Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحيل السينمائي ييري منزل رائد الموجة التشيكية الجديدة

كان يرى أن الفن يولد من الصراع ووقع مع جيله المتمرد بين قمعي النازية والسوفيات

السينمائي التشيكي الرائد ييري منزل (موقع المخرج)

توفي المخرج التشيكي الكبير ييري منزل (jiri menzel)، أحد رواد الموجة التشيكية الجديدة في الستينيات، إلا أن الخبر لم ينتشر سوى، الإثنين الماضي، بعد ما أعلنته زوجته أولغا على صفحتها الفيسبوكية. كان منزل الذي يعاني من مشاكل صحية منذ ثلاث سنوات، يبلغ من العمر 82، وذاع صيته في العالم بعد ما شكل مع ميلوش فورمان وفيرا شيتيلوفا وإيفان باسر ويان كادار، المجموعة التي نفخت روحاً جديدة في السينما التشيكوسلوفاكية في مرحلة ما قبل ربيع براغ. حكاية هؤلاء حكاية جيل كامل وقع بين سندان النازية ومطرقة السوفيات، وعندما مروا خلف الكاميرا قدموا سينما تحمل آثار تلك المرحلتين كأنها مشبعة بهما.

ييري منزل كان مختلفاً عن كل من سبقوه، صاحب لغة خاصة، مغاير في انحيازه للدعابة والمعارضة على النظام القائم، مفضلاً الطرح العبثي على الواقعية الاجتماعية التي غرق فيها كثر آنذاك. هذا لا يعني أن أفلامه كانت بعيدة عن الواقع، بالعكس تماماً، بل كانت مقاربته للواقع مختلفة، الشيء الذي سمح له بإنجاز أعمال مهمة صمدت في ذاكرة هواة السينما. ويُقال إن المخرج البريطاني كن لوتش معجب به، ويعتبره مرجعاً.

بداياته كانت غريبة بعض الشيء، لقد رفضت إدارة مدرسة المسرح ضمه إلى صفوفها، بحجة أنه "غير موهوب". لكن كما يُقال "لا تكره شيئاً لعله خير"، فهذا الرفض حمله على درس السينما. كان المخرج أوتاكار فافرا (1911 - 2011) الذي ألهم الموجة التشيكية الجديدة، أستاذه، وله فضل كبير في تكوينه وتأهليه.

أخرج منزل "قطارات مراقبة من قُرب" في عام 1966، بعد مجموعة أفلام قصيرة كان قد أنجزها داخل جدران المؤسسة التعليمية. شكل هذا الفيلم صدمة إيجابية على كل المستويات. لم يكن يتجاوز منزل وقتذاك الثامنة والعشرين عندما فاز بجائزة "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي عنه. يصور الفيلم المقتبس من رواية للتشيكي بوهوميل هرابال (1914 - 1997) والذي تجري أحداثه خلال الحرب العالمية الثانية، يوميات شاب يُدعى ميلوش يعمل في محطة قطار، ولكن لا يملك أي قدرة على السيطرة على أي عنصر من العناصر التي تنحصر بها حياته الرتيبة والمتكررة. هذا الشاب الذي يُغرم بسائقة قطار، سيصبح بطلاً رغماً عنه. إنه فيلم عن التوجس والمراقبة والبيروقراطية البغيضة وتدخل السلطة في كل تفاصيل الحياة في زمن سيطرة النازيين على براغ. السياسة والجنس يلتقيان أمام كاميرا منزل.

الفيلم يمتلك شخصية قوية بمشاهده الثابتة التي تنطوي على شيء من البورليسك، خصوصاً ذاك الذي نرى فيه رئيس المحطة يطبع مؤخرة زميلة له بالختم. إلا أن المشهد الذي يقول كثيراً عن البون الشاسع بين ما يعيشه الناس والحياة التي يحلمون بها، هو ذاك الذي يعرض قبلة مشتهاة ينتظرها ميلوش من فتاته المعشوقة وهي معلقة بقطار على وشك المغادرة. ميلوش ينتظر مغمض العينين مستعداً لتلقي القبلة، فلا يرى أن القطار قد غادر المحطة والفتاة أصبحت بعيدة. يعيده مديره إلى الواقع، عندما يقترب منه ويضع الصافرة في فمه، في لحظة تبدد كل الأحلام الوردية.

لم يكن "قطارات مراقبة من قرب" اقتباسه الوحيد لإحدى روايات الكاتب التشيكي الكبير. هناك خمسة نصوص أخرى لهرابال نُقلت إلى الشاشة. فيلمه "القبرة" الذي تجري أحداثه في الخمسينيات، منعته الحكومة في عام 1969 وما سُمح بعرضه إلا بعد 21 سنة. الفيلم عن عدة شخصيات اعتبرها الفكر الأيديولوجي الشيوعي آنذاك بورجوازية، فأجبرها على العمل في مكب كي يُعاد تأهيلها، وعلى سبيل التكفير عن ذنوبها، بعد ما وُجهت إليها تهمة الوقوف ضد الشيوعية. رغم المنع، فاز الفيلم بجائزة "الدب الذهبي" في الدورة 40 لمهرجان برلين السينمائي، أي في عام 1990، عن عمل أُنجز قبل 21 سنة في سابقة غريبة. بعد انتكاسة المنع، أُجبِر منزل على العمل في المسرح، وغاب عن السينما سنوات عدة، ليعود في عام 1974 بفيلم "مَن يبحث عن الذهب؟". في الحقيقة، طوال سنوات عبور الصحراء لم يُمنع من العمل، ولكن في المقابل، كان ضحية تحايل، إذ إن كل مشاريع الأفلام التي كانت تقترح عليه كانت عبارة عن نصوص يستحيل تحويلها أفلاماً.

لم يهاجر منزل إلى الخارج، ككثيرين غيره اتخذوا قرار الرحيل. ظل في بلده لتحدي منظومته واللعب على الحيز بين المسموح والمحظور. كان قراره هذا نابعاً من حاجته إلى التضامن مع زملاء له بقدر ما كان أيضاً من حقيقة أن جواز سفره كان محجوزاً لدى السلطات. وربما دفع ثمن مبادئه باهظاً. في أي حال، لم تجذبه أميركا، ولا تجربة العمل فيها، التجربة التي حكى عنها لاحقاً فورمان على النحو الآتي "اشتغلتُ في بلد شيوعي (تشيكوسلوفاكيا) واشتغلتُ في هوليوود. في الحالة الأولى، كنت سجيناً في حديقة حيوانات وأُطعَم كل يوم. في الحالة الثانية - أي في النظام الرأسمالي - خرجتُ من حديقة الحيوانات إلى الغابة، حيث الأقوى ينهش لحم الأضعف. في تشيكوسلوفاكيا الستينيات، فُتحت قليلاً قضبان حديقة الحيوانات. صار بإمكاننا أن نحلم بـ"حرية" الغابة. قررنا أن نتوجه إليها، ولكن اكتشفنا أن هذه الغابة ممكن أن تكون جد خطرة؛ فالنمر يهاجم الخروف، وهناك الناموس والأفاعي".

طوال حياته، لم يخف منزل من القمع الممارس عليه، قارب بين مسألة الرقابة والحرية بإيجابية. كان ضحية البيروقراطية والقيادات والمرجعيات السياسية التي تفتقد لأي روح دعابة. ولكن عرف كيف يتحايل على السلطة التي كانت الممول الأساسي لأفلامه التي كانت أحياناً تحظى بموازنة أضخم من أفلام الموجة الفرنسية الجديدة. كان يؤمن بأن أفلاماً كبيرة صُنعت في ظل قمع شديد، وأن الحرية المطلقة تعود بالضرر على الفن أحياناً؛ فعندما يكون كل شيء ممكناً أمامك، تفقد الاتجاه وتخسر الهدف. قرأتُ له مقابلة يؤكد فيها "كل عملية خلق في حاجة دائماً إلى حدود. هي تولد من الصراع. إذا لم يكن لك حدود ستقول أي كلام".

"قريتي الصغيرة" (1985) الذي رُشح لـ"أوسكار" هو عن شاب أرعن يُدعى أوتيك يعمل عند شاب آخر اسمه باتيك، ولكن الأخير ضاق ذرعاً بالمصائب التي يخلفها هذا الأرعن، فيقرر التخلي عنه، قرار سيكون تأثيره بالغاً في القرية حيث تحدث القصة. مع هذا الفيلم، ولاحقاً "حياة ومغامرات إيفان تشونكين" (1993) أو "خدمتُ ملكة إنجلترا" (2006)، وصلت أسلوبية منزل إلى ذروتها. أسلوبية تلتقي فيها صرامة التكوين البصري وخفة المضمون وهشاشة الشخصيات التي لا قدرة  لها على السيطرة على أي شيء.

عُرفت أفلام منزل بمنحاها الإنسانوي واستخدام الضحك للوصول إلى المبتغى. ذاك الضحك الذي لطالما كان العلامة الفارقة في سينما متحررة من القيود كافة. ولعل ما صنع أهمية هذا المخرج هو قدرته على دراسة الشخصية التشيكية بأدق تفاصيلها، وفي هذا كان سليل تراث أدبي تشيكي ترك فيه آثاراً بالغة.

كان ييري أقل شهرةً من ميلوش فورمان الذي أخرج أعمالاً من تمثيل نجوم كبار عُرضت في جميع أنحاء العالم وحصدت الجوائز. لكن لم يكن أقل موهبةً منه في شيء. التاريخ ونزواته لم يرحماه، فهو عاش شبابه وشيخوخته على هامش هذا كله، ولكن كان جزءاً من تيار فني حاربته العقيدة السياسية التابعة للاتحاد السوفياتي، لأنها لم ترَ فيه إلا انحلالاً أخلاقياً ورخصاً فنياً. اليوم، إذا أردنا الاطلاع على جزء من حياة التشيكيين في الماضي، يشكل منزل مرجعاً بلا شك. لقد نقل حيوات ناسه برومانسية في واحدة من أكثر الحقب التاريخية حرجاً. عرف منزل كيف يخاطب الروح التشيكية بانحيازه إلى الإنسان بشكل خاص، متحدياً بها الطهرانية في زمن كان العالم أحوج ما يكون إلى التغيير.

المزيد من ثقافة