Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الحفار" يكشف ما خفي في قبور السوريين في رحلة في عالم الأموات

يتحاشى الناس معرفة حفار القبور لأنه يذكرهم بالموت، يصافحونه على مضض ويعلمون أن يده تلامس أجساد الأموات، والعظام والجماجم على الرغم من أن مهنته (إكرام الميت دفنه)

حفار القبور في قبر يمسك بقوارير الزيت والعدس بعد فتح قبر قديم (اندبندنت عربية)

"مصائبُ قومٍ عند قوم فوائدُ" هو حال حفار القبور، بالموت وحده يحيا ويكسب رزقه ولقمة عيشه، هو الرجل الذي لا يعرفُ للموت هيبةً أو رهبةً، يتعامل مع الأموات نازعاً من قلبه أي خوفٍ أو توجسٍ أو حساب للمجهول، والمقبرة بالنسبة إليه مملكته من دون أن ينازعه أحدٌ عليها.

يجلس حفار القبور الملقب بأبو أحمد، على كرسيٍ خشبي بانتظار زائرٍ وافته المنيّة يطلّ عليه ليكسر وحشة وحدته، أمام مشهد القبور المتراصة بكثافة قرب بعضها بعضاً، مستقبلاً جنازة لأحد الأموات قادمة من بعيد.

هنا مكان القبر

من مكانه، يقف مستقبلاً الميت رافعاً يديه إلى السماء قارئاً سورة من القرآن الكريم، بصوت مرتفعٍ أمام أهل المتوفى وما أن يمسح وجهه حتى يلتقط فأسه، ويمشي أمام جنازة الميت المحمول على الأكف إلى مكان دفنه ويتبعه الناس كأنه ربان سفينةٍ، أو كقائد عسكري يبسط سلطته، وبعبارات مقتضبة وحازمة إلى أهل الميت (هنا مكان القبر)، (ضعوا الميت هنا)، بينما يشير إلى مساعديه بأن يبدأوا بالعمل معه لدفن (المرحوم).

إكرام الميت ومعانة الحفار

يتحاشى الناس معرفة حفار القبور، لأنه يذكّرهم بالموت، وبالقبر، يصافحونه على مضض ويعلمون أن يده كانت تلامس أجساد الأموات، والعظام والجماجم، وعلى الرغم من أن مهنته (إكرام الميت دفنه) ومع نبل هذه المهنة، إلا أن نظرة المجتمع تبقى قاصرة، وكأن الحفار هو السبب في موتهم، ولم يسأل أحد نفسه أن هذا العامل المسكين ليس سبباً في الموت بل هو من يداوي الموتى بدفنهم.

النظرة الاجتماعية القاصرة إلى حفار القبور ترسخت عند الكثيرين، وتتمثل في أن هذا الشخص (الحفّار) هو شخص مجهول لا يمتلك القلب أو الحنان الكافي، ليكون على استعداد لإقامة علاقات اجتماعية بحكم مهنته هذه.

أحد العاملين في حفر القبور يعلّق بالقول "مهنتي هذه أتت بالمصادفة كوني لا أملك غيرها ولكن بصراحة نعاني من نظرة المجتمع القاسية بالنسبة إلينا، إذ تقدمت لخطبة إحدى الفتيات بعد أن تبادلنا معاً مشاعر حب واحترام ولكن أهل الفتاة رفضوا بسبب مهنتي".

عالم الأموات هنا

بأداة (الرفش) يرفع آخر حفنة من تراب قبر قديم يعود لـ30 سنة مضت، يعلم جيداً تواريخ القبور وتوزعها وتاريخ دفنها، إنه موسوعة في تاريخ المقابر والموتى وحتى كيف ماتوا، لا يمكن أن تخفي استغرابك من جودة ذاكرة هذا الرجل الذي لا يقتصر على القبور التي حفرها والبالغة عشرات الآلاف من الموتى، وأين هي الأمتار التي تضمهم في الأرض، بل كم عدد الموتى المدفونين في كل قبر، حتى القبور التي لم يحفرها.

 يقول "توجد قبور تعود لمئات السنين، قديمة جداً، ويمكن أن أحفر قبراً من القبور مجدداً لأضع فيه ميتاً، بشرطين أن يكون القبر قد أتمّ عامه الثامن، والشرط الثاني أن يكون من أفراد العائلة".

ويتبع حفارو القبور هذا الخيار بأن يضعوا الموتى مع بعضهم بعضاً، لأنهم يفتقدون للمساحات الكافية خصوصاً أن المدينة تعرضت للكثير من المعارك وسقط الكثير من الضحايا، ما اضطر أهالي الموتى ليدفنوا موتاهم في حدائق المدن أو في منصفات الشوارع، وحصل ذلك في أحياء غرب مدينة حلب.

 

خفايا القبر

(كل نفس ذائقة الموت)، آية قرآنية تكتب على ما يسمى "شاهدتين" وهما عبارة عن حجرتين كبيرتين يتفاوت طولهما، وتُوضعان على القبر مباشرة في شكل متقابل ومتباعد، كما يتدرج القبر على طبقات حجرية عدة أيضاً متسعة في الأسفل وضيّقة الطبقات في الأعلى، ويصل عمق القبر إلى (160) سنتيمتراً، وما خفي فيه هو الأعظم.

أما بالنسبة إلى (الشاهدتين)، فيجري التخطيط عليهما وأبرز الخطوط المستخدمة هي خطوط الفارسي والكوفي والثلث، ويكتب على الشاهدة (اسم المتوفى، واسم والده، وتاريخ وفاته بالعام الهجري والميلادي، وآيات قرآنية).

يكشف أبو أحمد، تفاصيل عن وجود تقاليد لدى بعض السوريين، والتي تزداد غرابة حين تعلم أنهم يدفنون مادتين غذائيتين، لا يعلم حفار القبور الفائدة من دفنهما هما، قارورة من (الزيت)، وأخرى من مادة (العدس) محكمتا الإغلاق توضعان في مكان مخصص لهما في جدار بحجم القارورة.

ميت فقير وميت غني

مراسم الدفن التي تعتمد على حمل الميت في صندوق خشبي على الأكف وصولاً إلى القبر للدفن، ينتظر معها الحفار مراقباً تلقين (الشهادتين) من قبل الشيخ ومتأهباً ليرمي التراب على الجثة.

 لكن الحفار يجد تفاوتاً بين الميت الفقير والميت الغني، لأن أهل الميت الغني يكونون أكثر كرماً بالمال أو حتى بتوزيع بعض قطع الحلوى على الحاضرين، ويُبالغ في قبور الأغنياء لتصل إلى درجة وضع أحجار غالية الثمن ذات تكاليف مالية عالية، ويشير الحفار إلى حجارة بكلفتها يمكن بناء منزل صغير، إضافة إلى بعض القبور بأقفاص حديدية مقفلة.

 ويعتقد، أهل الميت أن الزيت الذي يدوم مدة من الزمن ويستخرجونه بعد فتح القبر لاستخدامه لدهن الأرجل، مفيد كونه قديماً وظل سنوات في مكان مظلم ومحكم الإغلاق، بينما مادة العدس ووفق كلامه فلا يعرف الحفار بماذا تفيد.

مهنة الآباء والأجداد

اقتحم أبو أحمد عالم الأموات وكما يحلو للبعض تسميته (التربي) كمهنة يمارسها منذ صغره، أورثها له والده ونقلها عن أجداده وهم العاملون بجدارة في مهنة الموت لتشتهر عائلة الحفّار بهذا العمل، وكأن مهنة الموت قدرها بامتياز أن تتوارثها العائلة جيلاً بعد جيل.

 أما أولادي فأَبَوْا أن أورثهم هذا العمل، إذ لا يرغبون في أن يكونوا حفاري قبور، لقد عملت 40 عاماً في هذه المهنة وأعرف كثيراً عنها. بهذا يجزم أبو أحمد كلامه عن مهنة عائلة ستطوي آخر صفحة من صفحات مسيرتها بعد مفارقته للحياة لأنه سيكون آخر "تُربي" من إرث العائلة الممتد طويلاً في مدينة حلب، ومستذكراً معها تفاصيل عمله مع أبيه وجده لكنه لا يجد بُداً من تعليم مساعده الفتى تفاصيل العمل وإتقانه.

 ينتزع هذا الرجل الخمسيني فأسه، واضعاً إياه على كتفه المتعب بيومٍ عاصفٍ تتطاير أتربة المقبرة على كل زائر آتٍ إلى زيارة قبرٍ يخصه، متحاشياً رهبة غبار القبور أن تعلق بثيابه، بينما ينظر حفار القبور بتهكم، وبثيابه الرثة التي تآكلت من العمل في هذه (التربة) وأكلت من جسده النحيل.

في نهاية ظهيرة اليوم يرمي "التُربي" أبو أحمد ومساعده الفأس، والرفش جانباً، جالسين قرب القبر الرابع الذي أنهوا للتو مراسم دفن أحد موتاه، ملتقطين أنفاسهما بعد يومٍ شاق، ولتستمر الحياة ويظل الحفار ومساعده باستقبال زائرين قبض أرواحهم (هادم الملذات ومفرق الجماعات).

المزيد من العالم العربي