Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بطل الحبيب السالمي يعيش اغترابه التونسي في باريس

"الاشتياق إلى الجارة" قصة حب مضطرب بين الأستاذ الجامعي كمال عاشور والخادمة زهرة

الروائي التونسي الحبيب السالمي (دار الآداب)

يلاحظ كلّ قارئ أقام في باريس وبين أهلها أنّ الحبيب السالمي في روايته "الاشتياق إلى الجارة" (دار الآداب 2020)، ينقل حياة باريس والعلاقات التي تربط الباريسيّين بغيرهم من الوافدين إليها، وبخاصّة العرب منهم، ب دقّة وأمانة ومصداقيّة، غير غافل عن أيّ كليشيه متعارف عليه. فيصف السالمي العنصريّة الممارسة على العرب، كما ينقل الآراء المسبقة حولهم، آراء ليست خاطئة دائماً بالضرورة إنّما هي مجحفة من دون شكّ. ومن المعلوم أنّ العرب المغاربيين طالما تمتّعوا بمكانة خاصّة في باريس، ومن بينهم التوانسة، وهو أمر لا يخفى على الحبيب السالمي الكاتب والروائيّ التونسيّ المقيم في باريس منذ ثمانينيّات القرن العشرين، فجاءت روايته "الاشتياق إلى الجارة" لتكلّل هذه التجربة وتضعها بين أيدي القرّاء وتنقل لهم قطعاً من يوميّات راوٍ تونسيّ متزوّج من فرنسيّة ومقيم في باريس منذ سنوات شبابه.

والمثير للاهتمام في هذه الرواية أنّ الراوي وهو الأستاذ الجامعيّ التونسيّ كمال عاشور، متزوّج من بريجيت امرأة فرنسيّة جميلة وأنيقة، لكنّه على كونه تونسيّاً يراه القارئ يتبنّى آراء الفرنسيّين بالعرب ويضع نفسه في الخانة نفسها معهم. يشهد القارئ على انحياز الأستاذ كمال عاشور إلى الباريسيّين وتبرّيه من العرب وسمعتهم، حتّى أنّه يلوم نفسه طيلة السرد على وقوعه في حبّ جارته التونسيّة التي لا ترقى إلى مقامه ومكانته. وكأنّ عيب قصّة الحبّ هذه لا يكمن في أنّ الأستاذ كمال يخون زوجته التي يحبّ، إنّما في أنّ المحبوبة التي يقع في غرامها هي الجارة التونسيّة زهرة التي تعمل خادمةً في البيوت. فتستأثر زهرة بجلّ الكلام ويتمحور السرد في هذه الرواية حولها منذ العنوان، لتشكّل عقدة الراوي الوحيدة في هذا النصّ. فكيف لرجل بمزاياه أن يُغرم بامرأة لا تملك أيّة خصال اجتماعيّة أو ثقافيّة تليق به؟ كيف لأستاذ جامعيّ متزوّج من فرنسيّة موظّفة في مصرف مرموق أن يُغرم بخادمة تونسيّة؟ فيقول الراوي الأستاذ كمال عن جارته زهرة وعائلتها ومنذ بداية السرد: "ليست من مستواي الاجتماعيّ والثقافيّ. ثمّ إنّ الصورة التي تقدّمها عن التونسيّين ليست جيّدة." (ص: 16)، وكأنّ الراوي يعاقب جارته على جنسيّتها وهويّتها وعملها بدلاً من أن يجد فيها مرآة للمرأة العربيّة العاملة القويّة التي تقوم بأود عائلتها وتكدح بكرامة وجدّيّة لتحافظ على بيتها وشؤونها.

تونسيّ يكتب بقلم فرنسيّ

يتحدّث الراوي التونسيّ الأستاذ كمال عاشور عن العرب بلسان الفرنسيّين، فيستعمل طيلة السرد ضمير الغائب الجمع "هم" عندما يريد الإشارة إليهم، وكأنّه يأخذ طرف الفرنسيّين وينسى انتماءه الأوّل إلى التونسيّين. ولا يتردّد الراوي في التحدّث عن التونسيّين واصفاً عاداتهم كما يفعل قسم من الباريسيّين، فيقول عن شوارع العرب وأماكن سكنهم في باريس: "العرب، مثل زهرة وزوجها اللذين ينتميان إلى وسط اجتماعيّ متواضع ولهما ثقافة محدودة، لا يختارون عادةً الإقامة في شقق تقع في باريس وأغلب سكّانها فرنسيّون، حتّى لو كانت لهم إمكانيّات مادّيّة كبيرة. إنّهم يؤثرون الإقامة في بلدات الضواحي ومدنها حيث يتواجد العرب بكثرة" (ص: 9).

ويظهر الراوي التونسيّ بمقام الرجل المغرور هو الذي يرفض أن يُصنَّف كبقيّة العرب وبقيّة التونسيّين، وكأنّ هذا الواقع أو هذا الانتماء إلى الأصل العربيّ مصدر عار له: "سبب انزعاجي أنّ مدام ألبير وضعتني من دون قصد في الخانة نفسها مع منصور السيّء السمعة في العمارة. كأنّ لا فرق بيننا لأنّنا تونسيّان. نسيت أنّني أستاذ أعلّم في الجامعة" (ص: 79). ويخطئ من يظنّ أنّ غرور الراوي مصدره علمه أو شهادة الدكتوراه الحاصل عليها أو عمله كأستاذ رياضيّات في جامعة محترمة، إنّ الراوي يتمتّع بعقليّة طبقيّة عنصريّة لا تخفى على أحد، فهو طالما تحدّث بفوقيّة عن العرب كما أنّه لم يكفّ طيلة السرد عن إبداء استغرابه من وقوعه في حبّ امرأة عربيّة اسمها زهرة، ليكون مصدر استغرابه الوحيد هو كيف أنّ رجلاً بمقامه يمكنه أن يُغرم بخادمة تونسيّة: "وما فاقم ذهولي وخجلي هو نوع المرأة التي أثارت في نفسي مثل هذه الأحاسيس... لا يليق لرجل في عمري ومقامي وثقافتي أن ينساق لمثل هذه الأمور" (ص: 27).

وعلى الرغم من أنّ بريجيت زوجة الراوي كمال تظهر بمظهر المرأة الهامشيّة التي لا دور لها ولا وجود، يكتشف القارئ مع تطوّر الفضاء السرديّ أنّها تشكّل قوّة نفسيّة ضاغطة ومخيفة بالنسبة لكمال. إنّ بريجيت متوغّلة في فكر الراوي ووجدانه وهي التي تحدّد وجوده ومكانته وهويّته التي لم تعد عربيّة تماماً، فيعتبرها أعلى مكانة منه ويعتبر أنّه بزواجه منها لم يعد يشبه التونسيّين الآخرين. فيتبنّى كمال آراء زوجته وتصرّفاتها ونمط عيشها بشكل تلقائيّ، كما ينساق لها ويخشى أن تغيّر رأيها فيه وأن تشبّهه ببقيّة العرب والتونسيّين. فيتحدّث الراوي في أحد مواضع السرد عن عدم شرائه حاجيّاته من محالّ أصحابها من العرب "لأنّ بريجيت ترى أنّها غير نظيفة كما ينبغي وتفتقر إلى شروط الصحّة." ومع ذلك، فهو يشتري منها أحياناً من دون علم زوجته ويكمل: "وبالطبع لا آكلها في البيت وإنّما في الشارع، خوفاً من انتقادات بريجيت." (ص: 19).

قصّة حبّ متعثر

يظنّ القارئ أنّ الراوي المتحدّث بصيغة المفرد إنّما هو البطل ومحرّك السرد، لكنّ هذا الأمر يتغيّر مع تقدّم الأحداث لتبدو الجارة زهرة هي البطلة الفعليّة والمحرّك الأوّل للرواية، فهي عندما تتدلّل على الراوي يشعر بقلبه يخفق لها ويزداد اضطرابه وتوتّره ويشعر بالذنب لأنّه أُغرم بامرأة تونسيّة غير متعلّمة، وعندما تعود لتقسو عليه وتُبعده عنها يُضطرّ للانصياع لرغبتها خوفاً من جفائها وحنقها.

ويتخبّط الراوي طيلة السرد بين حالتين تسيطران عليه، فتارة يكون العاشق الولهان الذي لا يعبأ بالنتائج ويتصرّف بتهوّر مع جارته المحبوبة، وطوراً يستعيد رشده ويفكّر بزوجته وحياته المستقرّة الهادئة ومكانته الاجتماعيّة والمادّيّة. وعلى الرغم من الدوّامة التي يعيشها كمال إلاّ أنّه لا يصل إلى نتيجة ولا إلى قرار كما أنّه لا يحدّد مسار أيّ حدث في حياته، فهو متلقٍّ يتصرّف وفق ما تقرّره الجارة التي قد تسمح أو لا تسمح بالقبلة أو العناق أو أيّ تصرّف آخر. فيوهم الأستاذ كمال قارئه طيلة السرد أنّ ميزان القوّة يميل لصالحه مع زهرة، بسبب تفوّقه الثقافيّ والمادّي ومقامه الاجتماعيّ، كما يوهم القارئ أيضاً بأنّ بريجيت هي الزوجة المسكينة المخدوعة التي لا علم لها بأيٍّ من أمور زوجها المغرم بامرأتين اثنتين في الوقت نفسه، إلاّ أنّ الواقع يؤكّد أنّ بريجيت وزهرة هما البطلتان الحقيقيّتان الوحيدتان للسرد.

"الاشتياق إلى الجارة" رواية الوجود التونسيّ في باريس، رواية الهويّة العربيّة والصراع الذي يعيشه أهلها، رواية الكليشيهات والأحكام المسبقة التي يعاني منها العرب في بلاد الغربة، رواية حبّ لم يُكتب له أن يعيش، رواية جارة تونسيّة جميلة تلعب لعبة إغواء بريئة ثمّ تنسحب منها قبل السقوط في حبائلها. ويلاحظ القارئ في الوقت نفسه أنّ هذه الرواية لم تدخل إلى الأعماق، لم تفصّل المشاكل والهموم، لم توجع ولم تزعج ولم تؤلم، لم تتحرّ الحالة الإنسانيّة والهمّ العربيّ بشكل متماسك وقويّ. صحيح أنّ هذه الرواية تتمتّع بسلاسة سرديّة وجزالة في الوصف باتا نادرين في الروايات العربيّة المعاصرة اليوم، إلاّ أنّها للأسف لم تمنح القصّة ما تستحقّه من وهج وعمق وتمزّق.

المزيد من ثقافة