تدرس وزارة الخزانة البريطانية خيارات عدة لرفع الضرائب بغية توفير عشرات مليارات الدولارات سنوياً لسدّ جزء من فجوة العجز الهائل الناجم عن برامج الإغاثة الحكومية غير المسبوقة لدعم الاقتصاد في أزمة وباء فيروس كورونا (كوفيد-19). ونشرت صحيفتا "صنداي تلغراف" و"صنداي تايمز" تسريبات عن حجم ونطاق الضرائب المتوقعة في صدر صفحاتها الأولى، ما يوحي بأن الحكومة ربما تحضّر الجمهور البريطاني لصدمة ضرائبية في إعلان الميزانية التكميلية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
وليست تلك المرة الأولى التي تتسرّب فيها خطط ومقترحات لرفع الضرائب لتتمكن الخزانة من تعزيز مواردها في ظل الاقتراض العام الهائل الذي موّلت به برامج دعم الشركات والأعمال والبريطانيين المتضررين من الأزمة الصحية. وتجاوز حجم الدين العام الآن حاجز التريليونين ونصف الترليون دولار (2 ترليون جنيه إسترليني) للمرة الأولى في الوقت الذي انهارت عائدات الخزانة مع هبوط تحصيل الضرائب نتيجة تعطّل قطاعات اقتصادية عدة، وقرارات الحكومة بفترات سماح ضريبية لتشجيع الاقتصاد الذي دخل في أعمق ركود تشهده بريطانيا منذ ثلاثة قرون تقريباً.
ويواجه وزير الخزانة ريشي سوناك وضعاً غير مسبوق مع اضطراره إلى زيادة الإنفاق الحكومي عبر الاستدانة في وقت تنهار العائدات وموارد الخزينة العامة. على سبيل المثال، تكلف برنامج حماية الوظائف الذي تدفع بموجبه الخزانة القدر الأكبر من مرتّبات العاملين الذين تعطلت أعمالهم نتيجة وباء كورونا بنهاية شهر يوليو (تموز) الماضي أكثر من 31.7 مليار جنيه إسترليني (42 مليار دولار) ويزيد شهرياً بأكثر من 14 مليار جنيه إسترليني (18 مليار دولار). حتى برنامج دعم المطاعم والمقاهي بكوبونات خصم حكومية في الشهرين الأخيرين، فقد كلف الخزينة العام أكثر من 600 مليون جنيه إسترليني (800 مليون دولار).
ضرائب على الأغنياء
تستهدف مقترحات زيادة الضرائب توفير ما بين 20 مليار جنيه إسترليني (26.7 مليار دولار) ونحو 30 مليار جنيه إسترليني (40 مليار دولار) سنوياً للخزينة العامة يمكن أن تسهم في سدّ جزء من فحوة العجز في الميزانية. ولتفادي زيادة الضرائب على الدخل، التي تسبّب أضراراً انتخابية لحزب المحافظين الحاكم، تركّز خطط وزارة الخزانة على رفع الضرائب على الأرباح وضريبة الشركات.
وهناك اقتراحات أيضاً بفرض ضريبة مبيعات على التجارة الإلكترونية وكذلك إلغاء الإعفاءات الضريبية على أقساط معاشات التقاعد التي يستفيد منها نحو 4 ملايين بريطاني من أصحاب الدخول العالية. كما ستلجأ الخزانة إلى تقليص ميزانية المساعدات الخارجية التي تقدمها الحكومة البريطانية إلى الدول الفقيرة حول العالم. وقد تم بالفعل خصم ما يزيد على 2.9 مليار جنيه إسترليني (3.8 مليار دولار) من مخصصات المساعدات الخارجية في ميزانية هذا العام البالغة نحو 15.8 مليار جنيه إسترليني (21 مليار دولار). وقد تم دمج وزارة التنمية الدولية التي تتولّى المساعدات الخارجية للدول النامية والفقيرة مع وزارة الخارجية، ويحاجج البعض بأن بريطانيا ليست ملزمة بأن تكون المعونات والمساعدات الخارجية التي تقدمها بنسبة 0.7 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي كما هي الحال الآن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب ما نشرته "صنداي تايمز"، سيرفع وزير الخزانة ريشي سوناك الضريبة على الشركات من 19 في المئة حاليا إلى 24 في المئة، ما يوفر للخزانة عائدات ضريبية بقيمة 12 مليار جنيه إسترليني (16 مليار دولار) العام المقبل ترتفع إلى 17 مليار جنيه إسترليني (22.7 مليار جنيه دولار) في السنة الضريبية 2-23-2024. وسيكون مبرر وزير الخزانة أن نسبة الضريبة الجديدة على الشركات تتّسق مع نسب الضريبة في غالبية الاقتصادات المتقدمة وتظل أقل من المفروضة في دول مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.
أما تعديل الضريبة على الأرباح، فسيعني أن تكون في شكل شرائح تقترب من شرائح ضرائب الدخل، أي تصاعدية مع ارتفاع قيمة الأرباح، وهو اقتراح يمكن أن يوفر للخزينة ما يصل إلى أكثر من 14 مليار جنيه إسترليني (18 مليار دولار) إضافية سنوياً.
وستعني تلك الزيادات الضريبية على الشركات والأرباح صداماً بين الحكومة وقطاع الأعمال والأغنياء عموماً الذين سيرون أن كل التعديلات الضريبية تستهدفهم أساساً. وستكون تلك الزيادات أشبه بما حدث في الثمانينيات من القرن الماضي حين رفع وزير الخزانة في حكومة مارغريت تاتشر، نايجل لاوصن، الضرائب على الأرباح بنسب تساوي شرائح الضريبة على الدخل.
أصحاب البيوت
وتتضمن زيادة الضرائب على الأرباح إلغاء الإعفاء الحالي للأرباح على الأسهم والسندات وسقفه الآن نحو 15 ألف دولار (12300 جنيه إسترليني) سنوياً وربما مضاعفة النسبة الحالية التي لا تزيد على 20 في المئة لمن هم في الشريحة العليا من ضريبة الدخل لتصل إلى 45 في المئة.
لكن المتضرّر لن يكون الأغنياء فقط الذين يستثمرون ثروتهم في الأسهم، وإنما أيضاً أصحاب البيوت وغيرها من الأصول حين يبيعون تلك الأصول (باستثناء البيت الرئيسي والسيارة العائلية). فالعائد الأكبر للخزينة من تعديل ضريبة الأرباح بالزيادة سيكون من القطاع العقاري، ويمسّ كل بيت في بريطانيا تقريباً، إذ يبلغ حجم أصول قطاع العقارات في المملكة المتحدة نحو 5.09 جنيه إسترليني (6.4 ترليون دولار)، وفي حال زيادة ضريبة الأرباح بعد مراجعة مكتب تبسيط الضرائب في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، يمكن للخزانة أن تحصل على ما يصل إلى 90 مليار جنيه إسترليني (113 مليار دولار) على مدى خمس سنوات.
ومن بين المقترحات التي تمسّ قطاعاً أوسع من البريطانيين يتجاوز الأغنياء إلى الطبقة الوسطى، تعديل الضريبة على التركات بإلغاء الإعفاءات وزيادة الشرائح على ما يتراكم من قيمة يورثّها الأهل لأبنائهم.
ويدور الجدل حول تلك المقترحات منذ شهر مايو (أيار) الماضي حين نشرت الصحف البريطانية وثيقة مسرّبة أعدها مستشارو وزارة الخزانة حول الخيارات المتاحة لزيادة الحصيلة الضريبية. وتضمنت وقتها خيارات عدة لم تستبعد حتى رفع الضريبة على الدخل. وبحسب تلك الخيارات، فإن زيادة الضرائب على الدخل بنسبة 5 في المئة وبعض الإجراءات الأخرى كتجميد رواتب القطاع العام لمدة عامين وإلغاء الامتيازات الضرائبية لمعاشات التقاعد يمكن أن يوفر للخزينة العامة ما بين 25 مليار جنيه إسترليني (30 مليار دولار) و30 مليار جنيه إسترليني (37 مليار دولار).
إلّا أن زيادة الضريبة على الدخل لا تعدّ فقط تخلّياً من جانب حزب المحافظين عن تعهداته القوية في برامجه الانتخابية بعدم زيادة الضرائب، وإنما تعني رد فعل واسع النطاق لعشرات الملايين من البريطانيين يكلّفون الحكومة ربما ما يكفي من الأصوات لتخسر أي انتخابات مقبلة.
وحين طالب زعيم حزب العمال السابق جيريمي كوربن في الحملة الانتخابية للانتخابات الأخيرة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي بزيادة الضرائب على الأرباح وعائدات الأسهم بالقدر ذاته المفروض على الدخل ورفع ضريبة الشركات إلى نسبة 26 في المئة، اعترض المحافظون وقتها بشدة واتهموه بأنه معادٍ لتنشيط الأعمال والنمو الاقتصادي.
لكن الرسالة التي أرسلها وزير الخزانة ريشي سوناك الشهر الماضي إلى مكتب تبسيط الضرائب، يطلب فيها إجراء مراجعة للضرائب على الأرباح من حيث نسبها المختلفة وحزم الإعفاءات ومدى اتّساقها مع الغرض منها وأيضاً مع الضرائب الأخرى، كانت تعني أن حكومة المحافظين مستعدة للتخلي عن تعهداتها الانتخابية السابقة لزيادة الحصيلة الضريبية في مواجهة العجز الهائل.
وعلى الرغم من أنه لا يوجد قرار بشأن تلك الزيادة الضريبية حتى الآن، إلّا أن الحكومة لا تملك خيارات كثيرة لزيادة عائداتها لسدّ العجز وتمويل الإنفاق. وبحسب ما ذكرته الصحف، يبدو أن رئيسها بوريس جونسون يعارض تلك الزيادات الضريبية ويطالب وزراء حكومته بالبحث عن طرق أخرى مثل تقليل الهدر في الوزارات والإدارات الحكومية.
ويتّفق بعض الاقتصاديين مع الرأي بأن تلك الزيادات الضريبية قد لا تكون الحل الأمثل في وقت الركود العميق لأنها ربما تحبط أي نمو محتمل وانتعاش اقتصادي. وهؤلاء أصحاب نظرية أن تنفق الحكومة أكثر، ولو بالاقتراض، لإنعاش الاقتصاد لأن النمو الكبير هو الكفيل بسدّ فجوة العجز في الحسابات العامة للخزينة.