مع بوادر الانفراج القريب في الأزمة الليبية، وتواصل المفاوضات على أكثر من صعيد، بين طرفي النزاع الليبي، عادت تركيا لتعقيد المشهد بتحركات عسكرية قبالة الشواطئ الليبية. ما يهدد بنسف جهود التسوية التي لقيت دعماً وترحيباً دوليين منذ الإعلان عنها.
يأتي ذلك بالتزامن مع توصّل الأطراف الليبية إلى تفاهمات مهمة، حسب تصريحات لممثليها في الحوارات الناشطة في المغرب وسويسرا ومصر، وبالتزامن مع إعلان الأمم المتحدة عن اتخاذ خطوات فاعلة لدعم هذا التقدم في المسار السياسي، وكشفها عن اقتراب الاتفاق على اسم جديد لرئاسة بعثتها في ليبيا ووضع اللمسات النهائية لاستئناف الحوار الليبي الذي ترعاه على مسارات ثلاثة.
في المقابل، تواصلت التظاهرات الشعبية في مدن شرق ليبيا وجنوبها، واتسعت رقعتها لتشمل مدناً أخرى، احتجاجاً على تردي الأوضاع في القطاعات الخدمية والاقتصادية. ويطالب المتظاهرون بإنهاء الانقسام وتجاوز المرحلة الانتقالية الحالية.
ومن جهة أخرى، ذكرت السفارة الأميركية في ليبيا اليوم السبت أن قائد قوات شرق ليبيا (الجيش الوطني الليبي) خليفة حفتر تعهد بإنهاء حصار المنشآت النفطية المستمر منذ شهور. وقال البيان إن الجيش الوطني الليبي نقل "الالتزام الشخصي للمشير حفتر بالسماح بإعادة فتح قطاع الطاقة بالكامل في موعد أقصاه 12 سبتمبر (أيلول)".
تصعيد في وقت حرج
أعلنت وزارة الدفاع التركية، الجمعة 12 سبتمبر (أيلول)، إجراء تدريب على البحث والإنقاذ قبالة السواحل الليبية. ما أثار انتقادات وتساؤلات كثيرة في ليبيا، حول الهدف من العملية والتوقيت الذي اختير لها، تزامناً مع بوادر توافق أطراف النزاع الليبي على خريطة طريق شاملة للحل السياسي.
وقالت الوزارة التركية، في بيان، إنها "أجرت التدريبات بواسطة فرقاطة تي سي جي غمليك، ومروحية كانت على متنها، في إطار فعاليات مجموعة المهمات البحرية التركية".
وتأتي التحركات التركية في وقت يشهد فيه البحر الأبيض المتوسط توتراً شديداً، بسبب خلافات حول الحدود المائية بين تركيا وعدد من دول في الاتحاد الأوروبي في مقدمها فرنسا واليونان وقبرص، إضافة إلى الخلافات في شأن الملف الليبي والتداخل التركي العسكري والسياسي في الجارة الجنوبية لأوروبا.
تهديد أوروبي لأنقرة
صعدت عواصم أوروبية عدة لهجتها ضد تركيا، مع إصرار الأخيرة على المضي في مشاريعها في ليبيا والبحر المتوسط، والتي تشكل تهديداً مباشراً لمصالح القارة العجوز. والجديد في التصريحات الأوروبية الموجهة إلى أنقرة، هو تهديد باريس وروما بالمواجهة العسكرية إذا ما رفضت تركيا التوقف عن تهديد مصالحها.
واعتبر وزير الخارجية الإيطالي، لويجي دي مايو، أن "الوجود التركي في ليبيا هو نتيجة دعمها العسكري لحكومة الوفاق".
وقال إن بلاده "لم ترغب في التدخل العسكري في ليبيا تماشياً مع دستورها وقيمها، أما من الآن فصاعداً، فيتعين على روما التعامل مع الوجود التركي المتزايد في ليبيا بشكل آخر".
وكان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أطلق تصريحات لافتة في شأن الأزمة بين بلاده وتركيا، التي وصلت إلى حافة المواجهة المباشرة في البحر الأبيض قبل أشهر. وشدد ماكرون على ضرورة "اتخاذ نهج صارم ضد تركيا في ظل تصاعد التوتر شرقي البحر المتوسط"، مؤكداً أن "هناك رغبة أوروبية في تجنب التصعيد مع أنقرة، قدر الإمكان".
ورد وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، على تصريحات الرئيس الفرنسي بلهجة لاتقل حدة، قائلاً إن "التزام بعض الجهات الصمت، سيكون كافياً لخفض التوتر شرق المتوسط"، واصفاً تصريحات ماكرون بـ"أنها أكبر من حجمه وتجاوز للحدود وتهدف لزرع الفتنة". وأضاف أنها "لن تجد لها آذاناً مصغية من الشعب التركي".
بنغازي تهاجم أردوغان
ومن بنغازي، مقر قيادة الجيش الوطني الليبي، جاء الرد على التصعيد التركي على لسان مدير التوجيه المعنوي في الجيش، خالد المحجوب، الذي صرح بأن "الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يحاول إثبات أنه موجود ومازال قادراً على الفعل في ليبيا، وذلك عكس الحقيقة".
وأضاف أن "خيارات تركيا في ليبيا باتت محصورة ومحدودة، وألاعيب أنقرة على كل الخطوط الدولية، أصبحت مكشوفة للجميع".
وأكد المحجوب أن "الجيش ملتزم بوقف إطلاق النار، وفق إعلان القاهرة، لكنه جاهز للرد على أي انتهاكات أو مساس بالأمن القومي الليبي".
دلالة التحركات التركية
ويرى الكاتب علام الفلاح دلالات عدة للتحركات التركية في هذا التوقيت "فهي تؤكد مرة أخرى أن الأطراف الليبية هي الحلقة الأضعف في سياق الأزمة، أمام حلفائها وخصومها من الخارج، المتداخلين منذ سنوات في الملف الليبي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتقد الفلاح أن "التحركات التركية تؤكد أن حليفها في طرابلس ليس له سلطة على قراره، ولاسيادة ليفاوض، ففيما يجلس إلى الطاولة للتفاوض تقوم أنقرة بما يخالف جهود التسوية وينسفها".
ويعتبر أن "التصعيد التركي يندرج في إطار إدارة الصراع ومعادلة التوازنات في البحر الأبيض، ويأتي بتوجيه أميركي وضمن الخطط الاستراتيجية لواشنطن، في شأن هذا الصراع، عبر وكيلها في المنطقة أردوغان".
أما أوروبا، وفق الفلاح، "فقد باتت تدرك ذلك أن حلف الناتو بات يخدم أغراض واشنطن فقط ويشكل تهديداً لمصالحها وأمن دولها، لذا تعمل أوروبا على توحيد جهودها ورص صفها لمواجهة هذه التحديات الخطيرة".
استمرار الاحتجاجات الشعبية
في سياق آخر، شهدت مدن ليبية عدة، مساء الجمعة 11 سبتمبر، تظاهرات شعبية حاشدة، احتجاجاً على تردي الأوضاع على المستويات كلها في البلاد. وشملت هذه الاحتجاجات مدن بنغازي (لليوم الثاني) والبيضاء وشحات وطبرق، شرق ليبيا، وسبها وجالو وغات والبوانيس، في الجنوب الليبي.
ورفع المتظاهرون شعارات منددة بسوء الأوضاع المعيشية التي تمر بها ليبيا، وخصوصاً الانقطاع المتكرر للكهرباء واستشراء الفساد ووصول البلاد إلى حافة الإفلاس المالي.
ورد رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، في بيان على مطالب المتظاهرين، في المنطقة الشرقية. جاء فيه أن "ليبيا تمر بضائقة مالية بسبب سيطرة الميليشيات المسلحة على مصرف ليبيا المركزي وحكومة السراج، ولم يحصل المواطن حتى على أدنى متطلباته اليومية، في بلد يُعتبر من أغنى الدول في الثروات، بالإضافة إلى أن التدخلات الخارجية وانقسام مؤسسات الدولة أدت إلى تردي الأوضاع المعيشية والخدمية للمواطن".
أضاف "من أجل حصول المواطن على حقوقه، نرى أن الحل هو تشكيل سلطة جديدة واحدة تنال ثقة الشعب ودعم المجتمع الدولي".
وفي شأن التظاهرات التي خرجت في مدن عدة، في الشرق الليبي، قال "تلبيةً لمطالب المواطنين، دعونا الحكومة والجهات التابعة لها إلى الاجتماع، لتحقيق المطالب المشروعة للمواطنين، ومعرفة أسباب القصور والتقصير والتأخير في توفير إحتياجاتهم، وستتخذ الإجراءات اللأزمة لوضع الأمور في نصابها الصحيح"، حسب قوله.
أضاف "كلفنا الجهات الرقابية بالتحقيق الفوري في ما يُثار من شُبهات فساد، على أن يتم إعلان النتائج في أقرب وقت لمحاسبة من يثبت تورطه فيها".