Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كورونا تغير لندن على نحو قد لا تعود معه إلى وضعها السابق

قد تضطر العاصمة للتخلي عن بعض الهيمنة والثروة لكن يمكن لذلك أن يأتي بنتائج إيجابية أيضاً،

قد تغير الجائحة وتبعاتها وجه عاصمة الضباب لندن إلى غير رجعة (غيتي)

إن الأمور الصغيرة هي ما يلاحظها المرء. الناس يسيرون بسرعة أكبر. ويتوجب علينا جميعاً أن نتعلم من جديد فن الملاحة والمرور بسلاسة على أرصفة يشاطرنا إياها آخرون. فحركة المرور باتت فجأة أشد كثافة؛ وعليك أن تتذكر أن تنظر يميناً ويساراً، حتى أنني لاحظت، يوم أمس، أحدهم وهو يسير في الشارع مرتدياً بزة وربطة عنق.

إن هذا كله جديد للغاية على وسط لندن، هذه المنطقة التي قضيت فيه الشطر الأكبر من الوقت خلال الأشهر الستة الماضية. إن العودة إلى ما يشبه "المعتاد" بدأ هنا فقط مع إعادة فتح المدارس والبرلمان. وسنرى كيف ستغير الإجراءات الحكومية الأخيرة، المتمثلة في ما يسمى "قانون الستة"، وكذلك الجهود الجديدة لتطبيق قاعدة ارتداء قناع الوجه، أياً من هذه الأشياء رأساً على عقب. ومع ذلك، تبدو المكاتب الحكومية، كتلك الموجودة في حي البنوك في لندن، والحي المالي في دوكلاند، فارغة جداً حتى الآن.

إن الوتيرة البطيئة لانتعاش لندن، وهي أشد بطئاً من معظم مراكز المدن الأخرى، زد على ذلك عدم رغبة الناس في استخدام وسائل النقل العمومي (خصوصاً قطارات الأنفاق)، إضافة إلى نوعية الحياة الجديدة التي اكتشفها كثير ممن دأبوا سابقاً على التنقل يومياً بين مقار سكنهم وأماكن وظائفهم، وأصبحوا الآن يباشرون عملهم من المنزل كما تقتضيه الضرورة، كل هذه الظواهر تحول دون عودة أجزاء كبيرة من لندن إلى حمى الازدحام في الأماكن التي كانت تغص بالناس لحد الانفجار، وذلك قبل اندلاع جائحة فيروس كورونا.

والسؤال المطروح هو التالي: هل ينبغي أن يشعر أي أحد بالأسف؟ حتى ولو لم تكن المدن تشكل ظواهر اجتماعية وثقافية غير محكوم عليها واقعياً بالفشل- لأن هذا الأمر يبدو مستبعداً نظراً لقدرة المدن على التحمل عبر العصور- فكيف سيكون المستقبل إذن بالنسبة للندن تحديداً؟ إن جزءاً مني يود، إن استطاع، تحريك عصا سحرية لكي يرى لندن وقد أعيدت إلى ما كانت عليه قبل سنة. بيد أن جزءاً آخر يشعر بالغبطة بسبب الهدوء ونظافة الهواء وذلك الفراغ الذي شهدته المدينة في أبريل (نيسان).

إضافة إلى ذلك، هناك الصور التي تكشفت عنها المدينة المهجورة: الامتداد العظيم لشارعي ريجنت ستريت وبيكاديلي، ورونق التشكيل الموزع حول ساحة البرلمان (مؤسف أن سقالات البناء ترتفع حول البرلمان)، والمتنزهات الخضراء ومياه نهر التايمز المشرقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هل من المحتمل إنعاش لندن في مكان ما بين الطرفين اللذين يمثل كل منهما النقيض للآخر؟ ألا يمكن أن تكون أكثر حيوية واكتظاظاً وأيضاً أقل تعقيداً مما كانت عليه عادة؟ هذا ليس سؤالاً ينم عن ضيق أفق. فمستقبل لندن لا يعنينا نحن فقط الذين نعيش فيها، بل يهم أيضاً أولئك الذين سيتعين عليهم على الأرجح أن يقيموا ويعملوا فيها. لندن هي العاصمة الوطنية مما يجعلها بالتالي تمثل قضية وطنية، على الرغم من تفكير الحكومة لبرهة من الزمن، بخصوص نقل مجلس اللوردات إلى يورك.   

لكن كان هناك كثير من الأخطاء في لندن القديمة. كانت، ولا تزال، حيث إن المدينة كانت تبدو غير عادية بين العواصم الأخرى لجهة الهيمنة التي تتمتع بها. فعدد سكانها، وناتجها المحلي الإجمالي، وإنتاجيتها وثراؤها، كل هذا لا يتناسب إطلاقاً مع باقي أجزاء البلاد. ففي كبريات الدول، تكون العواصم الثقافية والاقتصادية والسياسية موزعة بين مدن مختلفة أو تحتل مواقع أكثر مركزية. تأمل مثلاً: واشنطن ونيويورك، برلين وفرانكفورت، كانبيرا وسيدني، موسكو وسانت بيترسبورغ.

لطالما كان النشاط منجذباً لزمن طويل إلى الجنوب الشرقي للبلاد، مما أدى إلى تداعيات تتصل بأسعار الأرض وتكلفة المعيشة وبناء روابط المواصلات. وقد نجم عن ذلك اقتصاد وديموغرافيا غير متزنين.

ويتجلى هذا الأمر أيضاً على الساحة السياسية. فقد أظهر الاستفتاء حول عضوية الاتحاد الأوروبي كم كانت لندن بعيدة عن التوافق مع بقية البلاد، أو على الأقل مع بقية إنجلترا.  فقد برزت لندن كجزيرة لأنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي في بلد أجزاؤه الأخرى مع الخروج منه. وسبقت حتى اسكتلندا في حرصها على البقاء داخل الاتحاد الأوروبي.

لقد أفرزت هيمنة لندن قدراً من الاستياء، وجاءت أكثر اللحظات التي أسيء تقديرها في حملة البقاء قبل الاستفتاء، من جورج أوزبورن وزير المالية آنذاك، الذي جاب البلاد محذراً من أن انتصار حملة "الخروج" من الاتحاد من شأنها أن تدمر لندن كمركز مالي عالمي، وتدمر ازدهار البلاد برمتها. ربما لقيت رسالة من هذا النوع آذاناً مصغية متعاطفة في لندن، أما خارجها، فكانت الاستجابة المتوقعة تماماً هي: دعوا ذلك يحصل.

لم ينظر إلى لندن كما لو كانت نبعاً لرفاهية المملكة المتحدة، بل كطفيلي يمص دماء بقية البلاد. كانت تلك هي الصورة التي رسختها الفترة التي أعقبت أزمة 2008 المالية، حين بدت "القطط السمان" (لقب يطلق على المصرفيين الذين يحصلون على مخصصات مالية كبيرة) من كبار المصرفيين وقد أفلتت من العقاب، فيما كان على الناس "العاديين" أن يدفعوا ثمن الأزمة عبر إجراءات التقشف.

من جهة أخرى، يجب الإشارة إلى أنه نادراً ما يشاطر السكان، الذين كانوا في الماضي يعتبرون لندن عاصمتهم، حماسة السياح والأثرياء الأجانب تجاه العاصمة البريطانية. فهؤلاء السكان يحاولون مغادرة المدينة تجنباً للضجيج والازدحام والتكاليف المعيشية المرتفعة، كما لو كان ذلك الوضع يشكل الطاعون بعينه.

لذا ربما ليس من غير المنصف القول إن لندن تنال عقابها. فقد كانت أول أجزاء البلاد التي ضربتها الجائحة بقوة، وربما لن تعود إلى سابق عهدها أبداً. عندما وعد بوريس جونسون أول الأمر ببرنامج لـ"رفع المستوى" الاقتصادي وطنياً، بعد ما أحرز انتصاره الساحق غير المتوقع في الانتخابات الأخيرة، لم يكن هناك إحساس بأن هذا (البرنامج) قد يؤدي أيضاً إلى "مستوى أدنى". لكن ربما كان هذا ما ينبغي أن يحصل في أعقاب الجائحة. فلندن قد يتعين عليها أن تتخلى عن بعض هيمنتها، وحتى عن بعض ثروتها، وهناك طرق إيجابية يمكن لذلك أن يحصل بها.

فمن المرجح أن يكون فيها عدد أقل من الناس: عدد القادمين إليها ممن يتنقلون يومياً بين العمل ومكان السكن يتضاءل يومياً، ويعيش فيها عدد أقل من الناس، على المدى القصير، فيما يبحث البعض عن مناطق لا تعاني من مشكلة الازدحام التي تعيشها لندن وأكثر ريفية منها. ثمة نتيجة، قد تكون مؤقتة، هي أن المدينة تصبح أشد فقراً، فيما يعمد القادرون مادياً إلى الانتقال منها. وإذا كانت إحدى النتائج تتمثل في انخفاض الأسعار، علماً أن أجور العقارات تتهاوى سلفاً، فقد ينجذب الناس من جديد إلى المدينة للعيش فيها بدلاً من السفر اليومي في الاتجاهين بين مقر عملهم البعيد وبيوتهم خارج لندن. فوجود سكان لهم جذور راسخة في المدينة من شأنه أن يكون عنصراً يعزز الاستقرار.

من جهة أخرى، فإن وجود عدد أقل ممن يسافرون يومياً للعاصمة قصد العمل يمكن أن يغير الأنماط، أو على الأقل، يرجح كفة الميزان التجاري لصالح نوع الخدمات المطلوبة من قبل السكان والعمال المياومين. وهؤلاء الذين يذرفون دموع الأسف على محلات بيع السندويتش والوجبات السريعة "بريتا مانجي" Pret a Manger ينبغي أن يدركوا أن أجزاء من لندن تغص بسلاسل متعددة من هذا النوع إلى حد الإشباع. فتراجع عدد السلاسل يعني مزيداً من الشركات والأعمال التجارية المحلية، وربما يؤدي ذلك إلى استبدال المخازن والمكاتب بأبنية سكنية حقيقية للناس المحتاجين إليها بدلاً من عمارات الشقق "الفاخرة" التي تجري المضاربة عليها والتي بنيت في العقد الماضي.

قد يكون هناك أمل، أيضاً، بأن المسابقة الأخيرة لبناء أبشع العمارات الشاهقة في حي المال، ربما تكون قد انتهت. فكم من الأبراج السكنية، قد منحت سلفاً إذن تخطيط لكنها لم تشيد أبداً، ليس فقط بسبب وجود فائض من أبنية المكاتب، ولكن لأن تسويق الأبنية الشاهقة يصبح صعباً إذا كان من الضروري تطبيق قواعد التباعد الاجتماعي في المصاعد. إضافة إلى ذلك، فإن انخفاض الأسعار قد يضيق الفجوة بين لندن وغيرها من المناطق.

إن توازناً أفضل بين من يفدون إلى لندن يومياً للعمل وسكانها، مع التقليل من الازدحام فيها، قد يجعلها أشبه بالعواصم الأوروبية، ومكاناً يحلو العيش والتحرك فيه. وسيقتصر استخدام السيارة، بما فيها سيارات أوبر إذا احتفظوا برخصتهم، على هؤلاء الذين يحتاجون إليها فعلاً مثل الأشخاص من أصحاب الإعاقة. وستكون هناك طرق أنظف وأكثر هدوءاً.

ونظراً إلى أن ضجيج الطائرات بات حالياً أكثر وضوحاً (مع انخفاض الملاحة الجوية)، فإنه من الممكن إقناع السلطات في نهاية المطاف بكبح حركة المرور الجوية فوق المناطق المكتظة بالسكان (والكف عن إيقاظ لندن مع اقتراب الطائرات من مدرج الهبوط قبيل الفجر). لقد اشتقت للسفر خلال الأشهر الأخيرة كأي شخص آخر، بيد أن أحد الضحايا المرحب بها خلال هذه الجائحة، هو بالتأكيد المدرج الثالث لمطار هيثرو.

 لقد حان الوقت لتحويل مواطن القوة والضعف الخاصة التي جعلت لندن عرضة  للجائحة، إلى فرصة أهلية ووطنية، أقل سرعة وأكثر خضرة وأقل عناداً، وأكثر ملاءمة للعيش وكذلك، رجاء، أكثر احتراماً للتراث المعماري. فلنجعل هذا مستقبل العاصمة.

© The Independent

المزيد من آراء