "جي 2" G2 مشيراً إلى أن "راي راح يغلي غضباً. وقف بعيداً عني وسط الشارع، وراح غضبه يستعر لقطة بعد أخرى. حاولنا إبقاء ذلك الغضب تحت السيطرة، لكن في أحد المشاهد اقتربت منه أكثر من المعتاد وتلقيت صفعة".

لم يكن سكورسيزي على الدوام أسهل الأشخاص الذين يمكن الاقتراب منهم في موقع التصوير. ويقول شهود عيان إن بينه وبين دي نيرو علاقة عمل متواطئة، إذ يقضيان معظم وقتيهما في أحاديث هامسة. وقد أحس ليوتا بالاستبعاد جراء ذلك، لأنه كان يعتبر واحداً من نجوم الفيلم. وهذا ليس للقول بأن المخرج لم يكن مستمتعاً بوقته. ومثلاً، جاءت تلك اللقطة الشهيرة التي تمتد 6 دقائق، وتلي دخول هنري وكارين إلى الملهى الليلي "كوباكابانا"، في الأساس كمحاولة خبيثة للتفوق على المخرج براين دي بالما. إذ حاز الأخير ثناءً بفضل روعة مشهد متتابع صوره بالكاميرا المحمولة ["ستيدي كام" Steadicam] في فيلمه "الذين لا يمسهم أحد" (1987) The Untouchables. وقد صنع سكورسيزي إلماحة ماكرة إلى صديقه ومنافسه، عبر تصوير مشهد متتابع لـ"كوباكابانا" جاءت أطول زمنياً من المشهد الذي صوره دي بالما. وعن هذا الأمر، نقلت الممثلة إليانا دوغلاس (روزي زوجة أحد رجال العصابات) إلى مجلة "جي 2"، اعتقادها بأنه "آنذاك، حقق براين دي بالما لتوه ذاك المشهد المتتابع المدهش بلقطة مطولة بكاميرا "ستيديكام" في "الذين لا يمسهم أحد" The Untouchables، وخطر لـ"مارتي" (مارتن سكورسيزي) أنه سيكون أمراً مسلياً إذا حاولنا تصوير مشهد متتابع أطول بدقيقة واحدة من مشهد دي بالما".

وكذلك ذكرت دوغلاس أن "الناس يقولون بدهشة، آه، يا لمشهد كوباكابانا!" لكن حقيقة المشهد لم تكن سوى مناوشة بين مخرجين خلف الكاميرات. بيد أن لمشهد كوباكابانا أيضاً هدفاً آخر أكثر جدية. إذ تعبر التتابعية في المشهد المذكور عن درجة افتتان كارين بطريقة حياة هنري. وفي ذلك المنحى، تمثلت عبقرية سكورسيزي في قدرته على وضعنا في مكان كارين، وإجبارنا في الدرجة الأولى على مشاركتها افتتانها. وعن ذلك الأمر، كتب المنتج إروين وينكلر في مذكراته الصادرة عام 2019 بعنوان "حياة في الأفلام" A Life in Movies، أن "المخرج "مارتي" وجد طريقة كي لا يقصر هنري هيل إغواءه على كارين، الفتاة التي يواعدها، بل أن يمدد ذاك الإغواء ويُظهر لمشاهدي الفيلم سبب جمال عالم "الأصدقاء الطيبون" وفتنته".

 

 في هذا السياق، مضت مصداقية الفيلم وأصالته قدماً عبر الاستعانة برجال عصابات حقيقيين كي يعملوا ممثلين إضافيين. وراح أحد أولئك "الممثلين" ينشر دولارات مزورة في موقع التصوير. وكذلك أُدين لويس إيبوليتو، هو "ممثل" آخر عمل تحرياً في شرطة نيويورك، بعد فترة بتنفيذ ثماني عمليات لصالح العصابات. كل من شارك في الفيلم كان مدركاً أنه يفعل شيئاً متميزاً.

تمثل الاستثناء في استديو الإنتاج الذي خشي من أن يكون قابضاً بين يديه على قنبلة. وبالنسبة إلى الجماهير، فإن الجمهور المعياري لم يفهم "الأصدقاء الطيبون". وقد تجسدت المشكلة الأساسية بالنسبة إليه، في العنف. إذ غادر أفراد من الجمهور في العروض الأولى، صالة السينما خلال المشهد الذي يعمل فيه تومي على طعن بيلي باتس سبع طعنات فيما هو ينزف في صندوق السيارة. وفي ما بعد، وافق سكورسيزي على اختصار تلك الطعنات وجعلها أربع، واقتصار الثلاث الأخيرة منها على صوت غرزات السكين في اللحم من دون رؤيتها.

وعن موقف الجمهور في هذا الإطار، كتب وينكلر "في الحقيقة من الصعب لومهم على ارتباكهم أثناء تفاعلهم مع الفيلم. إن ما يحتاجه بعض الأفلام يتمثل في أن يعمل الإعلام والنقاد وما تتناقله الألسن، على إخطار الجمهور بأن الفيلم الذي سيشاهدونه يشكل فيلماً مميزاً. وهكذا كان الحال مع "الأصدقاء الطيبون"، لكن في النهاية لم نغير أشياء كثيرة في الفيلم، إثر العروض الأولى المروعة".

وبالتوافق مع توقع وينكلر، جاءت ردود أفعال النقاد شديدة الحماسة. إذ كتبت "نيويورك تايمز" أن "مشهديات "الأصدقاء الطيبون" وأصواته تجعله يبدو من دون أدنى شك، عرضاً عن حوادث حقيقية". وكذلك أعرب روجر أيبيرت في "شيكاغو تريبيون" عن رأي مفاده أنه "لم يسبق أن صُنع فيلم بهذه الجودة عن الجريمة المنظمة. ولا يضاهيه حتى فيلم "العراب".

وعلى نحو مماثل، ذكرت مجلة "تايم" أيضاً أن "الفيلم يمثل رحلة الساعتين والنصف الأسرع والأذكى في تاريخ السينما الحديث"، مشيرة في الوقت عينه إلى هوس سكورسيزي في الإمساك بزمام الأمور.

وفي نهاية المطاف، رُشح "الأصدقاء الطيبون" إلى ست جوائز أوسكار، بيد أنه لم يفز إلا بجائزة عن فئة واحدة تمثلت في حصول جو بيشي على أوسكار أفضل ممثل مساعد، وقدم الخطاب الأقصر لاستلام الجائزة في تاريخ الأوسكار. إذ أورد جو بيشي في خطابه ذاك "إنه شرف لي. شكراً لكم" وانسحب. وفي الحقيقة إنه شرف لنا جميعاً. إذ أن سكورسيزي في "الأصدقاء الطيبون" لم يعمل على مجرد إعادة صياغة أفلام العصابات عبر فيلم يجمع بين الإمتاع والمتانة في الصنعة (من دون ذكر أنه مهد الطريق لـ"ذا سوبرانوس" (مسلسل تلفزيوني أميركي من نوع أفلام الجريمة والدراما ابتكره ديفيد تشايس). إذ يضاف إلى ذك أيضاً، أن [سكورسيزي] منحنا فيلمه الأفضل في مسيرته الفنية، وصنع أحد الأفلام الكلاسيكية الحقيقية في السينما الحديثة.                         

© The Independent

المزيد من سينما