Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 مآسي الهاربين من جحيم "داعش" في "وشم الطائر" لدنيا ميخائيل

بدت السماء محتجبة خلف العلم الأسود وفرض نشيد الولاء بالقوة وصار البشر أرقاما بلا قيمة

نساء يحيين ذكرى ضحايا "داعش" في شمال العراق (غيتي)

تختصر رواية "وشم الطائر" للكاتبة العراقية دنيا ميخائيل، المسافة المتوهمة بين التخييل كضرورة فنية، والقصص التسجيلية المنقولة من أرض الواقع، وتقارب بين الأحداث والشخوص في فضاء النص، والوقائع والشخصيات التاريخية الحقيقية في مكان وزمان محددين.

وتؤطر الرواية الصادرة حديثاً عن دار "الرافدين" (بغداد/ بيروت) لفكرة مسبقة حملتها الصفحة التمهيدية للرواية، وهي ببساطة أنّ "ليس من قبيل المصادفة توافق الرواية مع واقع ناس يعيشون معنا في هذا الزمان".

محطة ثانية

عبر مئتين وخمسين صفحة محكية على لسان راو عليم مجهول؛ يدرك كل شيء ويسرد عن جميع الشخصيات، استكملت دنيا ميخائيل، المقيمة في الولايات المتحدة، روائياً في هذه المرة ما بدأته تجميعياً وتأريخياً في عمل بحثي سابق لها بعنوان "في سوق السبايا"، كانت قد سجلت فيه شهادات وحكايات دامية لنساء أسيرات استطعن الفكاك من جحيم "داعش" في العراق وسوريا بعد ما عشن معاناة مأساوية، أنهينها بقبول التحدي، والعودة إلى الحياة، لكن بجراح لا تندمل، وهزات نفسية خطيرة.

وقد اعتمدت دنيا في توثيقها على ما دونته خلال رحلة لها إلى العراق خلال عام 2016، حيث التقت هؤلاء النساء المقهورات؛ من الإيزيديات على وجه الخصوص، واستمعت منهن لأحاديث مطولة تقشعر لها الأبدان، وتعرفت على خبايا اختطافهن و"سبيهن" وبيعهن كالجواري بعد تقليبهن كالبطيخ، وامتهانهن، واغتصابهن، وتفاصيل إقامتهن القاتمة بحوزة "داعش"، إلى أن نجحن، أخيراً، في الهرب من دولة الموت.

جاءت رواية "وشم الطائر" لتقتحم المجهول ذاته في المحطة الثانية للكاتبة بهذا الصدد، وتفضح المسكوت عنه من ممارسات داعش ضد سكان المدن والقرى العراقية على مدار أكثر من عشرين عاماً، منذ منتصف التسعينيات في القرن الماضي.

ويتركز الإيزيديون كمجموعة عرقية دينية قرب مدينة الموصل ومنطقة جبال سنجار في شمال العراق، وينتمون إلى أصول كردية، وقد تعرضوا لأهوال جسيمة مع سيطرة تنظيم داعش على الموصل وسنجار ومناطق أخرى، ما تسبب في قتل المئات منهم واختطاف أعداد من النساء والأطفال وتهجير الآلاف فراراً من الويلات، حيث اضطروا إلى ترك مساكنهم حفاة، يحملون على ظهورهم الأطفال والمسنين والمعوقين، ويتعقبهم القناصة بلا هوادة.

رحلات المعاناة

رصدت الرواية نماذج كثيرة للنساء والرجال والأطفال المختطفين في مخيمات "داعش"، ولكل فرد منهم رحلة معاناة خاصة وعقاب مختلف (قتل، جلد، تعذيب، تهجير، استعباد) بحسب جنسه وسنه وديانته ووضعه الاجتماعي (أعزب، متزوج) ومدى تقبله للإجراءات اللاإنسانية التي اتخذت ضده ومورست بحق أسرته وأهله أمام عينيه على يد "داعش". وكان من بين الناجين رجال أطلقت عليهم النيران، لكنهم لم يموتوا، فتظاهروا بأنهم قتلى كي لا يلتفت إليهم الغزاة.

ووسط حشد الشخصيات والحكايات، جاءت البطولة الفنية المركزية لأسرة إيزيدية صغيرة، تمثلت في هيلين وزوجها إلياس وأبنائهما، وقد تعرضوا جميعاً للاختطاف والتنكيل، وانتهى بهم الأمر إلى قتل الزوج بدم بارد بيد سياف "داعش"، وفرار الأم وأبنائها من قبضة التنظيم الإرهابي بعد سنوات من التعذيب، ثم هجرتهم إلى كندا مضطرين في الختام، وممارستهم "رقصة الطير الجريح" في مجتمعهم الغربي الجديد، محاولين أن يتعايشوا للأبد مع الألم المحفور في الوجدان.

جاءت الحكايات المسرودة عن هذه الأسرة وغيرها في الرواية غير منقطعة الصلة بالواقع، وقد وردت بعض الشخصيات بالفعل بالأسماء ذاتها في كتاب دنيا السابق "سوق السبايا"، لكن المعالجة الروائية أتت مغايرة بطبيعة الحال التزاماً من الكاتبة بالقالب الفني، بحيث عمدت إلى ملء الفراغات وتشبيك الشخصيات والأحداث، والاستغراق في التفاصيل والمواقف الحياتية منذ الصغر. وكذلك إحكام التحليل النفسي، والمراوحة بين السرد والحوار، وكسر التسلسل الزمني في استدعاء السيرة الكاملة لكل شخصية، واعتماد أسلوب الفلاش باك، وتفعيل الخيالات والفانتازيا والأحلام والكوابيس من أجل تفجير الأحداث الدرامية تصاعدياً بتشويق وإثارة.

يضاف إلى ذلك، اتكاؤها على الحساسية الشعرية واللغة المرهفة السلسة، والتعمق في الطبقات الداخلية للبشر في انهزاماتهم وانكساراتهم الفادحة، وفي أوج احتقارهم وإذلالهم "بيع المرأة بمئة دولار في مزاد علني أو إلكتروني، وتبادل النساء كالهدايا بين رجال "داعش" للتناوب على اغتصابهن بموجب عقود إيجار، وتعذيب الرجال وقتلهم، ودفع الشباب والصبية إلى العمل في معسكرات الحرب وإجبارهم على قطع الرؤوس...".

وبهذه التوليفة الواعية، تمكن النص الروائي المشغول بعناية من تلمس جمالياته التعبيرية المتوهجة في حطام الدمار والمرارة والبؤس والسواد، من غير أن يهمل وضعيته كسجل توثيقي يعتمد عليه في الأغراض البحثية، حيث نقلت الرواية صورة بانورامية حركية لمعالم الحياة وملامح العادات والتقاليد وطقوس الميلاد والزواج والموت وسائر الأمور الاجتماعية والاقتصادية والمهنية والدينية في القرى العراقية. وكذلك نقلت بتدقيق واسترسال كيف صار شكل الحياة في هذه المناطق المنكوبة بعد فرض تعاليم داعش بقوة السلاح، وقوانين التكفير والاغتيال والاعتداء البدني والنفسي والنهب واللصوصية، وسلب كافة الحقوق والحريات.

أبعاد أسطورية

وفق فلسفة هيلين بطلة الرواية، فإن هناك مكاناً للجمال في الوجود مهما حدث، وذلك عندما يحاول المرء التعبير عن شيء بداخله. وحتى الألم ذاته، بحد قولها، يصبح جميلاً عندما نعبر عنه "تماماً كأثر الكسر على آنية فخارية". وفي سعيها إلى بلورة هذا الجمال واستقطاره، أضفت الكاتبة إلى روايتها أبعاداً أسطورية للإيهام برفض فظاظة الواقع والتخفيف من حدته.

من هذه الأجواء، ما يتعلق بـ"وشم الطائر"، عنوان الرواية، فقصة العشق التي جمعت هيلين الفتاة الرومانسية المقيمة في قريتها الهادئة "حليقي" وإلياس الصحافي القادم من الموصل قد ابتدأت باقتفائه طائر القبج صوبها، وحين تزوجا في وقت لاحق وتحديا كل الظروف الصعبة حولهما فإنهما استعاضا عن خاتمي زفافهما بوشمين للطائر ذاته على بنصريهما رسمته لهما امرأة عرافة، واقترن ذلك الفعل بتنبؤ ظل تفسيره غامضاً بأن رحلتهما قد تكون شاقة.

وقد التقت هذه التصرفات الغرائبية كلها مع الأعاجيب التي اعتاد أهل القرية نسجها حول طائر القبج، ومنها أن جماله الشديد قد يكون نقمة عليه، ولذلك فإنه "لا ينعم بحريته طويلاً، إذ ينتهي سجيناً في قفص". ومن الأساطير المشحونة بالحمولة الشعرية والمثقلة بالدلالات كذلك اعتقاد أهل "حليقي" بأن حوتاً عملاقاً يمارس هوايته في ابتلاع القمر من فوقهم، وأنهم إن تخلوا ذات ليلة عن قمرهم المتأزم وهو ينازع في جوف الحوت؛ سيحتقن ويحمر من النزف، وعندها "ستحدث في البلد كوارث وحروب".  ومع حلول عصر داعش الخرافي لفرط قباحته، بدأت هذه الإسقاطات والترميزات تتكشف تباعاً وتتجسد في عذابات الأسرة المتتالية.

مع وجوه النساء التي تغطت بالنقاب إلا عند تصويرهن بملابس خلاعية استعداداً لبيعهن، ومع وجوه الرجال التي تغطت باللحى، بدت سماء الدولة بأسرها محتجبة خلف العلم الأسود، وحل نشيد الولاء للدولة المزعومة محل النشيد الوطني، وصار البشر مجرد أرقام بلا قيمة.

وقد مضت الرواية إلى تلخيص حال الجميع في منظومة عائلة هيلين المتهاوية. كل شيء تبدل إلى عبث في بيت الأسرة المعادل للوطن برمته، فلم يعد هناك معنى للحب الصافي، ذلك الذي ربط الفتاة هيلين بالشاب إلياس حين تقدم لخطبتها ففضلته على التاجر الثري إيماناً بتآلف القلوب، ولم يعد هناك مغزى للإنجاب وتربية الأطفال ما دام مصير الصغار إلى معسكرات القتال ومآل الكبار إلى الدفن أحياء، ولم تعد هناك فائدة من كسب الأموال ما دامت ستُدفع جزية أو فدية لملثمين ومقنعين يمسكون سيوفاً ويعيثون فساداً في الأرجاء بغير رادع.

شعاع الأمل

لقد سد الاختناق كل المنافذ، حتى الأحلام، ففي منامها ترى هيلين نفسها مختبئة دائماً، ومرة في حلم غريب كانت هي الزوج على الرغم من أنها امرأة، وقد اغتصبوا زوجته أمام عينيه وهو يصرخ بهم، وهم لا يرونه ولا يسمعونه. وفي ذروة هذا الإحباط، رفضت هيلين أن تجلب قطعة قماش إلى خيمتها لترقيع ثقب فيها ومنع تسرب الماء إلى الخيمة إذا هطل المطر، مفضلة أن تتركه، لأنها من خلال ذلك الثقب ترى النجوم في الليل، مما يمنحها إحساساً بالأمل في تلك العتمة التي تلف السجن. ولولا أنها تسلقت شعاع النور الاستثنائي، لما تمكنت ذات فجر من الهرب بمساعدة بعض المخلصين والأصدقاء القدامى.

إن ما أنجزته رواية "وشم الطائر" يكاد يقترب من حفر بطلتها هيلين مساراً رفيعاً نحو الضوء والأمل، فقد وجهت الرواية رسالة مكثفة الومضات إلى الضمير الإنساني ليعاد تشغيله في العالم المتبلد، وأسقطت كل أوراق التوت عن ممارسات "داعش" التي فاقت التصور، وبات تجريمها واجباً ليس فقط على السياسيين والحقوقيين، وإنما كذلك على المثقفين والأدباء.

المزيد من ثقافة