Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جان دوست يستعيد حقبة تاريخية بآلامها وعبَرها

"مخطوط بطرسبورغ" رواية تعيد كتابة التاريخ عبر التخييل السردي

مشهد من مدينة بطرسبورغ تعود لسبعينيات القرن الماضي (غيتي)

الكاتب السوري جان دوست (1965) الكردي، وحامل الجنسية الألمانية، من مواليد مدينة كوباني، يواصل مسيرته الأدبية المتنوعة بين الشعر والقصة القصيرة التي نال عنها الجائزة الأولى عام 1993، لمجموعة قصصية في القصة القصيرة الكردية، عن قصته "حلم محترق"، كما تحولت قصته "حفنة تراب" وهي مكتوبة بالكردية، وتتحدث عن مشكلة الاغتراب الجغرافي، إلى فيلم سينمائي قصير، حصل على جائزة دمشق للفكر والابداع عام 2013، والتي أعلنتها مجلة "دمشق" الصادرة في لندن. كما للكاتب ثلاثة دواوين شعرية.

وإضافة إلى الروايات الأربع باللغة الكردية (مدينة الضباب، وثلاث خطوات ومشنقة، وميرنامه...)، صدرت لجان دوست ست روايات باللغة العربية، تضاف إليها روايته الجديدة، (دار الرافدين، 2020) والتي يستلّ موضوعها من التاريخ (أواسط القرن التاسع عشر).

حكاية الرواية، ذات المئة والتسعين صفحة، بسيطة للغاية، وهي أن الراوي المعاصر، الذي يبرز في مستهل الرواية، نراه قيد البحث عن مخطوط باللغة الكردية في إحدى المكتبات بمدينة موسكو، لكاتب كردي مجهول، ثم لا يلبث الروائي أن ينفذ من هذا الشق إلى عالم ذلك الكاتب ملا محمود البايزيدي وفي زمنه، منتصف القرن التاسع عشر، فيختلق له إطاراً مكانياً، وعلاقات بينه وبين القنصل الروسي، ذي الأصل البولوني، الذي كان مكلفاً من القيصر الروسي ألكسندر الثاني بتدوين تاريخ الشعب الكردي، على أن يكون المدوّن والمؤرّخ كردياً خالصاً.

وكان اللقاء بين الشخصيتين في آرضروم (أو أرض الروم) وتكليف أوغست جابا، للملا محمود البايزيدي كتابة تاريخ الشعب الكردي مدة سنتين، لصالح الأكاديمية العلمية القيصرية في بطرسبورغ، هو كناية عن تلاقي عالمين، أو شخصيتين نموذجيتين، تنتمي كل منهما إلى إطار حضاري مختلف، الإطار الإسلامي التصوّفي والكردي الذي يمثله الملا محمود البايزيدي، والإطار المسيحي الأرثوذكسي البولوني-الروسي الذي ينتمي إليه القنصل جابا. ولمن فاته الكلام على مسرح الأحداث، فإن هذا المسرح المكاني قائم في إقليم آرضروم الواقع في الشمال الشرقي من تركيا، وفي منطقة ينسبها البعض إلى الممالك الأرمنية القديمة.

مناخ متعدد

أما السؤال عن وجود قنصلية للإمبراطورية القيصرية الروسية، وتوليها من قبل شخصية محبة للعلم والثقافة والشغف بمعرفة الآخر(الأكراد) سبيلاً لحسن التعاون معهم، عنيت البولوني الأصل أوغست جابا، والداعي إلى وجود بعض الأرمن، وأفراد من أقلية اللاز والشركس وغيرهم، فهو سعي الروائي، المستلّ موضوعه من التاريخ، إلى تشكيل المناخ الاجتماعي والاتنوغرافي المتنوع في كيان الإمبراطورية العثمانية، أوائل القرن التاسع عشر، إطار السرد الزمني، وعلى امتداده الذي شهد تنامياً متصاعداً وعنيفاً للإتنيات والأعراق، متلازماً مع صراعات عنيفة غالباً ما دفعت الأقليات ثمناً باهظاً من وجودها وبشرها وأبنيتها الثقافية.

لسنا، في رواية "مخطوط بطرسبورغ" لجان دوست في إزاء رواية تاريخية كاملة الأوصاف، أو تامة الانغراس في الزمن الماضي والإمبراطورية العثمانية بتمام بنيانها، وإنما شاء الروائي من السمة التاريخية التي سلفت الإشارة إليها، أن يناقش أطروحة عزيزة عليه وهي التطلّب الفكري لدى الشعوب باعتباره معياراً لتقدمها أو تخلفها:"لكنني أقول لو أن أمراءنا التفتوا إلى أرباب القلم والمعرفة وعرفوا قوة الكلمة ومعنى أن تكون للأمم كتب وتواريخ وعلوم لما صرنا في هذه الحال" (ص156).

ولعل التطلب الفكري نفسه الذي أراده الكاتب الكردي جان دوست، ما قد يدفع النّخَب أو بعضها، وشخصيته النموذجية الملا محمود البايزيدي، العالم الزاهد بالدنيا والمؤمن، ماثلة للعيان، إلى مراجعة تاريخ جماعتها- بينما كان يكتب الملا تاريخها نزولاً عند رغبة القنصل الروسي أوغست جابا- وانتقاد لما "جرى في بلاد الكرد من حرب بالوكالة حيث لعبت قوات بدرخان بيك ونور الله بيك دور القوة العثمانية الضاربة لسحق النساطرة المسيحيين في هكاري وما حولها" (ص127-128).

وحتى ليمكن القول إن الرواية هذه، وإن اتخذ كاتبها التاريخ منطلقاً وغطاء، فإنه لم يدع سانحة إلا استغلها لكشف الغطاء عن مساوئ قومه، بل عن العلل التي حالت دون أن يكونوا أمة كريمة وذات سؤدد وكيان. ومن هذه العلل، اتّخاذ الدين والعصبية المذهبية مادة للصراعات، والانقسامات السياسية بين الأكراد، واستسهال انقلابهم بعضهم على بعض، وإن يكن وصفه لهذه الجماعات أتى على لسان جبل أرارات، مفخرة الأرمن والآروضروميين على حد سواء.

سرقة المخطوط

ولكن أين صارت حكاية مخطوط بطرسبورغ؟ في حبكة الرواية البسيطة والرئيسية، يتمكّن الملا محمود البايزيدي من إتمام كتابه التاريخي عن الكرد، من أول ظهورهم في التاريخ وإلى حينه في أواسط القرن التاسع عشر، ونال من القنصل الروسي عطاء جزيلاً من المال. غير أن المخطوط المذكور سوف يقيّض له ألا يصير كتاباً منضّداً، لأن القنصل الروسي، في سفره إلى موسكو، قاصداً مكتبتها وإدارة الكلية العلمية فيها لتسليمها المخطوط، وقع في كمين نصبته له جماعة من الجركس، جردته من كل غال وثمين ولم توفر المخطوط، الذي عمد بعض أفرادها الجهلة إلى إحراق أوراقه، واحدة تلو أخرى إذكاء للنيران وتدفئة للأبدان.

إذاً، يسلك الأسلوب الواقعي في سرد الأحداث، المستلّة من التاريخ انتقائياً، جنباً إلى جنب مع الأسلوب الفانتازي، والمتمثل باستنطاق الكائنات ذات الصلة تنويعاً لوجهات النظر أو التبئير المعتمد، وتنشيطاً للسرد وتخفيفاً عن كاهل الراوي العليم، وما يستجرّه من بعض الإملال. وبناء عليه، نرى الروائي يستنطق تباعاً مدينة كراسلافا، مسقط رأس أوغست جابا، قنصل روسيا وصديق محمود البايزيدي، فيجعلها تخبر عن موقعها في الأمبراطورية الروسية أوائل القرن التاسع عشر. ويستنطق قصر إسحق للغاية عينها، ومدينة فلنيوس، ونهرَ نيفا-سانت بطرسبورغ. مثلما يروح يستنطق الأسطوانة التاسعة في عداد أسطوانات مسجد المقبرة في تبريز، وجبلَ أرارات، والدفلى البيضاء النابتة في ضريح المتصوّف الأكبر جلال الدين الرومي، ونخلة مار بطرس في مدينة يافا عام 1832، ومسبحة الكهرمان التي أهداها أوغست جابا إلى الملا البايزيدي، ولا يزال حتى يستنطق مخطوط بطرسبورغ نفسه متحدثاً عن مصيره المحتوم، حرقاً، ورقة بعد ورقة، على يد أحد قطّاع الطرق الجركس، في ليلة ليلاء من برد شتاء قارس.

هل يمكن القول أن ثمة عودة إلى الرواية التاريخية، مع رواية "مخطوط بطرسبورغ" للروائي جان دوست، ولغيره؟ للإجابة أقول إن العودة إلى التاريخ في بعض روايات القرن الواحد والعشرين، لا يمكن مقارنتها بالمنهج التاريخي الذي اعتمده الأوائل، مع سليم البستاني (في رواياته التاريخية: زنوبيا، والإسكندر، وقيس وليلى، والهيام في جنان الشام) وجرجي زيدان بعده أوائل القرن العشرين (في رواياته الثلاث والعشرين ومنها: فتاة غسان وغادة كربلاء والحجّاج بن يوسف وفتح الأندلس وأحمد بن طولون، وغيره). ولئن كان ثمة أهداف مشتركة بين كتّاب الرواية التاريخية الرواد، وكتّاب الرواية التاريخية المعاصرين، ومنها إلقاء أضواء انتقادية على الحاضر، من أجل تحسينه، فإن افتراقاً واسعاً وأساسياً بين المنهجين، وهو أن الأوائل سعوا إلى استحضار الماضي بكل أبعاده، في حين أن المعاصرين، ومنهم جان دوست، بدوا انتقائيين وشديدي الحرص على استخدام تقنيات السرد الأحدث، والتي تتيح مكانة أوسع للقارئ، شريكاً في التأويل، على ما يقول أومبرتو إيكو.

 

المزيد من ثقافة