تشهد الحركة الروائية النسائية في السعودية حالاً من الازدهار منذ تسعينيات القرن العشرين، على مستويات عدة، وقد برزت أسماء جديدة تخوض عالم القص والسرد للمرة الأولى، بعضها سعى إلى التعبير عن مشاكل وهموم اجتماعية وذاتية، وبعضها بدا كأنه يريد اللحاق بالركب الروائي لا سيما بعدما أضحت الرواية ظاهرة رائجة جداً. وبدءاً من العام 2003 راحت تتدفق الروايات لتشكل ظاهرة غير مسبوقة في السعودية وحتى في العالم العربي (20 إلى 25 رواية في السنة). ولعل كتاب الباحثة السعودية أسماء مقبل عوض الأحمدي "إشكاليات الذات الساردة في الرواية النسائية السعودية، من العام 1999 إلى العام 2012"، الصادر حديثاً عن الدار العربية للعلوم- ناشرون ونادي جازان الأدبي، في 800 صفحة هو دليل على صعود الرواية النسائية وحال ازدهارها وعلى الصعوبات المتعددة التي تواجهها، على المستوى الأدبي والفني والاجتماعي.
ولا يخفى على قارئ هذه الدراسة المجهود الكبير الذي بذلته الباحثة لإنجاز عملها، ويتمثل أولاً في عدد الصفحات وحجم الدراسة، ثم في العودة المرجعية إلى أبحاث نقاد عرب وأجانب من أمثال: محمد العوين، عبدالله الغذامي، حسن النعمي، صالح زياد، سمر روحي الفيصل، محمد رياض وتار، محمد صالح الشنطي، محمد عزام، نصر حامد أبو زيد، فوكو، بارت، جينيت، تودوروف، وغيرهم؛ وكذلك في الاستناد إلى أبرز الكاتبات السعوديات اللواتي برزت أسماؤهن في الحقبة الزمنية التي حددتها الناقدة، مثل: أميمة الخميس وبدرية البشر وزينب حفني وليلى الجهني وغيرهنّ، إضافة إلى منهجية الكاتبة المتماسكة والمتسلسلة والمترابطة التي تسير بالقارئ المتخصص وغير المتخصص بتؤدة ورزانة ومنطق لتوضح له علاقة المرأة بالمجتمع وبالآخر وبالرواية وبعالم الثقافة.
دراسة موضوعية
تظهر خصوصية بناء هذه الدراسة أولاً عبر تسويغ الباحثة خيار اعتمادها عنوان دراستها "إشكاليات الذات الساردة في الرواية النسائية السعودية، من العام 1999 إلى العام 2012"، فتجد الأحمدي أن الرواية النسائية سجل لأوجاع الإنسان والمرأة بخاصة، وتورد أن دراستها إنما جاءت لتسليط الضوء على هذه الرواية اليوم في المجتمع السعودي بخاصة أنها باتت "أنسب الفنون للمرأة، والأقرب لعرض إشكالياتها وقضاياها، إذ تمثل النص الأكثر فعالية في إبراز دور المرأة وصوتها،" ( ص: 67). وتوضح الأحمدي خيار حصرها دراستها بين سنتي 1999 و2012 بأن الرواية النسائية السعودية شهدت ازدهارها في هذه الفترة بالتحديد، فتشير في مستهل الكتاب أنها اختارت دراسة هذه الفترة الزمنية لكونها تمثل مرحلة طفرة –إلى حد ما- بالنسبة للرواية النسائية التي "تشكلت وظهرت بشكل متسارع" (ص: 87). وتكون الباحثة بذلك ومنذ بداية عملها حددت أطر دراستها وفسرتها وعللتها وسوغتها وحددت للقارئ السياق الزماني والمكاني والاجتماعي والثقافي الذي يحتاجه ليمسك بمنهج البحث.
أما الروايات التي اختارتها لتكون مادة بحثها وتحليلها انطلاقاً من رؤيتها النقدية المعتمدة في الكتاب، فهي: "البحريات" لأميمة الخميس، "الأرجوحة" لبدرية البشر، "بشع عشوائي: ذواتهم المريضة تخنق أرواحنا" لحسنة القرني، "بنات الرياض" لرجاء الصانع، "خاتم " لرجاء عالم، "الرقص على أسنة الرماح" لرحاب أبو زيد، "ملامح" لزينب حفني، "نساء المنكر" لسمر المقرن، "الباب الطارف" لعبير العلي، "الفردوس اليباب" و"جاهيلة" لليلى الجهني و"وجهة البوصلة" لنورة الغامدي.
وفي مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، تستعين الباحثة بثقافتها في الحقل الأدبي والحقل الفلسفي على حد سواء، لتوسع إشكاليتها وتعرض مختلف أوجهها، فتبدأ دوماً بالأمور النظرية والتفسيرات والتعريفات المعجمية والفلسفية لتنتقل إلى أمثلة من روايات نسائية تُتبِعُها بآراء النقاد، وذلك في تدرج للأفكار من السهل إلى الصعب ومن البسيط إلى الأكثر تعقيداً.
ويجد القارئ منذ مطلع الدراسة بنية متسلسلة الأقسام والفصول، فتبدأ الباحثة بالتعريف بالرواية ووظائفها ثم تنتقل إلى مميزات الظاهرة الروائية السعودية مروراً بأهداف الدراسة ومنهجها وأدواتها والصعوبات التي كان لا بد من التغلب عليها. ويظهر في مخطط العمل أن الباحثة حرصت في كل مرة أوردت تعبيراً تقنياً أو متخصصاً أن تفسر هذا التعبير من مختلف وجهات النظر وبحسب الحقول الفكرية المختلفة، الأمر الذي منح الدراسة المزيد من الموضوعيّة.
الرواية النسائية السعوديّة
تحدد الأحمدي منذ بداية دراستها أن الرواية هي وقوف على الذات والآخر من جانبين، الأول نفسي والآخر اجتماعي. فالرواية تحمل هماً جماعياً متلوناً وممتزجاً بتجارب مختلفة؛ وهي تلتقي في وجهة النظر هذه مع الناقد اللبناني لطيف زيتوني الذي يعتبر أن الرواية الحقة هي الرواية التي تحمل هماً إنسانياً.
وتكمل الأحمدي في خطها الفكري هذا معتبرة أن الرواية النسائية السعودية جاءت لتكسر الصورة النمطية للمرأة، ولتخرج المرأة نفسها من الصمت وتنقلها إلى الفعل والتأثير. وركزت الباحثة في هذا المنحى على علاقة المرأة بالآخر في المجتمع، وأكدت أن الكتابة النسائية ما زالت تعتمد في أحيان كثيرة ضمير الغائب ما يعكس عجزاً "عن التخلص من عقدة الخوف الذي يمنع المرأة من أن تجعل نفسها ذاتاً لها ضمير يتكلم عنها" (ص: 125)، ليتحول الآخر إلى موضوع قلق عند المرأة يكبلها ويحد من عطائها حتى يومنا هذا" (ص: 147).
والجدير بالذكر أيضاً، وعلى الرغم من هذا الخوف من الآخر، أن الرواية النسائية السعودية المعاصرة تشهد ازدهاراً بارزاً وملحوظاً يتمثل بكثرة النتاج الروائي وتنوع مشارب الكاتبات ومدارسهن، فتحدد الباحثة أن مشاركة المرأة السعودية غير مسبوقة وبارزة في النتاج الروائي إذ تراوحت إصداراتها بين 20 و25 رواية سنوياً بدءاً من العام 2003. وتؤكد الباحثة أن استناد المرأة إلى الرواية والكتابة والثقافة إنما هو مواجهة الرجل والخوف منه بأحد أسلحته.
ولا تغفل الأحمدي عن طرح أسئلة جوهرية حول تسمية "الرواية النسائية"، فتعرف بهذا التعبير وتروح تتعمق في خصائصه وتطرح أسئلة متنوعة حوله وحول هوية المرأة المثقفة ووجودها: هل للرواية النسائية خصوصية تمنحها أسلوباً للبوح والمعالجة تختلف عما يكتبه الرجل؟ وهل مسألة التصنيف تلك في صالح العمل الروائي النسائي، أم أنها تزيد في استلابها وتحجيم مسارها الإبداعي؟
ولا تحاول الأحمدي أن تمتدح الرواية النسائية السعودية بشكل اعتباطي، بل هي لا تتوانى في الإشارة إلى أن الرواية النسائية بحاجة إلى "ارتياد آفاق روائية أكثر خصوبة وثراء، والخروج بالقول الروائي إلى الشأن الإنساني في قضاياه المختلفة، سياسية واقتصادية وتاريخية وغيرها" (ص: 83).
المرأة السعودية المثقفة
لا يمكن الحديث عن رواية نسائية في السعودية من دون الحديث عن وضع المرأة في المجتمع وفي حقل الثقافة ومساهمتها في كليهما وعلاقتها بالرجل في المضمارين كليهما، ذلك أن وصول المرأة إلى الكتابة معناه أنها بدأت تفكر برؤية منفتحة على العالم، برؤية تخرجها من دور الضحية إلى دور يتناسب مع دورها البيولوجي العظيم المتسم بقدرتها على العطاء. (ص: 85). وهذا الدور بالتحديد هو الدور الذي تمهد له كتابة الروايات وقراءتها. إنما هل يمكن للمرأة أن تكتب رواية بعيداً عن أزمتها مع الرجل؟ هل يمكن للمرأة أن تستوعب المجتمع الذكوري المحيط بها وتحول طغيانه إلى سلطة فكرية وثقافية وفنية؟
من هنا تطرح الباحثة سؤال هوية المرأة في المجتمع، هل للمرأة هوية خاصة بها؟ وهل تختلف هويتها عن هوية الرجل؟ أم أن هويتها تتفرع من هوية الرجل؟ وما هو دور المرأة المثقفة؟ وهل يختلف دورها في المجتمع عن دور الرجل المثقف؟ (ص: 171). وتتوقف الأحمدي مطولاً عند دور المثقف في المجتمع، والمشكلة التي نعاني منها اليوم على مستوى الثقافة فالمثقف نفسه لم يعد يمثل هوية ثابتة.
كتاب الدكتورة أسماء مقبل عوض الأحمدي في النقد الروائي وسوسيولوجيا الأدب كتاب متقن الإشكالية، متين المنهجية، يطرح قضايا بارزة وفق منهج علمي وموضوعي متماسك، يطرح قضايا المرأة والهوية والمثقف والمجتمع ودور الرواية، وهي قضايا لا يمكن الانتقال إلى مجتمعات عربية مزدهرة وناضجة من دون التوقف عندها.