لم يمض أسبوعان على زيارته الأولى إلى بيروت، غداة انفجار الرابع من أغسطس (آب) الماضي، حتى حط الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مجدداً في العاصمة اللبنانية المنكوبة، ليس بسبب الأضرار الفادحة للانفجار فحسب، وإنما من جراء الأزمة السياسية المستفحلة، في ظل انهيار اقتصادي ومالي غير مسبوق. وذلك بعدما وعد اللبنانيين بالمساعدة إنسانياً وسياسياً من أجل الوصول إلى عقد سياسي جديد.
وفي هذا الإطار، تصب الزيارة الثانية الهادفة إلى الإبقاء على أعلى درجات الزخم الدولي تجاه الوضع اللبناني، ومنع القوى السياسية الداخلية من الاستمرار في حال الإنكار للتداعيات الكارثية لانفجار المرفأ أولاً، ولانتفاضة الشارع في أكتوبر (تشرين الأول) ثانياً، تمهيداً لتأمين العبور الآمن إلى حكومة جديدة قادرة على ملء فراغ المرحلة الانتقالية الفاصلة عن التسوية السياسية الكبرى في المنطقة.
رسائل شديدة اللهجة
اليوم الطويل لماكرون لم يخل من الرسائل السياسية الشديدة اللهجة المقنّعة بدبلوماسية الإيليزيه. بلغت حد التهديد بأن لا دعم ولا أموال من دون إصلاحات، ذهب فيها المسؤول الفرنسي الأرفع أبعد في رسائله إلى حد التحذير القاسي بأن عدم السير بالإصلاحات سيُنزل بالسياسيين أشد العقوبات. وهذا التهديد الأول من نوعه فرنسياً، يأتي عشية وصول مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شينكر، وله دلالاته، كون باريس تمايزت دائماً عن الموقف الأميركي بخرق الحظر على إيران و"حزب الله"، فيما هي اليوم تتماهى مع واشنطن في اللجوء إلى العقوبات، ليس على الحزب فحسب، وإنما أيضاً على حلفائه في السلطة، والتي ستطال حكماً "التيار الوطني الحر".
أولى الرسائل الفرنسية استبقت وصول الرئيس بخطوتين: الأولى تمثلت في اتجاهين متوازيين، أحدهما الضغط على رئيس الجمهورية من أجل تحديد موعد لإجراء الاستشارات النيابية المُلزمة لتسمية شخصية تأليف الحكومة، والآخر الضغط على القيادات السنية من أجل ترشيح بضعة أسماء مقبولة منها لعرضها على فريق السلطة من أجل التوافق على أحدها. وهو ما حصل عملياً. نجح الضغط في إنتاج توافق على تكليف مصطفى أديب تشكيل الحكومة، وهو كان شغل منصب سفير لبنان في برلين، بعدما تولى إدارة مكتب الرئيس الأسبق للحكومة نجيب ميقاتي.
أما الخطوة الثانية فتمثلت في جدول برنامج زيارات ولقاءات ماكرون التي عكست موقفاً فرنسياً واضحاً لم يتراجع عنه سيد الإيليزيه: لا رضى عن السلطة وآدائها، والكلمة والدعم للمجتمع المدني. فلقاء القمة للرئيس الفرنسي لم يكن مع نظيره اللبناني كما درجت التقاليد والأعراف الدبلوماسية والبروتوكولية في العالم، بل مع السيدة فيروز، في تعبير صارخ للاحترام والعلاقات الثقافية والإنسانية والحضارية التي تجمع فرنسا بلبنان. كما شملت الزيارة زرع أرزة في غابة أرز جاج، وزيارة لمستشفى رفيق الحريري الحكومي، حيث تتم معالجة مرضى كورونا بكفاءة عالية على الرغم من الحملات الشعواء التي تعرض لها هذا المستشفى. وأيضاً لقاءات مع ممثلين للمجتمع المدني سبقت لقاءه القيادات السياسية.
ولفت في برنامج الزيارة لقاء ماكرون بالبطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي تعرض بدوره لحملة انتقادات شديدة على خلفية طرحه الحياد الناشط للبنان، كما لفتت الزيارة التفقدية الثانية لمرفأ بيروت حيث وقع الانفجار، وإلى جانبه وجوه اقتصادية ورجال أعمال، طرحت في دلالتها علامات استفهام حول الأهداف التي ترمي إليها فرنسا في ظل التنافس العربي والغربي والإيراني الشديد على تقاسم النفوذ في هذا المرفق الحيوي وفي إعادة إعماره واستثماره. وفي رأي مصادر اقتصادية مواكبة للزيارة فإن ملف المرفأ يوازي بأهميته الملف الحكومي، وسيستأثر بحيّز مهم من صفقة التسوية المرتقبة.
الصفقة الحكومية
وينشغل الوسط السياسي اللبناني اليوم في ترقّب ما ستبلغه الوساطة الفرنسية، وهل ستؤدي إلى تأليف سريع للحكومة أو أنه بمجرد مغادرة الضيف الفرنسي الرفيع، تعود القوى السياسية إلى مربّع التعطيل الأول. وبحسب المعلومات المتوافرة لـ"اندبندنت عربية"، فإن الخلاصات المستنتجة من اليوم الفرنسي الطويل في بيروت، يمكن إدراجها ضمن النقاط التالية:
إن تأليف الحكومة سيكون سريعاً ولن يتجاوز الأسبوعين على أبعد تقدير، وإلا فإن سيف العقوبات سيسلط فوق رؤوس القوى السياسية من دون استثناء، لا سيما أن الغالبية العظمى من هؤلاء منخرطة في عمليات الفساد والصفقات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شكل الحكومة العتيدة سيكون على مثال رئيسها، أي من التكنوقراط، ومن ذوي الاختصاص، ولن يكون هناك فيتو على الحقائب الأساسية التي تصر باريس على أن تكون في يد اختصاصيين وأصحاب كفاءة للسير بالإجراءات التنفيذية الكفيلة بإخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي.
إن البيان الوزاري للحكومة سيركّز على مهمتها، والتي وصفها ماكرون نفسه بأنها "حكومة مهمة" أو "Gouvernement de mission" وهذه المهمة ستنحصر في ثلاث نقاط رئيسية: تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمالية، إعداد برنامج مع صندوق النقد الدولي من أجل الإفراج عن الدعم المالي الدولي وأموال مؤتمر "سيدر" الدولي الذي عقد في أبريل (نيسان) 2018. بالإضافة إلى بند سياسي يتمثل بالإعداد للانتخابات النيابية.
أما في البعد السياسي للزيارة، فلوحظت المرونة التي تعامل بها ماكرون مع "حزب الله" الذي وصفه بالمكوّن اللبناني، الأمر الذي أثار تحفظات في الشارع وفي بعض الأوساط السياسية، دفعت النائب السابق وئام وهاب القريب من تحالف الثامن من آذار (مارس) ومن سوريا تحديداً إلى التنبؤ بعودة الانتداب الفرنسي بعد خروج السوريين، إذ قال في تغريدة "بعد الذي رأيناه من إذلال من يسمون أنفسهم زعماء وهم أصغر خدم لأي أجنبي، نستطيع القول إننا بدّلنا البرازق (الحلويات التقليدية السورية) بـ"الكرواسون" (الوجبة الصباحية الفرنسية الشهيرة).
ولا يستبعد سياسيون أن تصب هذه المرونة تجاه الحزب في إطار احتواء أي ارتدادات للتدخل الفرنسي المباشر في الشأن اللبناني، إذ يرى هؤلاء أن ماكرون يحرص على عدم استفزاز أي فريق من أجل إنجاح مهمته. وبدا واضحاً في المقابل أن فريق العهد ولا سيما وزير خارجيته السابق جبران باسيل، يقف في الصفوف الخلفية، ولا يظهر في الصورة، مقللاً من الظهور الإعلامي أو المواقف التي أوعز إليه تخفيفها في هذه الفترة، لا سيما أنه المستهدف الأول بالعقوبات التي تحدث عنها ماكرون.
سأغير مساري
ولم يرغب ماكرون في حصول أي تأويلات لنتائج زيارته من شأنها أن تحركها عن مسارها. لذلك حرص على إطلاق مواقفه في الإعلام وعبر تصريحاته. بالتزامن مع وصوله إلى بيروت، وبلهجة عالية النبرة، توجه في حديث إلى صحف فرنسية رافقته في الزيارة إلى السلطات اللبنانية مهدداً بمهلة ثلاثة أشهر للتغيير الحقيقي وإلا فهو سيحجب خطة الإنقاذ المالية، وسيلجأ إلى فرض عقوبات على الطبقة الحاكمة، قائلاً "إن الأشهر الثلاثة المقبلة ستكون حاسمة، كاشفاً أن الإجراءات العقابية المحتملة يمكن أن تتراوح بين تعليق مساعدات إنقاذ مالي وعقوبات على الطبقة الحاكمة". وإذ حث على ضرورة تشكيل الحكومة بسرعة، أكد "إصلاح الكهرباء ومعايير التعاقد الحكومي، والنظام المصرفي ومكافحة الفساد. وهو اقترح آلية متابعة للأشهر القليلة المقبلة، لأنه لن يعمد إلى تحرير أموال "سيدر" طالما لم تنفذ الإصلاحات، مؤكداً أنه "لن يتساهل مع هذه الطبقة السياسية ولا أستطيع أن أطرح نفسي بديلاً عنها، آملاً في أن تفرز الانتخابات النيابية واقعاً سياسياً جديداً إذا أراد الشعب اللبناني ذلك".
وأرفق ماكرون كلامه هذا بالتزام جدي، إذ أعلن قصر الإيليزيه على هامش الزيارة أن الرئيس الفرنسي سيعود إلى بيروت في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، ما يعني عملياً أن باريس ليست في وارد التراجع عن مبادرتها وعن الدور الذي تسعى إليه من البوابة اللبنانية، أو عن الفرص الاستثمارية المُتاحة للشركات الفرنسية في لبنان.