استخدم الرئيس الأميركي دونالد ترمب رحلته إلى مدينة كينوشا في ولاية ويسكونسن، التي شهدت إطلاق نار من الشرطة على رجل أسود أعزل، وما تبعها من اضطرابات وتدمير ممتلكات في أعمال شغب عرقية، لتسليط الضوء على أنه رجل القانون والنظام، الذي يحمي الولايات المتحدة من اليساريين الراديكاليين والغوغاء، باعتبار ذلك ميزة سياسية في الانتخابات ضد خصمه جو بايدن المرشح الديمقراطي للرئاسة الذي يتهمه بالضعف والخنوع لليسار. وهو ما بدأ يثير بعض المخاوف في أوساط الديمقراطيين الذين يخشون من نجاح ترمب وحملته في إعادة الناخبين المترددين ذوي الميول الجمهورية إلى تأييده في انتخابات الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
مكاسب سياسية
خلال زيارته كينوشا في ولاية ويسكونسن الحاسمة في الانتخابات، كانت رسالة ترمب واضحة، وهي أنه كي يتوقف العنف السياسي، يجب أولاً مواجهة الرسائل الأيديولوجية المتطرفة التي يحملها السياسيون المتهورون من اليسار المتطرف، والتي تقول إن الأمة الأميركية وقوات إنفاذ القانون قمعية أو عنصرية.
ويعتقد ترمب وحملته الانتخابية أنه في خضم الاحتجاجات العرقية بعد وفاة جورج فلويد، الذي قتلته شرطة مينيابوليس أواخر مايو (أيار) الماضي، يمكن تحقيق مكاسب سياسية على بايدن، كقائد أقوى يسعى إلى ضبط النظام وتهدئة التوترات. فقد وجه مراراً انتقادات ضد بايدن لأنه لم يفعل ما يكفي لإدانة حركة أنتيفا اليسارية المتطرفة. وربط بين نائب الرئيس السابق والمسؤولين المحليين في الولايات والمدن الديمقراطية التي شهدت احتجاجات باعتبارهم قادة يثيرون الانقسام في الأمة الأميركية بمواقفهم الرخوة، وعدم انتقادهم العنف الذي تديره الحركات اليسارية المتطرفة خصوصاً في مدن مثل بورتلاند في ولاية أوريغون وعدد من ولايات الغرب الأميركي.
جرعات السم
وقبل أيام استدعى الكاتب الجمهوري آرام باكشيان الذي عمل في المطبخ السياسي مساعداً لرؤساء أميركيين سابقين منهم ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد ورونالد ريغان، مقولة المفكر والعالم الأميركي جون اربوثنوت قبل ثلاثة قرون بأن "جميع الأحزاب السياسية تموت في النهاية بسبب تجرعها السموم التي أطلقتها".
واستشهد باكشيان بهذه الكلمات كي يؤكد أن الديمقراطيين ابتلعوا جرعات زائدة من السم أكبر من تلك التي تجرعها الجمهوريون خلال أحداث العنف الأخيرة في الولايات المتحدة، لأنهم بعد سنوات عديدة من الاستغلال الناجح للخوف والخداع والاستياء الطبقي والتوتر العنصري، تعاطى قادة ديمقراطيون جرعات ضخمة من الأيديولوجيا جعلتهم في حالة مُخدرة سياسياً، لدرجة باتوا معها يشيرون إلى "الغوغاء" معتبرين أنهم "الشعب". وهو خطأ قد يكلفهم كثيراً في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ويرى السياسي الأميركي السابق في مقال نشره موقع ناشيونال إنترست، أنه مع كل حالة حريق متعمد، وكل هجوم على المباني الحكومية، وكل تخريب، وكل تفجر جديد للنهب وإطلاق النار، يتسع الانقسام بين "الغوغاء" و"الشعب"، بينما يقف الحزب الديمقراطي على الجانب الخطأ من الانقسام.
اقتراع على النظام والقانون
يرى كثير من السياسيين الجمهوريين، منهم نائب الرئيس مايك بنس، أن الانتخابات المقبلة ستكون بمثابة اقتراع على"القانون والنظام"، لأن الولايات المتحدة تشهد بشكل متسارع مزيداً من القتل والحرق والسرقة والفوضى والصراخ، بل واحتشدت جماعات تحاول التنمر على رواد المطاعم الأبرياء لإجبارهم على إلقاء تحية قبضة اليد المشدودة التي استخدمها الشيوعيون قبل فترة طويلة من استيلاء القيادات الراديكالية على حركة "حياة السود مهمة"، ووصل الأمر إلى أبواب البيت الأبيض حين هدد عدد من المحتشدين شخصيات عامة مثل السيناتور راند بول وغيره من كبار الشخصيات الجمهورية بعد خروجهم مباشرة من البيت الأبيض ليلة قبول ترمب ترشحه للرئاسة من الحزب الجمهوري.
الثورة تأكل أبناءها
في ظل مناخ كهذا، يشير جمهوريون إلى أن الراديكالية المتشددة في أوساط الديمقراطيين تهدد قياداتهم ومناصريهم. ويستدلون على ذلك بأن حشداً من المتظاهرين الراديكاليين قام بنصب مقصلة خارج مقر إقامة جيف يبزوس، مالك صحيفة واشنطن بوست ومؤسس شركة أمازون العملاقة، وهو ما يعد دليلاً آخر على أن الثورة تأكل أبناءها، كما يقول المثل القديم. وهو ما ينذر بخطر محتمل قد يطال شخصيات ثرية مثل جورج سوروس، الملياردير الذي مول عديداً من الحركات اليسارية.
هكذا بدأ بعض العقلاء المنتمين إلى اليسار الاستيقاظ على الخطر، مثل الصحافي الليبرالي جورج باكر، الذي كانت كتاباته السياسية في صحيفة نيويوركر جريئة وغير مرتعشة، حيث دق ناقوس الخطر في مقال نشرته صحيفة "ذي أتلانتيك"، حذر فيه الديمقراطيين من أن ما حدث في كينوشا من حرق وتدمير للمتلكات سيكون أحد أسباب فوز ترمب بدورة رئاسية ثانية.
ويعتبر باكر أن تصريح نائب الرئيس بنس بأن الاقتراع المقبل يتعلق بالقانون والنظام، يجب أن يُؤخذ على محمل الجد من جانب الديمقراطيين وعدم تجاهل هذه الكلمات، واعتبارها مجرد نقاشات حزبية، لأنها في الحقيقة فعالة ومدعومة بحقائق.
الأسابيع التسعة
يدخل الرئيس ترمب التسعة أسابيع الأخيرة قبل موعد الانتخابات في الثالث من نوفمبر، على أمل أن يتوصل عدد كاف من الناخبين إلى استنتاج بأن الرئيس ليس سيئاً كما كانوا يعتقدون. ويحاول الجمهوريون وحملة ترمب كجزء من هذه الإستراتيجية، جذب انتباه الناخبين بعيداً عن الوباء والأزمة الاقتصادية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وترتكز خطة الجمهوريين إلى تسويق مفهوم محدد يقول إن الأمة الأميركية في حالة يرثى لها، ليس بسبب وفيات وباء كورونا، أو ارتفاع معدلات البطالة، أو الخلافات العرقية، ولكن لأن الليبراليين يريدون إلغاء المحافظين، ولأن المجرمين ينتقلون من المدن إلى مناطق الضواحي التي يسكنها البيض، ولأن البطاقة الانتخابية الديمقراطية بايدن- هاريس ليست إلا "حصان طروادة" لليسار الراديكالي بهدف تحقيق الاستبداد في السلطة على غرار نموذج فيدل كاسترو في كوبا.
وبالفعل، أصبحت هذه الأفكار والموضوعات تسيطر على وسائل الإعلام المحافظة. وظهرت في إعلانات حملة ترمب وغالبية المرشحين الجمهوريين على مقاعد الكونغرس، واستهلكت جزءاً رئيساً من خطابات المتحدثين على مدى أربعة أيام خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري. وحاول هؤلاء أثناءها تأكيد فكرة أن ترمب لا يعادي السود والنساء والمهاجرين، واصفين تلك التوصيفات المسببة للانقسام بأنها من افتراءات أجهزة الإعلام ذات الميول الديمقراطية التي تشوه الحقيقة وتصدر صورة مغلوطة عن الرئيس.
إستراتيجية 7 في المئة
يرى خبراء استراتيجيون في الحزبين أن هذه الإستراتيجية قد تحقق أهدافها، لأن التناقض بين ما قد يقوله ترمب وما تحمله رسائل حملته، من شأنه أن يربك العقل ويحيره.
ويشير خبراء استراتيجيون إلى أن إقناع الناخبين بأن ترمب ليس في الحقيقة بهذه الصورة، هي على الأرجح أفضل أمل لدى ترمب ليفوز بنسبة تراوح بين 5 إلى 7 في المئة تقريباً من أصوات الناخبين المترددين في الولايات المتحدة. وهو أمر ليس من السهل تحقيقه لأنه يتطلب إقناع الناس أنه لم يكن مسؤولاً طوال الوقت عما يفعل.
ويستهدف القائمون على الحملات الجمهورية في جميع أنحاء الولايات المتحدة، التأثير في فئة صغيرة نسبياً من الناخبين وهم الجمهوريون والمستقلون ذوي الميول الجمهورية، الذين لم يصوتوا في الانتخابات أو يعتزمون التصويت لمصلحة الديمقراطيين، لأنهم لا يحبون أسلوب عمل الرئيس ترمب وقيادته.
والهدف الإستراتيجي من الآن وحتى موعد الانتخابات هو جعل هؤلاء الناخبين الأكثر اعتدالاً يشعرون بالطمأنينة مرة أخرى تجاه الحزب الجمهوري، الذي يعتقدون أنه انحرف كثيراً في اتجاه اليمين، وأصبح كثيرون من أعضائه يتغاضون عن العنصريين والمتعصبين وغيرهم من المتطرفين من دون اعتذار.
إعادة الطيور الشاردة
تصف كريستين أندرسون، وهي جمهورية متخصصة في استطلاع الآراء، هذه الفئة من الناخبين "بالجمهوريين المتذبذبين" لأنهم غالباً ما يكونون مترددين بشدة حول من يصوتون يوم الانتخابات. ولهذا فإن هدف الجمهوريين هذا الخريف هو إعادة الطيور الشاردة وتذكير هذه الفئة بأنها جمهورية.
ولإعادة "الجمهوريين المتذبذبين" إلى الحزب لدعم ترمب في الانتخابات فثمة حاجة إلى تغيير آرائهم حول شخصية ترمب. وهو أمر صعب المنال، ولكن هناك سوابق تشير إلى إمكانية حدوثه. فقد فاز نيكسون في انتخابات 1968 بعد خسارتين مهينتين كان يعتقد أنهما حطمتا آماله في أن يصبح رئيساً، حين نافس جون كينيدي في انتخابات عام 1960، وبعد ذلك بعامين خسر مرة أخرى انتخابات خاضها لتولي منصب حاكم كاليفورنيا.
لكن نيكسون لم يكن لديه مستوى يقترب من قدر الاهتمام الإعلامي، الذي حظي به ترمب، ولم تكن لديه رغبة ترمب النهمة في أن يكون تحت دائرة الضوء طوال الوقت. فعلى مدى السنوات الخمس الماضية ومنذ أن بدأ ترشحه للمرة الأولى للرئاسة، ترك حضوره القوي في كل مكان قليلاً من الأميركيين من دون رأي واضح بشأنه، بل إن مركز بيو للأبحاث يشير إلى أن معدلات تأييد أداء ترمب الرئاسي كان ثابتاً بشكل استثنائي وأكثر اتساقاً مع الانتماء الحزبي أكثر من أي رئيس آخر في تاريخ الولايات المتحدة الحديث.
ترمب هو ترمب
ولكن، في المقابل، يرى بعض الجمهوريين المنشقين على ترمب أن تحقيق "حلم الرئيس" الفوز بالانتخابات لن يكون سهلاً، حيث تقول كارلي فايورينا التي نافست ترمب في الانتخابات التمهيدية الجمهورية عام 2016، إن ترمب هو ترمب ويصعب تغيير شخصيته. فهو يثير الجدل والصراع والغضب منذ كان نجم برامج تلفزيون الواقع الشهيرة، وحتى أصبح رئيساً للولايات المتحدة.
ومع ذلك، يعتبر مخططون استراتيجيون أن على ترمب وحملته الجمع بين دعم المتحمسين له واستقطاب المترددين في الوقت نفسه، لأن إستراتيجية القاعدة الانتخابية أولاً التي يشعر ترمب براحة أكبر معها، والتي اتبعها حزبه بإخلاص لم تخدمه جيداً. فقبل عامين ركز الجمهوريون خلال انتخابات التجديد النصفي للكونغرس على مجموعة من القضايا التي افترضوا أنها ستؤدي إلى زيادة الإقبال والتأييد داخل حزب سيطرت عليه شخصية ترمب والقضايا التي يثيرها، إذ نشر المرشحون من أوهايو إلى كاليفورنيا، إعلانات تحذر من العصابات الإجرامية والمخدرات التي تغزو الضواحي، لكن هذه الإستراتيجية نجحت مع قلة في الولايات الجمهورية الحمراء التي تنتخب الجمهوريين عادة.