Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجزائري إبراهيم سعدي يفكك العلاقات الإنسانية غير المتكافئة

 شخصيات واقعية مضطربة تواجه مصائرها في رواية "فيلا الفصول الأربعة"

مدينة الجزائر بهدوئها (رويترز)

حين تفتقر العلاقة بين طرفين إلى التكافؤ، قد يترتب على ذلك أن يستغل الطرف القوي الطرف الضعيف، ويلعب دور المتبوع، يملي إرادته عليه، ويرهقه بطلباته التي لا تنتهي، وأن يُستغَل الثاني من الأوّل، فيلعب دور التابع، وينفذ أوامره والتعليمات. بذلك، تغدو العلاقة استغلالاً يمارسه القوي، ويتلذذ في ممارسته، من جهة، وعبئاً ينوء به الضعيف، ويتطلع إلى التحرّر منه، من جهة ثانية. يحدث هذا حين يكون طرفا العلاقة سويين، يخضعان لميزان القوى، فكيف حين يكونان غير ذلك، ويعانيان أعطاباً مختلفة؟ وهو ما نراه في رواية "فيلا الفصول الأربعة" للروائي الجزائري إبراهيم سعدي (منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف).

الطرف الأول في العلاقة غير المتكافئة، في الرواية، هو أحمد ياطو، الكاتب المغمور والوزير السابق، المقيم في المدينة والمتحدر من أصول ريفية، الانتهازي الذي تبرر الغاية عنده الوسيلة، ولا يتورع في سبيلها عن التنكر لأخيه الذي رباه والخجل به، وعدم حضور جنازة أمه، وقطع علاقته بصديقه التابع، والانقطاع عن جذوره. والطرف الثاني هو الهادي، اللقيط الذي لا يعرف أصله وفصله، العازف عن الزواج لأنه يعتبر أن الإنجاب جريمة يرتكبها الأهل بحق أطفالهم، المتفاني في خدمة صديقه المتبوع إلى حد امّحائه فيه، وتخليه عن شخصيته كرمى له. وهي علاقة تستمرّ ثلاثة عقود ونيّف، تبدأ من لحظة إنقاذ الصبي أحمد رفيقه الأصغر سناً الهادي من الغرق، وتنتهي، بشكلها المباشر، بوفاة أحمد، وبشكلها غير المباشر، برمي الهادي المسدس في وادي أبزيزا. وبين هاتين الواقعتين عدد كبير من الوقائع. وتحت جسرهما تتدفق مياه كثيرة. ولعله من المفيد الإشارة، في هذا السياق، إلى أن البداية النصية لا تتطابق مع البداية الفعلية السابق ذكرها، فتبدأ الرواية بموت أحد طرفي العلاقة بعد ثلاثة عقود ونيف من البداية الفعلية للأحداث، فيما تتطابق النهايتان النصية والفعلية في سير الطرف الآخر في العلاقة وحيداً على رمل الشاطئ، في محاولة منه لاستعادة عالمهما القديم، غير أن ما مضى لا يعود.

على المستوى الفعلي، تبدأ العلاقة بين طرفيها بقيام أحمد بإنقاذ الهادي من الغرق فيما كانا يسبحان في مياه البحر، فتشكّل هذه الواقعة ديناً ثقيلاً في عنق المنقَذ، يستمرّ في تسديده طيلة ثلاثة عقود ونيّف، هي عمر العلاقة بينهما. فيحس بأنه مدين له في حياته، ويقوم على خدمته باسم الصداقة والوفاء، فيما الآخر يمعن في استغلاله. وتستمرّ من خلال وقائع كثيرة تشكل تمظهرات للاستغلال، من جانب الطرف القوي، وتمظهرات للعبودية، من جانب الضعيف. وتنتهي بموت الأوّل، وسعي الثاني لاحقاً إلى التحرر من ظله الثقيل.

أما على المستوى النصّي، فتبدأ بموت أحمد، وقيام الهادي باستعادة فصول العلاقة بينهما، من دون أن يراعي بالضرورة خطية الاستعادة، معتمداً على ذاكرته ودفتر مذكرات صديقه، وما تمر به من مد وجزر، وصولاً إلى انتهائها المباشر بموت الأخير، وانتهائها غير المباشر بتحرّره من ظله الذي استمر يلازمه سنوات بعد الموت.

وقائع الاستغلال

بمعزل عن هذا التفريق بين المستويين الفعلي والنصي لسيرورة الأحداث، يتمظهر الاستغلال في مجموعة من الوقائع التي تعكس سلطوية الشخصية المُستغِلَّة وانتهازيتها ونفعيتها ولامبدئيتها وازدواجيتها وخروجها على القيم والمواضعات الأخلاقية وانبهارها بالمظاهر الخادعة وقيامها بمنافقة الآخرين وخداع الذات، ما يعني أنّنا إزاء شخصية نرجسية، مريضة بحب الذات، وغمط الآخرين حقوقهم، فينفضّون عنها تباعاً، ويتخلّى عنها أقرب المقربين إليها. لذلك، يموت أحمد وحيداً في الفيلا المهجورة إلا منه.

في هذا السياق، تطالعنا الوقائع الآتية: تكليفه الهادي بمراقبة بيت حبيبته هناء سالم التي رفض والدها تزويجها منه، الطلب إليه تأمين حاجياته ودفع ثمنها من جيبه،  دفعه إلى أن يُسجن بدلاً منه إثر ارتكابه جريمة سرقة، مصادرة الرواية التي كتبها صديقه ووضع اسمه عليها والطلب إليه كتابة المقالات في تقريظ "كاتبها"، ارتياد المطاعم والمقاهي معه وعلى حساب الأخير، تكليفه الذهاب إلى مدينة "ن" على مسافة ساعات بالقطار لمدة تنوف عن الشهرين للبحث عن حبيبته المفقودة، عدم الاعتراف بفضل صديقه عليه أو توجيه كلمة شكر واحدة له، التعريض به بحضوره وغيابه شفاهةً وكتابة، تنكره له خمس سنوات طيلة مدة وزارته وعدم الاتصال به لمرة واحدة، استدعاؤه في أنصاف الليالي مع نبيذه ومكسراتها ليذهب عنه الأرق، الاستعانة به مراراً ليصلح ذات البين بينه وبين زوجته نهلة سلطان، وسواها من الوقائع. ويبلغ الاستغلال الذروة وقمّة السوريالية حين يطلب أحمد من الهادي أن يقوم بقتل "صاحب القصر" الذي لم يُورد اسمه في قائمة التوزير والانتحار ليدخل التاريخ وينوجد في الحياة، وهو اللقيط الذي لا يعرف أصله ولا فصله. غير أن رفض الهادي القيام بهذه المهمّة القذرة يفوّت عليه فرصة استغلاله الأخيرة. وهذه التمظهرات، على أنواعها، تضيء شخصيّة مريضة، مهووسة بصورتها، غارقة في نرجسيّتها، عاشقة للسلطة والتسلّط.

وقائع العبودية

 تتمظهر العبودية في مجموعة من الوقائع التي تعكس دونيّة الشخصيّة المستغَلَّة، وتعلّقها بمستغِلّها، والتفاني في خدمته، وعدم الاعتراض على إرادته، وعدم التجرّؤ على إساءة الظن به حتى بينها وبين نفسها، والشعور بالذنب إذا ما تجرّأت على ذلك، والإحساس بالنقص إزاءه، والتماهي معه حتى الانسحاق، ما يعني أنّنا إزاء حالة مرضية مستشرية تتمثّل في التعلّق بالآخر، وتنفيذ أوامره وتعليماته بطيب خاطر كضحية تحبّ جلاّدها. ولعلّ ما يعزّز مرضيّة هذه الشخصية أنّ صاحبها الهادي يستبطن إحساساً قوياً بدَيْنِه لأحمد الذي أنقذ حياته، وافتقاره إلى الأصل والفصل، وحاجته إلى آخر يتفاعل معه من الموقع الأدنى، وعيشه وحيداً من دون أسرة، ونظرته التي تجرّم الإنجاب، الأمر الذي يجعل منه عبداً لصديقه ومجرد تابع له.  ولعل المرتين الوحيدتين اللتين يخالفه فيهما تتمثلان في رفضه تنفيذ الأمر بقتل "صاحب القصر"، وفي رغبته في السفر خلافاً له، حتى إذا ما جاء لتوديعه يجده جثة هامدة، فيعدل عن قراره.

في هذا السياق، تطالعنا الوقائع الآتية: دَيْن الهادي بحياته لأحمد الذي أنقذه من الغرق، استمراره في دفع الدين هذا طيلة ثلاثة عقود ونيّف بأشكال مختلفة، قيامه بتنفيذ سائر طلباته، التضحية بماله ووقته وحريّته واسمه وعمله وشخصيّته في سبيله، تغاضيه عن إهماله إياه طيلة خمس سنوات في سدّة الوزارة، تدخّله لإصلاح ذات البين بين أحمد وزوجته، اقتفاء أثر حبيبته السابقة هناء، تلبية دعواته في أنصاف الليالي لإزالة الأرق عنه، تنظيف جناحه في الفيلا، غسل ثيابه الوسخة، التنازل عن حريته وتحمل السجن والسمعة القذرة بدلاً منه، التنازل له عن الرواية التي كتبها، التخلي عن شخصيته كرمى له، عدم التذمر من القيام بما يريده حتى وإن كان في ذلك انتقاصاً منه، وسواها من الوقائع. ويستمر في عبوديته له حتى بعد موته، فيسهر على جثمانه وحيداً على الرغم من خشيته من الموت، ويقوم بحلق ذقنه وتسريح شعره وتنظيف وجهه، ويتصل بأقربائه ويتولى ترتيبات الجنازة وتقبل التعازي. وتستمر العبودية سنوات بعد الدفن، فيضع اسم صديقه على روايته الثانية بدافع الوفاء له والتخفف من ظله الذي يلازمه، فيبدو كشخص محتل من شخص آخر لا يستطيع التحرر منه، الأمر الذي يتحقق في نهاية الرواية حين يُقدم على رمي المسدس العائد له في وادي "أبزيزا"، متخلصاً بذلك من آخر أثر مادي يربطه به، ومستعيداً حريته بعد عقود من العبودية الطوعية.

في الخطاب الروائي، يمكن الإشارة إلى المفارقة بين المسار الفعلي للأحداث في عالم الواقع وبين المسار النصي لها في عالم الرواية، فتبدأ من نقطة قريبة جداً من النهاية الفعلية، وتعود إلى الوراء مستعيدة وقائع وذكريات ومشاهد وانطباعات كثيرة، ثم تكمل مسارها من حيث عادت بضع سنوات إلى الأمام لتبلغ النقطة التي تتحد فييها النهايتان النصية والفعلية. وإذا كانت المادة المروية هي حصيلة مشاهدات الراوي وذكريات المروي عنه، فمن الطبيعي الإشارة، في هذا السياق، إلى أن السرد تقطعه المذكرات، في الشكل، وتتكامل معه، في المضمون، فترد في الوحدة السردية السابعة عشرة ثماني صفحات من مذكرات أحمد ياطو، وفي الوحدة الثامنة عشرة تسع صفحات منها، ناهيك بالفقرات الكثيرة التي كانت تتخلل السرد في الوحدات السردية المختلفة. كما أن الكاتب يضمن السرد حكايات مختصرة للروايتين اللتين كتبهما الهادي، في تناغم مع المادة المسرودة.

"فيلا الفصول الأربعة" رواية رشيقة، بسيطة البنية، تجمع بين الواقعي والغرائبي، وترصد عدم التكافؤ في العلاقات الإنسانية مساراً ومصيراً.   

المزيد من ثقافة